الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلفريده يلينك والعاشقات

سعد محمد رحيم

2012 / 7 / 7
الادب والفن


هي إنطوائية لأنها مفرطة الحساسية، وخجولة، وغاضبة على العالم، وتمقت الشهرة.. مكروهة في بلدها، تشهِّر بها الصحافة وتنعتها بالعجرفة والتعالي، وتخرج التظاهرات المعادية ضدها لأن صراحتها جارحة حين تكتب، تضع المرايا أمام الآخرين ليروا أنفسهم في عريهم وقبحهم واختلال منظومتهم الأخلاقية.. تُذكِّر مجتمعها النمساوي بتاريخها النازي والفاشي المخجل، إذ تتحدث عمّا تسميه بالخبث النمساوي اللامعقول حيال التاريخ.. تقول في حوار عبر الإنترنت أجرته معها جمانة حداد ونشرته في ملحق جريدة النهار البيروتية: "لقد أنهكتُ نفسي في محاربة هذه البلاد ومواقفها الكاذبة اللامحدودة إزاء تاريخها". وهذا لا يعني قطعاً أنها تزدري بلادها، بيد أنها وبجرأة قل نظيرها تعترف: "لا أملك شعورا وطنيا إزاء بلادي. إنه لأمر مؤلم، وربما من ذلك الألم والقلق أستمد توتر الكتابة".
متهمة بكتابة ما هو فضائحي ومثير وبورنوغرافي وخارق للمحرمات.. متحفظة في سلوكها، وحريصة حد الغيرة على خصوصياتها الحياتية الحميمة. ولها آراءها السياسية المعلنة، وقد هاجمت في كتابها ( عالم بامبي/ 2003 ) السياسة الأمريكية وحربها في العراق. تعادي الطبقية واليمين المتطرف والاستبداد، وموضوعاتها الأثيرة في الكتابة هي العنف لاسيما الموجّه ضد المرأة، والجنس، والسلطة الذكورية، والسيطرة بأشكالها. من هنا انصب اهتمامها على تناول ثيمة الجسد بعدِّها إشكالية فكرية وحياتية وسياسية. إذ يغدو الجسد ( وفي ذهنها الجسد الأنثوي ) موضوع السلطة وهدفها. يُمتلك، ويُستلب. يُشتهى ويُستحوذ عليه، ويُنتهك.. يكون مادة للتلصص والاستمتاع والاعتداء وممارسة العنف السادي. والمرأة، بحسب وجهة نظرها، ليست مؤهلة، تحت ضغط الشروط الاجتماعية والتاريخية الحالية، للكتابة البورنوغرافية، حتى هي نفسها، وباعترافها، فشلت في تحدّيها لإنجاز مثل هذه الكتابة.. تقول: "الرجل هو من يصنع البورنوغرافيا، أما المرأة فهي على الأكثر الهدف الصامت للنظرة الذكورية". والمرأة، مثلما ترى، لا تملك نفسها.. ليست راغبة، بل مرغوب فيها.. إنها صورة لفّقها الرجل، وهي نتاج مواضعات اجتماعية وعلاقات سلطة. تقول: "إني أكره السلطة التي يمثلها الرجل. أنا ضحية على غرار كل النساء. قد لا أكون ضحية رجلٍ يضربني أو يغتصبني، لكني ضحية الثقافة البطريركية الأبوية، التي لا تقل عنفا عن الفرد المعتدي، إلا أنها توجه ضرباتها بخبث وسلاسة". وقد يكون رأيها هذا متطرفاً ومبالغاً فيه، لكنها، في النهاية، قادرة على رصد ميكانزمات السيطرة الاجتماعية في المجتمع الطبقي، حتى مع شيوع الحريات الليبرالية.
ولدت الفريدة يلينك في العام 1948 لأب تشيكي يهودي وأم ألمانية كاثوليكية.. درست الموسيقى في سن السادسة وتعلمت العزف على البيانو والأرغن والكمان، وفي الجامعة تخصصت بدراسة المسرح وتاريخ الفن. ويعود الفضل في اختيارها الكتابة جزئياً إلى والدها العالم الكيميائي، الاشتراكي، المغرم بالمناقشة والتحليل، تقول؛ "أظهر لي باكراً لذة التعاطي مع الكلمة" إلا أن اندفاعها نحو الكتابة كان رد فعل إزاء سطوة والدتها البرجوازية التي كانت تجبرها على تعلم العزف.. تقول: "اخترت الكتابة لأنها الشيء الوحيد الذي لم تحرّضني عليه". وهنا تتجلى قوة روحها الجامحة والمتمردة.. وهي كاتبة لها قضيتها، وتدرك لِمَ تكتب ولمن توجّه خطابها: "أريد أن افعل كل ما في وسعي لفضح كل أشكال التمييز في العالم، لأننا عندما نكره الآخر نكون نكره ذواتنا خصوصا. وعندما أكتب، أحاول دائما أن أكون إلى جانب الضعفاء.. جهة الأقوياء ليست جهة الأدب". غير أنها لا تتوهم بوجود قدرة هائلة للكتابة يمكنها تغيير واقع حال العالم.. تقول: "وآأسفاه، لا أنتظر الكثير من الأدب، وهو بالتأكيد عاجز عن تغيير العالم أو المجتمع في المعنى الذي يقصده ماركس مثلا في المانيفست الشيوعي. أقصى ما يمكنه فعله هو شحذ الوعي وتسنينه". وللكتابة عندها بُعد حسّي، حميمي، ممتع، وتكاد تكافئ فعل الحب.. تقول: " يخامرني شعور حميم وحسّي للغاية عندما أكتب نصوصي، حدّ أنني إذا قرأتها لنفسي بصوت عال أشعر أنني أتعرى". والكتابة عندها "تتطلب انفعالا شهوانيا، وهي متنفس للدماغ، الذي "يقذف" كي لا ينفجر، تماما كما يحصل لحظة الذروة الحسّية".
الفريدة يلينك كاتبة استثنائية لا تشبه أيّاً من كتّاب عصرها والعصور السابقة. لها لغتها المرهفة والثاقبة التي تخترق السطح الخشن للواقع كاشفة عن أعماقه بكل ما يجيش فيها من عنف وظلم وتناقضات. تقول: "إذا ضربنا اللغة بالقدر اللازم من العنف، فلا بدّ من أن تخون أيديولوجياتها وطبيعتها الكاذبة ووعيها المزيّف".
العاشقات:
تكسر إلفريدة يلينك، بتعمد، بعضاً من أهم قواعد فن الرواية في روايتها ( العاشقات/ ترجمة مصطفى ماهر.. الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 2006 ). وتمارس تقنياً، مع سبق الإصرار، ما يعد عيوباً في الكتابة الروائية. لتخرج بنص مدهش، مقنع، وعميق. وكأنها تريد أن تقول لنا؛ بأن لا قواعد قارّة نهائية في نطاق هذا الفن الإبداعي المفتوح على مقترحات لا نهاية لها، ولكن بشرط واحد هو أن يكون من يقدم على مثل هذه المغامرة ذو موهبة حقيقية، ومتمثلاً لتاريخ تطور أساليب السرد الروائي، مع رؤية رصينة، وقدرة على بناء نص لافت، وثقة عالية بالنفس، واحترام لذائقة القراء. وأزعم أن يلينك تمتلك هذه المواصفات وأكثر.
وأول ما تقترفه يلينك من إزاحة في روايتها أنها تتدخّل في سياق النص الروائي ( تدخّل الراوي العليم ). وأنها ثانياً تصدر الأحكام القاطعة على شخصياتها. وأنها ثالثاً تستبق الأحداث، فتعلمنا عمّا سيحصل لاحقاً. وأنها رابعاً تخرج من الشكل التقليدي للسرد فتبدو، أحياناً، وكأنها تكتب مقالة أو تحقيقاً صحافياً. وإذا كانت هذه التجاوزات على تعاليم كلاسيكيات النقد الروائي تفضي إلى نصوص فجة وشاحبة ومختلة على يد أنصاف الموهوبين من الروائيين فإنها على يد يلينك تتحول إلى مزيّة، فتمنحنا معها نصاً متماسكاً، مثيراً، رائقاً، متدفقاً، ممتعاً، ومقنعاً.
تتضمن ( العاشقات ) روايتين/ حكايتين في إطار بنية روائية واحدة.. روايتان/ حكايتان تسيران في نسق متوازٍ من غير أن تتداخلا إلا مع التطفل المحبب للراوي العليم حين يقوم بإجراء بعض المقارنات بين شخصيات الحكايتين.
الحكاية الأولى تخص العاملة في معمل الخياطة بريجيتّه الساعية للزواج من هاينتس، عامل الكهرباء، وهي تحلم طوال الوقت وتخطط من أجل إيقاع هاينتس في شباكها. فالخيارات أمامها ضئيلة، في مجتمع ذكوري، حتى وإن كنّا نتحدث عن عالم الغرب الليبرالي، المتقدّم؛
"هاينتس شيء، بريجيتّه لا شيء... هاينتس لا يمكن تبديله، وكثيراً ما يحتاج إليه الناس أيضاً... بريجيتّه يمكن تبديلها بغيرها ولا يحتاج إليها أحد. هاينتس له مستقبل، بريجيتّه ليس لها حتى حاضر".
في الحكاية الثانية هناك باولا العاملة، هي الأخرى، في معمل الخياطة، والهائمة بإيريش قاطع الأخشاب.. تصوّر لنا يلينك تفاصيل تلك العلاقة الهشة بين الأثنين؛ "حب إيريش للدراجات البخارية السريعة والسيارات الرياضية في مقابل حب باولا لإيريش ولبيت خاص. حب إيريش للسرعة في مقابل حب باولا للحياة ولإيريش. وكلاهما شيء واحد بالنسبة لباولا".
تحكي يلينك في روايتها وبأسلوب ساخر ومرير عن محنة النساء وتعرّضهن للعنف والاضطهاد والاستلاب، مع رضوخهن السلبي للمواضعات الاجتماعية، ولما حُدِّد لهن من أدوار وضيعة في الأسرة والعمل، تلك التي تهمشهن وتشوّه أرواحهن، وتجعلهن أسرى للحظ وأهواء الرجال. فبريجيتّه التي هي لا أحد تريد أن تكون أحداً من طريق حصولها على هاينتس، الذي تكرهه، زوجاً. بالمقابل هناك باولا المغرمة التي ترى في إيريش خياراً وحيداً متاحاً، فيما "المنفعة التي يمكن أن تجنيها من إيريش لا يمكن أن تعادل الضرب المبرح الذي سينهال به إيريش عليها". والشخصيات النسائية، عموماً، يعشن في عالم محطّم، لا يعبأ بهن، من هنا تكاد قدرتهن على الحب الحقيقي المتكافئ والحر والإنساني أن تكون معدومة. وها هو الراوي يخبرنا جازماً؛ "ونحن لم نصف الحب بين إيريش وباولا لأنه لم يكن له وجود".
وتحمل الرواية رسالة أخلاقية لا يمكن تخطئتها وإن كانت مضمرة، وهي رسالة تقف بالضد من أخلاقيات المجتمع البرجوازي القائم. ناقدة في جوهرها وصادمة، تفكك بوساطة السرد الروائي الأنماط التقليدية للعلاقات القائمة بين أفراد المجتمع لاسيما بين الرجل والمرأة، وتعرّي ما يتسم به المجتمع من قسوة وفظاظة ونفاق.
تقوم الروائية أحياناً بأنسنة الأشياء، وإنطاق المجردات؛ "الخِياطة تحزم الآن حقائبها. إنها تريد أن تلحق آخر أوتوبيس قبل أن يفوتها.. الحب لم يفتح حقائبه ولم يُخرج منها متاعه ولم يرتّبه". ويكون مثل هذا الاستخدام الدال للغة مفعماً بروح مرحة تسلّي القارئ بالرغم من دخان الكآبة المجللة للحدث المسرود. وتذهب الروائية، كذلك، وبشجاعة، إلى استثمار أنساق وطرق سردية مختلفة، وبأسلوب لا يخلو هو الآخر من التهكم، تضفي على عملها لمسة ما بعد حداثية. وها هي تتحدث عن الزفاف المرتقب لباولا؛ "وسنصف فيما بعد حفل زفاف جميل حتى لا يكون نسيج الأحداث مفرط الكآبة.. الأشخاص الرئيسسيون المشاركون في الأحداث يشعرون بفرحة مسبقة وهم ينتظرون ذلك". وتنتهي الرواية بنجاح مسعى بريجيتّه في إقامة أسرة تكسب بشكل جيد. فيما ستسقط باولا في مهوى الرذيلة "بطريق المصادفة أصاب باولا حظ سيئ وستعاني سقوطاً عسيراً.. بطريق المصادفة أصاب بريجيتّه حظ حسن وستعيش صعوداً عالياً سريعاً كالشهاب".
وهناك المفردات البذيئة التي تحشرها يلينك بين تلافيف روايتها، وقد قام المترجم القدير مصطفى ماهر بحذفها كي لا يتصور القراء العرب، كما قال في لقاء معه، بأن المؤلفة قوّادة وعاهرة وقليلة الأدب. وبرأيه أن تلك المشاهد والمفردات ستعطي القارئ العربي انطباعاً معكوساً عن الثقافة الغربية!. ترى إلى أي حد يمكن القول أن هذه المسوِّغات، التي ساقها المترجم، مقنعة؟. أم أنه كان يتحاشى تدخلات الرقيب ( الرسمي وغير الرسمي )؟. ثم ماذا سيكون رأي يلينك نفسها حين تطّلع على مثل هذا البتر ( القاسي أم الرحيم؟ ) لأجزاء حميمة من روايتها، هي التي تماهي حسياً بين فن الكتابة وفعل الحب؛ "يخامرني شعور حميم وحسّي للغاية عندما أكتب نصوصي، حدّ أنني إذا قرأتها لنفسي بصوت عال أشعر أنني أتعرى. وأنا لا أريد الوقوع في حلقة الإستعرائية والتلصص المنحرفة والمفرغة". والتلصص بزعمها فعل يقوم به الرجل، موضوعه المرأة المشتبه بها والمشتهاة، وينطوي على اعتداء سادي. من هنا منحت إيليك نفسها حق التلصص على حيوات الرجال والنساء معاً، بعين الإبداع النفّاذة، رافضة أن تظل امرأة مجبرة على البقاء في موقع المنظور إليها ليس إلاّ. وكما لو أنها تصرّ على أن تقول لنا في رواياتها؛ هذا ما أنتم عليه، هكذا أراكم. وحتى وهي تحصل على جائزة نوبل للآداب لم ترد أن تكون مادة دسمة محضة، تشبع فضول الصحافة وغيرها. فهذه الجائزة على الرغم من ترحيبها بها وعدِّها شرفاً لها فإنها، كما تقول: "اخترقت في شكل مفاجىء عزلة حياتي، ولذلك هي تمثّل، في شكل ما، فعل اجتياح عدائيا، ونوعا من التدخّل أو التطفّل. يكفي أنها رمتني بين أذرع الجماهير رغما عني، وأنا لا أستطيع احتمال الاهتمام والانتباه والفضول الذي يرافقها لا محالة".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا


.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم




.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا


.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07




.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب