الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في أنشودة النقيق للكاتب المسرحي راهيم حسّاوي

صباح الانباري

2012 / 6 / 30
الادب والفن


قراءة في أنشودة النقيق
للكاتب المسرحي راهيم حسّاوي

في هذه القراءة كما هو الحال في قراءاتي السابقة سأبدأ من عنونة الكتاب (أنشودة النقيق) والتي بنيت على مفردتين شبه متضادتين: الأولى تجترح طريقة في الغناء الشعري القائم على أساس تناغم ايقاعاتها، وانسجان مفاصلها وانساقها، وعذوبة موسيقاها، والثانية تعتمد التصويت الرتيب، والايقاع المتناثر، والصوت الجماعي الذي يشتغل على النقة وتكرارها. حرص الكاتب على دمج المفردتين لتوليد معنى يضفي تلطيفا جماليا على صوت النقيق للوصول الى غاية في ذاته يحاول الوصول اليها من خلال النص.
عموما يمكن ان نسجل هنا انطباعنا عن المتن استنادا على العنونة فنقول أننا سندخل الى عالم لا يخلو من الازعاج، ومن الشعور بالضيق جراء النقيق المستمر، وهذه كلها احكام مسبقة صادرة عن موحيات العنونة التي سنجد انها تشكل بنية مركزية في فكرة النص. وسنجد أيضا أن الكاتب استنفر كل طاقته لابراز حجم الانشودة، أو ضخامة النقيق الذي لم ينفك الحوار يردده في أغلب صفحات المسرحية. وفي العنونة ايضا ثمة جانب مجهول عمل على استفزاز رغبة القراءة لاستكشاف خفايا الفكرة وجوانيتها.
المسرحية تقوم على ثلاث شخصيات أساسية:
(العجوز) ويتحدد دوره الرئيس في الاشتغال على تجارب عديدة للوصول الى (خلطة النقيق) في كوخ منعزل عن الأماكن المأهولة لانقاذ البشرية من الوباء الذي اكتسحها مسببا شعورا متفاقما بالوحدة.
(الخادمة) وتحدد دورها في ايصال رسالة العجوز (أخبار الخلطة) الى الناس لمنحهم الأمل في الشفاء من هذا الوباء العام لكنها تعكس الحالة فتدعي انها هي من يقوم بالعمل على الوصول الى هذه الخلطة العجيبة.
(الأعرج) وهو واحد من العامة يعاني من الوحدة ومن ظهور ما يشبه الحصى في بلعومه فيلتجأ الى (الخادمة) أملا في شفائه باستخدام خلطة النقيق الذي وعد بها لكنه يلاقي حتفه على يد العجوز.
الشخصيتان المركزيتان (العجوز والخادمة) استنفدتا مساحة الحوار المخصص للفصل الأول الذي انتهى بغياب الخادمة (موتها) وبقاء العجوز لاكمال دوره في الفصل الثاني مع شخصية الاعرج وبقية الوافدين الى منطقته قرب مستنقع الضفادع. شخصية العجوز غير متوازنة، مربكة، مضطربة ومتناقضة، وقلقة تستبدل اهدافها، وتغير غاياتها على وفق ما تمليه عليها حالتها وموقفها اجتماعياً وسايكولوجياً. لقد اشتغلت الشخصية على انجاز (خلطة النقيق) من اجل استمرار البشر ولكنها في النهاية تضطر الى قتلهم بعشبة سامة وبطريقة تنطوي على مكر وكيد عظيمين. وهي شخصية غير سوية جانحة نحو القتل واستغفال البشر والحاق الاضرار بهم حتى وان لم يقترفوا فعلا مستهجنا. أما الخادمة فتبدو اكثر توازنا واعظم مكرا. وهي تحمل عقدة الشعور بالصغار، وتعمل على صعود سلم الرقي بدهاء لبسط نفوذها على الجميع، والاعلان عن نفسها كأميرة أو ملكة للنقيق. وتستطيع هذه الشخصية بدهائها ان تستأثر لنفسها بـ(انشوة النقيق الأخير) وبذلك تحرم العجوز من بلوغ هذه الغاية.
ولكن ماذا عن النص؟ هل استطاع على ضوء المتوفر من المعلومات عن شخصيتي المسرحية ان يحقق هدفا ما؟ غاية ما تشي باهميته كنص معاصر اشتغل على حياة البشر ومصائرهم؟ والى اين يشير رأس السهم فيه؟ هل يشير الى الخلاص والانقاذ؟ ام الى التدهور والانحطاط؟ أم الى المجهول من الغايات والاهداف؟ دعونا نستبطن أغواره القصية، وامداءه الوجودية، ومرتكزاته العبثية وجنوحه الفلسفي الدائب الى العدم.
في مفتتح النص يصف الكاتب مكان الحدث (بعيدا عن الاماكن المأهولة، كوخ ايل للسقوط) في اشارة الى العزلة، والاعتكاف، والانغماس في طقوس الوحدانية بعيدا عن البشر، في مكان سيشهد في النهاية خرابا مبينا. الشخصية اعربت منذ مفتتح النص عن شغفها بالنقيق الذي لم تكتف بسماعه بل اطلقت العنان لحاسة الشم كي تتشبع به لينفذ الى كل خلايا الجسد وكأن النقيق هبة الطبيعة، وعظمتها الاستنطاقية، وتجلياتها الصوتية. وهي لهذا وبه تبدو غريبة غير مألوفة، وخارجة عن موسقة تصويتاتها الحرة. وتبدو الضفادع غاية في الكرم اذ تهب عصارة روحها (النقيق) بلا مقابل. أما الشخصية فتبدو انها تدخر طاقة شعورية سرعان ما تتفجر عن هيامها وعشقها للضفادع فلا تتواني عن كشف ذلك بترنيمة ضفدعية:
ضفدعتي يا حلوة الحلوات
بمنتهى صيغ الجموع أحبك
وحدك أنت تقفين
على باب بيتي
بنقيقك الحزين
امام النايات
عيناك فصلا شتاء ممطر
وجلدك معرض لوحات
ولا يتوقف الهيام بالنقيق عند هذا الحد بل يتسامى الى حد النشوة التي عندها تصبح الشخصية غير مسؤولة عن قراراتها. وفضلا عن هذه الطاقة الشعورية فان الشخصية تعمل في مجال الاكتشافات العلمية التي من شأنها تغيير مسار الحياة البشرية. لقد قامت بـ(4110) تجربة فاشلة املا في الوصول الى النجاح المنشود. ان هذا الكم الهائل من التجارب يشي ان الشخصية مخلصة لعملها ودائبة في الوصول الى علاج أو خلطة هائلة تنقذ البشرية من افتك امراضها الشعور بالوحدة. القاريء من جانبه يجند طاقاته القرائية لمعرفة ما ستؤول اليه هذه التجارب بعد أن تشبعت عيناه بصورة الضفادع، وبعد ان امتلأت اذناه باصوات النقيق، وبعد ان تحمل ما تحمل من احتلال النقيق لمساحات تجاوزت حدودها اللغوية فأدخلت الى قواميسها تعابير غير مألوفة. تقول الخادمة على سبيل المثال:
"سأبقى خادمة لهم بينما هم يرتشفون فناجين من النقيق" ويقول العجوز: "اكتب عن كريات دمي الملونة، وعن سير نقيقهن في دورتيه الكبرى والصغرى" أو قوله: "أنا أريد أن أجد كتابة جديدة تليق بهذا النقيق" أو قول الخادمة: "انه السحر، انه النقيق، سأمضغه حرفا حرفا لينفجر من داخلي نقيقا يتوجني سيدة لأقواس قزح"
هنا وعلى الرغم من حلاوة التعبير، وجزالة اللغة، وتأثير الايقاع تماهى المعنى في اللامعنى، والمحدد في اللامحدد، والشعري في اللاشعري، والشعور في اللاشعور، وصار النقيق فضفاضا لا يرسو على ضفة محددة دون غيرها. إنه هلامي بلا ضفاف، عائم على بركة من التصويت والتصميت، مجترحا مساً في فضاء الوجود، ومساً في فضاء الجنون، وانتقالا بين الواقعي وغير الواقعي.
تقول الخادمة للعجوز:
"أكدت لي ان هذا النقيق هو علاجهم الوحيد، وان اعشاب العالم تعجز عن شفائهم"
ويقول العجوز:
"ان هذا ليس دليلا على فشلي في انجاز خلطة النقيق العشبية، فأنا ما زلت اعمل عليها"
ضمن هذا التصور الواقعي ترقى الشخصيتان الى مناص المعقول فكراً وبناءً فنتابع خطواتهما داخل النص انطلاقا من هذا المحدد الواقعي لكننا نصطدم بجملة افكار تشوش الرؤية، وتضبب البصيرة، وتعتم الواقعي بقفزة فنتازية نحو الجنون. عند هذا نفقد طرف الحبل، ونتخبط هنا وهناك ولا نظفر بذلك الطرف او بأي طرف آخر من الحبل. لنتابع مجريات الحدث ما بعد وصول الناس الى المكان (الكوخ) وكيف تبدل سلوك الشخصية من العمل على الانقاذ الى العمل على القتل:
"لن اموت قبل ان اراكم وقد استسلمتم للوباء الجديد"
لماذا؟ هل لأن الخادمة أرادت موته بشكل طبيعي كي تبني على موته مجدها وتألقها وسيادتها؟ هل لأنها اخبرت الناس عن خلطة النقيق العشبية التي ادعت تحضيرها بنفسها؟ هل لأن (الاعرج) وصل الى المكان الذي يقيم فيه العجوز بتوجيه من الخادمة؟ لا اعتقد أن هذه الاسئلة ولا مسبباتها هي التي حوَّلت الشخصية، وقلبتها رأسا على عقب فأرادت أن تعاقب الجميع باسم خيانة الفرد. فليس ثمة ما يبرر هذا القتل الجماعي مهما بلغت الاسباب المؤدية اليه. الشخصية إذن غير سوية فعلا كما حكمنا عليها. وان المؤلف ارادها هكذا وهذا حقه المشروع ولكن من حقنا نحن ايضا المطالبة بما يبرر افعالها غير السوية في مجتمع ايل للانهيار الذي تنبأ النص به في مفتتحه على نطاق محدود لكنه انفلت من السيطرة فشمل جميع افراد مجتمع المسرحية.

في الفصل الثاني يصل الأعرج الى الكوخ الآيل للسقوط ثم يتبعه بقية من اصيبوا بالمرض نفسه وكأنهم قدموا من اجل الاستسلام طواعية لانهيار الحياة الأخير فتلتقي رغبتهم مع رغبة العجوز الذي سيستسلم طواعية ايضا لسماع نشيد النقيق الأخير فيحظى بمرثيته الأخيرة. مرثية النقيق الذي هام به فأراده أن يكون خاتمة لحياته الطويلة. هاتان الرغبتان وإن بدتا متقاربتين إلا أنهما متباعدتين وان كان سببهما المركزي هو الشعور بالوحدة.
يقول العجوز:
"ليست الوحدة هي أن يعيش الانسان وحيدا، لالا، الوحدة هي أن لا يجد الانسان شخصا يستحق أن يحبه، الوحدة هي أن يولد الانسان ويموت دون أن يجد أباً روحيا له"
وهو لهذا وبسببه عمل جاهدا من اجل انقاذ الناس أو على الأقل هذا ما اكده النص طوال فقراته الأولى والى حد اكتشافه تلاعب الخادمة بفحوى رسالته. يقول العجوز لخادمته:
"هل تظنين أني ألهو، آلاف التجارب، وتلال من التعب، وآلاف من الهزات الدماغية، كل هذا فقط من اجل أن أصل الى خلطة النقيق العشبية التي ستنتشلهم من قاع الوحدة التي هي سبب تعاسات العالم"
ويقول ايضا في المعنى نفسه:
"الوحدة تفتك بهم، ولا أحد يخلصهم منها الا هذا النقيق، إنهم يعيشون الوحدة رغم التزاحم الرهيب في البيوت، والساحات العامة والحدائق."
وعلى الرغم من هذه التأكيدات الملتزمة الا ان الشخصية اخذت مسارا مختلفا كما اسلفت لحظة اكتشافهاحقيقة ما تقوم به الخادمة.
الخدمة :أيعقل ان تقتلني بهذه البساطة
العجوز : أنا بريء من قتلك، العشبة هي التي ستقتلك
الخدمة : (بحرقة ووداد) ولماذا؟
العجوز : لأنك قمت بتمزيق الحرير المتراقص، أردت ان تنشري هذا الاكتشاف على انه سحرك انت"
الخادمة : لكنك سقيتني العشبة السامة قبل ان اعترف لك
وتتكرر عملية القتل مع الأعرج بالطريقة نفسها قبل أن يتوافد الناس زرافات الى المكان وهم يشعرون بالاختناق. يسقط الجميع فيتوسطهم العجوز مطلقا " ضحكاً مختلف الألحان، تختلط ضحكات الجموع بحشرجات وانين واصوات تشبه النقيق" وهذا ما اراده العجوز بالضبط في خاتمة المسرحية، وشكل نبوءة كابوسية لكاتب (إنشودة النقيق) راهيم حسّاوي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة