الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحمامة

احمد الحاج علي

2005 / 2 / 9
الادب والفن


في اللحظة التي ضغط فيها الصياد على الزناد . انطلقت الطلقة . باتجاه برج الحمام البري . يصحبها صوت صاعق . فاصطدمت بواجهة البرج الشمالية . طرت انا الحمامة مع الحمام الى الأجواء . مسربلين بخوفنا . درنا في الفضاء حول البرج دورات عديدة . وهمّ السرب بالنزول . يغريه الظل والراحة . لكن الخوف . تركنا نلوب على غير هدى . نعلو . نهبط . ندور دوائرَ كما يدور حصان حول الرحى . وأرواحنا مشدودة الى البرج . رغم كثرة الصيادين ببنادقهم وهي تلمع تحت اشعة شمس نيسان . يتلطى الواحد منهم بين سياج العوسج الذي يحد البرج من الجهة الجنوبية . ومن أقرب مسافة بيننا . يطلق الموت علينا . وفي الصباحات الندية . ينصب الصيادون شراكهم وفخاخهم تحت ظلال أشجار الزيتون واللوز المحيطة بالبرج . ويختبئون داخل قبة قريبة . سكنها أحد الدراويش . ثم صارت مزاراً فيما بعد . فكرت وأنا أطير مع السرب . قلت لنفسي . الأجواء واسعة . والمدى لانهاية له . فكل الاتجاهات ملك جناحيّ لِمَ لا أترك سرب الحمام والبرج وسياج العوسج وأشرد الى اماكن بعيدة أكثر اماناً ودفءً ؟ فأنا لم اعد اطيق البرج لما لاقيت فيه من خوف ورعب ، فمازلت أذكر تلك الكارثة التي كادت تودي بحياتي وحياة اخواتي الحمامات ، أستعيد تفاصيلها . كلما أطلق صياد طلقة . او كلما تلبدت السماء بغيوم بيضاء ، او كلما نصب الصيادون فخاً ، أستعيدها من بدايتها المخيفة من اليوم الذي أثلجت فيه السماء خمس نهارات . وخمس ليال ٍ اعتصمنا فيها بطاقات البرج الداخلية . والريح المجنونة . تدور حول البرج ترشقنا بندف الثلج والريح . وهي تعوي كعويل الثكالى. وتصفر صفير أفاعٍ خرافية . والبرد سكن عظامنا . القيامة قامت . يومها لذنا ببعضنا إلتصقت اجسادنا ببعضها . غللنا برؤوسنا تحت الاجنحة الدافئة . رتلنا بهديلنا صلوات لها طعم الخوف . إنقض علينا الجوع . قتل فراخنا الصغيرة ، وهدّ أجنحتنا . رحنا ننوح كما تنوح الامهات على قبور أبنائهن . خمسة أيام كأنها الدهر . مجنونة من تجرؤ وتخرج للبحث عن حب تقتات به . والعاصفة تزغرد لانتصارها المجنون .
في اليوم السادس . صحت السماء . والعاصفة اختبأت في كهوفها الاسطورية البعيدة . والشمس الخجلى راحت تحبو صاعدة قبة السماء . مشينا . كما دبيب العجائز المتعبة الى الطاقات المواجهة للشمس . لنرى بأعيننا الذابلة مقدرتها على إلتهام البساط الثلجي الأبيض . ولنشرب الدفء من أشعتها . نفشنا ريشنا . رفرفنا بأجنحتنا المتكسرة بعد أن سرى الدفء فيها . وطرنا خائفين . لنفتش عن قوت نقتات به. كان الثلج مايزال مسيطراً على السهول والاشجار وأسطح المنازل والطرقات . وغير بعيد عن البرج وتحت شجرة لوز لمحتها ، حبة قمح بلون الذهب على طبق هائل من الفضة . سال لعابي . والجوع كافر وبدون تفكير . نقرتها . ياللهول . اطبق حديد الفخ على رقبتي كمقصلة فرفحت روحي . ضربت الثلج والصقيع والريح بأجنحتي المنهكة . طبق الفضة المنبسط حولي . تحول الى ملاءة سوداء . قاتمة بلون الليل . نفذ الثلج الى عظامي . تصقع جسدي ، وقلبي فاض تعباً ورعباً وبرداً وليلاً ، كاد يستسلم للقدر المقتدر . بل استسلمت للموت . هكذا خيل لي ، غبت عن الوعي ، كم من الوقت لا أدري . وعندما صحوت كان الفخ عالقاً بشجرة ورد صغيرة وأنا بعيدة عن الفخ .
عندما استعادت ذاكرتي هذه القصة . كنت قد إبتعدت عن السرب الى مسافات غير بعيدة عن البرج . كنت أطير على غير هدى . لأتخلص من خوفي . لكن الخوف كان يطير معي أينما طرت . الخوف من طلقة متوحشة . تصيب القلب . فأغتسل بدمي الدافئ القاني كشفق الغروب . وتفرفح الروح . ثم يرقص الجسد رقصة الاستسلام المذبوح . أفٍ من هذا الكابوس . يبدو أني لن أستطيع التخلص منه . ولكني سأجرب . أحاول . فالمرء لايستطيع رؤية ماحوله والخوف يطير معه . حتى لو كان محلقاً في الاجواء . . . بدأت بترتيل صلوات لاتنتهي . صلوات صامتة . لاتشبه صلوات الناس . ورتل قلبي دعاءً ماأن انتهيت منه حتى غرغرت عيوني بدموع الاطمئنان ، ونفسي القلقة الملتاعة تصالحت مع نفسي . عندها بدأت أرى وأحس ما حولي ، كانت الوهاد منمنمة بعشب البراري وأزاهيره المضيئة كنجوم متألقة . راق لي المشهد . فردتُ جناحىّ ونزلت من عُلوِي مختارة لأرى تفاصيل هذا الجمال أمامي . ياللبهاء المستبد . براعم الورود . وشقائق النعمان . مطرزة الفيافي الخضر وعبقها المنتشر في الاجوء أعطاني الثقة بنفسي . رحت ألوب في المكان منتشية . مطمئنة . كان خالياً من الصيادين . مليئاً بالعصافير والفراشات ، أغواني المكان . راودني عن نفسي . تمنيت أن أسكن فيه . لكن قربه من البرج أفزعني ، وعاد الخوف يخيفني . صفقت بأجنحتي وطرت والخوف يطير معي ، ويدفعني للتحليق للوصول الى أماكن أكثر أماناً . غرّبت عابرة التلال الصاخبة بزقزقة العصافير . والوديان الصامتة . والجبال المتوحدة بجبروتها . والفيافي الفقيرة . والأرياف الكسلى . فجأة دَوَّتْ طلقة عندما كنت أعبر احدى القرى ، تيبست جناحي في الهواء . ماعدت قادرة على تحريكهما . انساب جسدي يحمله الهواء ، اقتربت من القرية . شاهدت بعيوني الحائرة زواريبها وممراتها الضيقة القديمة . ورأيت بشراً يقتتلون . يلوحون بأيديهم في الهواء وهم يتشاتمون . يختفي بعضهم في الزوايا الخفية . يتربصون ببعضهم . وهم يحملون بنادقهم التي تلمع تحت الشمس . يقبضون بقبضاتهم على عصي غليظة ، يتحفزون ، يتشهون الدم . والنساء تولول فزعة . والاطفال يبكون . والعصافير تطير فزعة . ثمة رجل ملقى على الأرض ، مغتسل بدمه ، إذن الطلقة اصابته . حزنت . تألمت . شتمت . كفرت .امتلأت قهراً ، ووليت عائدة الى برج الحمام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسرة الفنان عباس أبو الحسن تستقبله بالأحضان بعد إخلاء سبيله


.. ندى رياض : صورنا 400 ساعةفى فيلم رفعت عينى للسما والمونتاج ك




.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في


.. تأييد حكم حبس المتسبب في مصرع الفنان أشرف عبد الغفور 3 سنوات




.. عاجل .. إخلاء سبيل الفنان عباس أبو الحسن بكفالة 10 آلاف جنيه