الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-صباحية عامل تنظيف- للشاعر أسامة الخوَّاض-دفع الله حماد حسين*

أسامة الخوّاض
(Osama Elkhawad)

2012 / 6 / 28
الادب والفن


"وكلما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبة"
محمود درويش

وقبل أن ترمي تلك العاصمة الشاعر محمود درويش بالحقيبة كانت بالنسبة له المحطة الأخيرة " بيروت خيمتنا الأخيرة" ولكنها الآن تفتح ذراعيها لتحتضن الغازي المحتل:

" أرى مدنا تتوج فاتحيها
و تصدِّر الشهداء كي تستورد الويسكي"

كان درويش يتوق إلى أن تصبح بيروت الخيمة الأخيرة للفارس المتعب والذي كانت تتقاذفه المنافي.
إن العواصم لا تستقر على حال ولا الشاعر على استعداد لكي يبدل جلده كما تفعل الحرباء، فالإنسان المسافر فى داخل الفنان يهجس دائما بالرحيل حتى لو توفرت له كل أسباب الدعة فيظل هاجس السفر يقض مضجعه ويلح عليه أن أحمل عصا الترحال حيث ارتياد العوالم الجديدة لاستكناه ما وراء هذه العوالم وقد حاول شاعر السودان التيجاني يوسف بشير في الثلاثينات من القرن الماضي السفر إلى ارض الكنانة للاستزادة المعرفية ولكن ضيق ذات اليد قد قعدت به عن بلوغ مبتغاه وعن تحقيق حلمه الثقافي المعرفي فقد كان يتوق إلى الوقوف على شاطئ المنبع ولما لم يتحقق حلمه ظل يردد متحسرا:
كلما أنكروا ثقافة مصر كنت من صنعها يراعا وفكرا
جئت في حدها غرارا فحيا الله مستودع الثقافة مصرا
نضر الله وجهها فهي ما تزداد إلا بعدا عليَّ ويسرا


لكن " ليت السفائن لا تقاضى راكبيها عن سفار " كما يقول بدر شاكر السياب وهو طريح الفراش في المشفى الأميري بالكويت وهو يتطلع إلى الضفة الأخرى من الخليج حيث مراتع الصبا في بلاد الرافدين أما هو

"غريب على الخليج"
ليت السفائن لا تقاضى راكبيها عن سفار
وا حسرتاه فلن أعود إلى العراق
وهل يعود
من كانت تعوزه النقود؟ وكيف تدخر النقود
وأنت تأكل إذ تجوع؟ وأنت تنفق ما يجود
به الكرام على الطعام؟
لتبكين على العراق
فما لديك سوى الدموع
وسوى انتظارك ، دون جدوى للرياح وللقلوع

أما الإنسان المسافر داخل الشاعر أسامة الخواض فقد جاء في زمن عولمة الأحزان والأحادية القطبية وشاءت الصدف أن تكون أولى محطاته بيروت وأن يلتحق بمبنى " الجفنور" كعامل نظافة ويشاركه في العمل صديقه الفنان التشكيلي عمر دفع الله.
إذن لوحتنا الآن تضم فنانا وشاعرا يقومان بنظافة الفندق لاستقبال النزلاء من ذوى اليسار في تلك المدينة التي احتضنت في السابق أرتالا من الشعراء والأدباء والفنانين وألهمت العديد منهم والقائمة ستطول إذا ما حاولنا استعراضها فقد كان ذلك قبل نشوب الحرب الأهلية اللبنانية وقبل أن تهاجر المطابع إلى لارنكا في قبرص وغيرها من الأماكن الآمنة . قبل ذلك كان الأدباء من كل الدول العربية يقصدون بيروت لطباعة أعمالهم الأدبية وللقاء النقاد والمترجمين . جاء أسامة الخواض إلى بيروت الجديدة التي غاب عنها وجهها القديم واندثر‘ فماذا وجد في بيروت الشائهة:

فى بيروت
مستشفى وجامعة،
ورافعة وخافضة،
وقابضة وباسطة،
وشوملة وعولمة لأحزان الخليقة

رأس بيروت حيث يقع مستشفى الجامعة الأمريكية ويفصل سارع "بلس" بين مبنى الجامعة الأمريكية ومستشفاها ،وعلى بعد أمتار قليلة في موازاة شارع " بلس " يوجد شارع الحمراء الذي طبقت شهرته الآفاق والذي كانت مقاهيه ومطاعمه قبلة الشعراء والأدباء والفنانين في ما مضى والذي توجد به القاعة الزجاجية حيث يقام معرض الكتاب السنوي والذي تتبارى دور النشر بعرض الجديد والقديم.
ومن بين معالم ذلك الشارع مبنى " البيكاديلى" حيث تصدح فيروز كل مساء حتى في أيام الحرب كانت فيروز تعطر ذلك الشارع الخرافي ملهم الفنانين وقبلتهم ذلك الشارع الذي كان يستدرج الفنانين من أقطار الأرض إلى القدوم إلى بيروت قبل أن تتفجر الصراعات الطائفية والمذهبية وتحيل ذلك الشارع
غلى ركام وخرائب ينعب فوقه البوم حيث يفكر قاطن بيروت الشرقية كثيرا قبل عبور الخط الأخضر وكذلك قاطن بيروت الغربية ولما يقال الداخل مفقود والخرج مولود. يتم الخطف والتصفية الجسدية على الهوية بدم بارد
وقد راح ضحية تلك الفوضى العديد من المفكرين على رأسهم العالم: حسين مروة صاحب موسوعة النزعات المادية فى الفلسفة العربية والإسلامية. دخل عليه مسلحون فأردوه قتيلا دون أن يرف لهم جفن.
مرّ الشاعر أسامة الخواض ببيروت وهى خارجة من حرب أرهقتها وأرقتها وتركت بصماتها على حياة البيروتيين على شكل ندوب غائرة.
وطأت أرجل الشاعر بيروت وهى تشك في كل طارق وتحمل الغرباء الوزر الأكبر في ما ألم بها فما زالت المخلية البيروتية تختزن أصوات زخات الرصاص بين الفرق المتنافسة بين الأزقة والحواري وهدير المدافع على الخط الأخضر الذي يفصل بيروت الغربية من بيروت الشرقية.
جاء الشاعر وقد تفرق أسلافه الشعراء فمنهم من غيبه الردى ومنهم من "رمته بالحقيبة" ومنهم من بقى على الأرصفة يجتر أحزانه. إذن فقد انفض السامر وانفرط العقد النضيد.
أقفرت مقاهي بيروت من البياتي وخليل حاوي
ونزار قباني ودرويش والماغوط والفيتوري و ادونيس ...الخ.
الشعر في بيروت اليوم سلعة كاسدة لا أحد يحفى بها في شارع الحمراء وما عليك يا أسامة الخواض إلا انتظار الأسطورة الفينيقية – عنقاء تخرج من بين الرماد –وقد يعينك على الصمود في وجه جفاف الحياة الرفيق الفنان في زمن لا يعرف " محبرة الألوان " هذا زمان سيادة فوهات البنادق ولترفع التحية – أن شئت – لشخصك:

صباح الخير لي
لأسامة الخواض في هذيانه العدمي
لقرينه المشّاء فى نسيانه العدمي يبحث عن وطنْ
صباح الخير للاثنين،
ينفصلان،
يتحدان،
يفترقان،
في لغزٍ بهيمٍ لا يُحدْ
ذلك المسمى بالأبدْ
صباح الخير "للجفنور " في إيقاعه المترفْ
صباح الخير يا كيس القمامة
صاحبي،
وملاطفي،
ومؤانسي في عزلتي
صباح الخير للمنفى

ولأنك جئت بيروت في هذا الزمن الرديء وما تحمله من شعر يُعد سلعة خاسرة ، ولن يرد عنك غائلة الجوع غير كيس القمامة في منفاك وحتما سينأى بك عن ذل السؤال: " عولمة لأحزان الخليقة".
عولمة الأحزان تلوح في الأفق ، تدق الأبواب ، هي جزء من الهموم اليومية للمثقف العضوي حيث يتم التصدي لها بمختلف الأشكال. هي بالطبع لا تقف مكتوفة الأيدي فترسانتها تدور.
جاء أسامة الخواض في هذا الزمن العربي الرديء، زمن طغيان العولمة المؤمركة، جاء إلى سويسرة الشرق – بيروت – فوجدها أفرغ من فؤاد أم موسى ، خلت شوارعها ممن كان يثرى ساحاتها بالإبداع في شتى فنون المعرفة حيث صارت فوهة البندقية هي اللغة السائدة وإن بدأت تنحسر عندما وطأتها أقدام الشاعر ‘ هو الآن يسير في شوارعها لعله يجد قبسا أو يشتم رائحة مفردات الأسلاف التي علقت بشوارعها في قديم الزمان . بيروت اليوم ما عادت بيروت التي حلم الشاعر بمعانقتها ومعانقة أنفاس أجداده من الشعراء والذين لازالت أنفاسهم تتردد في جنباتها:

أهاجر مثل أسلافي إلى حلم بعيد
أقتفى أنفاسهم
وأحس نبضهم على الصخر العنيد

لقد ألم بالشاعر داء الترحال الذي كان ديدن أسلافه الذين حملوا مشاعل الثقافة العربية والإسلامية إلى مجاهل أفريقيا‘ وها هو اليوم يعود في هجرة عكسية :

ولكنى أنا المشّاء البس جبة الزّهَّاد
أفتش عن يقين ضاع في ترب البلاد
وعن بهاء ضاع من أيام عاد

أسامة الخواض في تجواله يبحث عن " اليقين " وعن " البهاء "، مرتديا جلباب زاهد وهو ليس كالشاعر الفرنسي " رامبو " الذي رمى ريشة الفنان وغادر بلاده إلى إثيوبيا وعدن وصمت عن كتابة الشعر ويتهمه البعض بأنه عمل في تجارة الرقيق الأبيض أو بغيرها.
أسامة صاحب قضية في جلباب زاهد يحمل الخرطوم بين حناياه وظلت الخرطوم هاجسه في الحل و الترحال‘ في الصحو والمنام:

أنا لست رامبو كي أرى وطني سرابا
ولكنى أنا المشّاء احمل وردتي الخرطوم من منفى إلى منفى
وأصرخ، إنها الخرطوم، تركض في مسامي
وانتصاري وانكساري

ويؤلمه أن تتحول الخرطوم المسالمة، ملتقى الثقافات العربية والإسلامية والأفريقية الزنجية التي صهرت كل تلك الثقافات في بوتقة واحدة وأنتجت إنسانا منسجما ومتسقا مع نفسه ومتفاعلا مع محيطه العربي والأفريقي . أما الآن بعد مجيء الإنكشاريون الجدد أصبحت الخرطوم موئلا يضج بالأفغان العرب . لقد فتح لهم الباب ليلجوا إليها عبر بوابات الاستثمار وغيره :

هذه الخرطوم ما خلقت لأفغان العرب
و ما دهنت لتجار المنابر،
ما زهت بجلافة الريفي والوعاظ،
ما بسطت لتكديس السلاح

ومن "منفى إلى منفى" تتناص مع أقوال كثير من الشعراء فذاكرة الشعر العربي مليئة ب / من منفى إلى منفى/ من مقهى إلى مقهى/ من مبغى إلى مبغى/من مشفى إلى مشفى/....الخ.
ونعنى بالتناص تولد النص من نصوص أخرى، أي تداخل النص مع نصوص أخرى أو إعادة إنتاج لنصوص أخرى، فقد ورد نص / من منفى إلى منفى/ لدى العديد من الشعراء ولا مانع من إعادة إنتاجه لإحداث الزخم المطلوب في اللوحة الشعرية.
وتبقى مدينة الخرطوم عند أسامة الخواض ك/جيكور/ عند شاعر العراق بدر شاكر السياب، ويحدث ذلك عندما يفقد الإنسان " دفء العشيرة في بلاد تكاد تموت حيتانها من البرد" كما يقول الطيب صالح في " موسم الهجرة إلى الشمال".
________________________________________
*كاتب سوداني
نشر المقال في الرابط التالي بموقع "سودانيات":
http://sudanyat.org/vb/showthread.php?t=11592








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي


.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض




.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل


.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا