الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هيپاتيا: الحقيقة، الأسطورة، الأكذوبة

داود روفائيل خشبة

2012 / 7 / 8
الادب والفن


هيپاتيا: الحقيقة، الأسطورة، الأكذوبة
داود روفائيل خشبة

كثيرون كتبوا عن هيپاتيا فى الآونة الأخيرة، ولا عجب — امرأة جميلة، ذكية، كرّست نفسها للعلم والفلسفة فى فترة فارقة من تاريخ الحضارة الإنسانية، وانتهت حياتها نهاية مأساوية فاجعة. وإن كان فى هذه العناصر ما يفسّر جاذبية شخصية هيپاتيا للقراء والكتاب، فإن عندى سببا خاصّا يشدّنى إلى ما يكتب عن فيلسوفة الإسكندرية ضحيّة التعصّب الدينى القبيح، ذلك أنى اتخذتها موضوعا لكتابى Hypatia’s Lover, 2006, الذى تـُرجم بعنوان " هيپاتيا .. والحب الذى كان" (ترجمة سحر توفيق، المركز القومى للترجمة، 2010). ولكنى فى هذا المقال أريد أن أقارب الموضوع من زاوية خاصّة، أو قل إنى أريد أن أعطيه أبعادا أخرى.
كل حدث أو واقع تاريخى يحمل حقيقته فى جوفه ويضنّ بسرّه أن يبوح به أحد. حتى معاصرو الحدث والمشاركون فيه ومن تتاح لهم أحسن الفرص لاستكشاف كل جوانبه لا يملك أىّ منهم أن يقدّم إلا رؤيته الخاصة للحدث. ومتى حاول أحد أن يلتزم أقصى درجات الموضوعية وأن يستبعد كل المؤثرات الشخصية، فإنه إلى مدى ما ينجح فى هذا يكون ما يقدمه مجرّد وصف سطحى بلقع لا يحمل مغزى ولا يكون له عمق، حتى ليمكننا القول دون شطط إن الحقيقة (بمعنى الواقع fact) والمعنى نقيضان لا يلتقيان. الرواية التاريخية التى تحمل معنى تكون تأويلا خاصّا بمقدار ما تحمل من معنى، وتكون على هذا النحو أسطورة. لنأخذ سقراط مثلا. عاش سقراط فى أثينا ملء السمع والبصر. كتب عنه ثلاثة كتاب مرموقين: مؤلف المسرح الكوميدى أريستوفانيس Aristophanes، والكاتب القدير زينوفون Xenophon، والفيلسوف الأعظم أفلاطون Plato، بجانب عدد من تلاميذه الذين ألفوا ‘محاورات’ يحاكون فيها حوارات سقراط الشهيرة. (للأسف لم يصلنا من هذه المؤلفات غير شذرات.) فماذا نعرف عن سقراط؟ أعمق وأجمل وأقيم ما نعرفه عن سقراط أسطورة أبدعها أفلاطون ولا يملك أحد أن يقول كم فيها من حقيقة سقراط وكم فيها من إبداع أفلاطون. نستطيع أن نطبّق نفس القول على يسوع الناصرى، على محمد نبى الإسلام، على كليوپترة ملكة مصر، على من شئت من شخصيات التاريخ. ما نعرفه عن هذه الشخصيات تأويل أو تأويلات متباينة لوقائع، حتى لو تحققنا من موضوعيتها، تبقى فى ذاتها جرداء خاوية من أى مغزى أو أى قيمة.
كذلك الحال مع هيپاتيا. عاشت هيپاتيا فى الإسكندرية فى الفترة من أواخر القرن الرابع الميلادى إلى أوائل القرن الخامس. لم تكن نكرة. كانت عالمة رياضيات وفيلسوفة لها مؤلفات قيّمة، وكانت أستاذة فى مدرسة الإسكندرية العظيمة التى كان أبوها ثيون Theon رئيسا لها من قبل. لكن رجال الكنيسة، قادتـُهم ورعاعُهم، حين فتكوا بها بتلك الصورة الوحشية البشعة، لم يكتفوا بحرق جسدها وحرق كتبها، بل حاولوا إبادة كل ذكر لها وعملوا على تشويه القليل مما تسرّب من معلومات عنها. فما حقيقة ما نعرفه عن هيپاتيا؟ أقرب ما نعرفه عن هيپاتيا إلى الحقيقة تلك الصورة الموجزة التى تركها لنا مؤرّخ معاصر لها يحمل اسم سقراط، أراد، رغم كونه مسيحيا، ألا ينحاز لرواية الكنيسة وأن يقدّم حكاية حيادية أمينة بقدر الإمكان، فتحدث عن علمها وفلسفتها وأثنى على شخصيتها وحكى واقعة قتلها بطريقة وحشية بشعة بأيدى عصبة من الدهماء يقودهم جماعة من رهبان الكنيسة الأوثوذوكسية.
هذا كل ما نملكه من حقيقة فى أمر هيپاتيا. أما الأسطورة بتنويعاتها فتتمثل فى مختلف الكتابات التى حاول كتابها أن يقدّموا تصوّرهم وتأويلهم الخاص للحدث التاريخى. فى كتابى " هيپاتيا .. والحب الذى كان" قلت فى المقدمة:
"هذه رواية فى قالب قصصى للأيام الأخيرة من حياة هيپاتيا، والتى قادت إلى موتها الدموى أثناء فترة الصوم الكبير، 415 ميلادية. والقصة المأساوية يتبعها مجموعة من المقتطفات المتخيّلة من محاضرات هيپاتيا وأحاديثها.
"والقليل المعروف عن حياة هيپاتيا وعملها موجود وسهل الوصول إليه على الإنترنت. (انظر صفحة المصادر الغنية التى يشرف عليها هوارد إيه. لاندمان Howard A. Landman: http://www.polyamory.org/~howard/Hypatia/). والمصدر الكلاسيكى هو حياة هيپاتيا التى كتبها سقراط سكولاستيكوس، والذى كان معاصرا لهيپاتيا، فى كتابه Ecclesiastical History. وتحتوى دائرة المعارف The Suda Lexicon، التى ترجع للقرن العاشر الميلادى، على باب طويل عن هيپاتيا، والذى يجمع مواده كما هو واضح بدون تمييز من مصادر متناقضة سابقة عليه، دون أى محاولة للتوفيق بينها. وفى خط القصة لم أتلاعب بأى من الحقائق المعروفة." (ترجمة سحر توفيق.)

وقد حاولت الالتزام بهذا فى الجزء الروائى من الكتاب، ولكن هل يمكن أن أزعم أن ما أقدمه شىء غير أسطورة؟ أكرّر: التاريخ، إلى مدى ما نحمّله بأىّ معنى يكون أسطورة، وإلى مدى ما ننجح فى التزام الحيادية والموضوعية وفى قصر سردنا على الوقائع المجرّدة المحققة، بقدر ما ننجح فى الاقتراب من الحقيقة، تكون روايتنا أفقر فى المعنى. الحقيقة (بمعنى الموضوعية) والمعنى متضادّان. الموضوعية تطرد المعنى والمعنى يلاشى الموضوعية.

هذا أمر الحقيقة والأسطورة فى شأن هيپاتيا. فما حكاية الأكذوبة؟ تكون الأكذوبة حين تعمد جهة ما لتزييف الوقائع المجرّدة، وهذا بالضبط ما تفعله الكنيسة – والكنيسة القبطية الأورثوذوكسية تحديدا، وهى معنيّة بشكل مباشر – مع قصة هيپاتيا. فإلى جانب العمل على إبادة كل ما يمت بصلة لعلم وفكر وشخصية تلك الإنسانة الفذّة، دأب رجال الكنيسة على بث الأكاذيب والحكايات المغلوطة عنها كلما جاء ذكرها. وأكتفى هنا بأن أورد شاهدا من عصرنا. فى كتاب ضخم يقع فى نحو 700 صفحة عن تاريخ الكنيسة القبطية لا يجد المؤلف حكاية هيپاتيا تستحق أكثر من عبارة مقتضبة كاذبة مضللة يلحقها بروايته لطرد اليهود من الإسكندرية – رواية بدورها ملؤها الزيف والبهتان – حيث يقول:
"وفى هذا الحين أيضا جرت حادثة الفيلسوفة هباشا الشهيرة التى غدر بها بعض الطائشين بدون ترو وبدون أن يعلم البابا كيرلس مطلقا." (كتاب تاريخ الكنيسة القبطية تأليف الشماس منسى القمص "المتنيح القس منسى يوحنا راعى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بملةى سابقا"، الطبعة الثالثة، 1982).
قد يقال إن هذا بدوره إضفاء تأويل خاص على الحقيقة الموضوعية، فنكون هنا أيضا بإزاء أسطورة بالمعنى الذى قدمناه. حتى إن قبلنا القول بهذا، فإنها أسطورة خبيثة تخدم غرضا غير سوىّ. فبينما الأسطورة الإبداعية غايتها الفهم فإن الأسطورة الزائفة تسعى لمنفعة خاصة ولا ينبغى أن نسميها إلا أكذوبة.

ملاحظة هامشية: فى كتاباتى الفلسفية أستخدم كلمة ‘الحقيقة’ بمعنى اصطلاحى خاص، مقابل reality، وأحرص على تمييزها عن معنى مقولة الصدق truth وعن معنى الواقع الموضوعى fact، لكنى فى هذا المقال لم ألتزم هذا التمييز الاصطلاحى واستخدمت الكلمة بمعناها الشائع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الحقيقة الغائبة
باسم نبيه ( 2012 / 8 / 20 - 00:37 )
حز فى قلبى أن يروّج أحد من الأشخاص الذين أعتز بهم برواية غير صحيحة تنافى الحقيقة، و تقدّم نموذجا غير مشرّف للكنيسة الأرثوذكسية، و تحطّ من شأنها. و لكنى ألتمس له العذر، فأنا أعرف جيدا أن هناك من يهدف إلى تشويه الحقائق و قلبها، لغرض ما فى نفس يعقوب، و النتيجة أن الكثيرين ضلّوا بسبب ذلك و لم يتحققوا مما قرأوه.
الفيلسوفة هيباتيا تم قتلها لأنها كانت محور صراع سياسى بين طرفين اثنين فى الأسكندرية آنذاك: هما بابا الإسكندرية و مطرانها. لا علاقة بالدين أبدا بما حدث لها من قريب أو من بعيد.
و نجد ذلك واضحا إذا تحققنا من ما وصلنا من حقائق على موقع الويكيبيديا باللغة الإنجليذية، و الذى يشير بدلائل و قرائن أن مقتل هيباتيا كان سياسى بحت لفرض السيطرة و ليس نتيجة لتعاليم دينية.
أما إذا تصفّحت الموقع باللغة العربية، فأنك سوف تصدم بكم التعمية و التضليل اللذين تخللا كل سطر و كل فقرة من الرواية التاريخية، لدرجة أنه يخّيل إليك أن مقتل هيباتيا كان نتيجة لتعاليم دينية غير صحيحة. و الحقيقة هى أبعد من ذلك بكثير.

اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_