الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطوة للأمام ... عشر للوراء

عبد المجيد حمدان

2012 / 7 / 12
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


خطوة للأمام .... عشر للوراء
هل يكرر تاريخنا الحاضر مآسي تاريخنا الماضي ؟ !!!!!
هناك إجماع الآن ، يشمل السياسيين والخبراء ، على أن إصلاح وتطوير التعليم ، وإطلاق مركبات البحث العلمي ، هو طريق إخراج بلدان الثورات العربية ، من الأوضاع البائسة التي تطبق على خناق شعوبها . ومع ذلك ، وقبل بدء الثورات العربية ، تشهد الجامعات العربية محاولات مستميتة ، للعودة بالتعليم إلى وراء ، ولسد الأفق أمام بعث البحث العلمي . والمتابع لما يجري في هذه الجامعات ، وكليات الآداب ، وأقسام الفلسفة على وجه الخصوص ، يلاحظ كيف تصاعدت هذه الموجة ، مدفوعة بصعود تيارات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم ، في هذه البلدان . لقد دفعت الثورات العربية ، وما شهدته بلدانها من بدءٍ لمسيرة الديموقراطية ، بشعوبها خطوة للأمام . لكن ما يجري ، لا يحاول فقط وقف هذه الخطوة ، وإنما الدفع بها عشر خطوات إلى وراء .
بعض من ملامح الحضارة الإسلامية :
عَكَسَ ما يجري في الجامعات نفسه على حوارات المثقفين . كما فرض استحضاراً لبعض جوانب ما يوصف بالحضارة العربية الإسلامية . وأكاد أجزم أن الضبابية تلف هذا الموضوع ، وعند كثيرين . هناك فصل مثلا بين تطور العلوم الطبيعية ، والمجردة كالرياضيات ، وبين الآداب والفنون ، وأثرها في النفس البشرية ، والتأثير المتبادل بينها وبين الأولى – العلوم المجردة والطبيعية - . هناك تصور مثلا بإمكانية رقي البحث العلمي ، مع بقاء تخلف ، وربما انعدام الفنون ، وفي مقدمتها الموسيقى والغناء . وهناك تصور – عند البعض - بأن الحضارة الإسلامية اقتصرت على العلوم المجردة والطبيعية . كما أن هناك تغييبا لعملية الصراع ، وأطرافها ، التي أسفرت عن الإطاحة بهذه الحضارة ووأدها . لكل ذلك سأسمح لنفسي ، وليعذرني القارئ ، بالوقوف قليلا عند بعض الملامح الرئيسية لهذه الحضارة .
لقد شهد العصر العباسي الأول ، ومنذ بداية استقراره ، انفتاحا على الحضارات الأخرى . حدث ذلك بعد انغلاق تواصل على مدى الخلافتين ، الراشدية والأموية . وربما كان للفرس ، وهم أهل حضارة عريقة ، وبسبب دورهم المتميز ، في إقامة وتثبيت الخلافة العباسية ، فضل لا سبيل إلى إغفاله ، أو نكرانه ، في هذا الانفتاح . المهم أن الانفتاح عبَّر عن نفسه ، في صورة نقل واسعة ، لعلوم الأمم التي أصبحت جزءا من دولة الخلافة ، الفرس والسريان بصورة خاصة ، والأمم المجاورة ، الهند واليونان بصورة عامة . ومنذ عهد الخليفة المهدي ، نشطت حركة نقل هذه العلوم – الترجمة – إلى اللغة العربية ، لتوضع بين أيدي طلاب العلم في أرجاء الخلافة . سبق ذلك ، ثم رافقه ، حراك وتفاعل فكري واسع ، شمل كل شؤون الحياة ، بما في ذلك علوم الدين ذاتها . كان ذلك بمثابة وضع الحجر الأساس ، لما صار يوصف بالحضارة الإسلامية . وملخصها أن العصر الذهبي العباسي ، ونظيره الأندلسي ، وعلى مدار قرابة أربعة قرون ، شهد ظهور وبروز عدد من العلماء المسلمين ، تعدى علمهم استيعاب علوم الأمم المترجمة ، إلى التفاعل معها ، إخصابها ، تطويرها ، الإضافة لها ، والبناء عليها ، وبما يمكن وصفه بإيجاز ، بإثراء الحضارة الإنسانية ، ووضع أساسات تقدمها اللاحق .
لكن ومن العبارة السابقة يمكن تصور ، وكما جرت العادة ، أن الحضارة الإسلامية ، وأعلامها ، وعلومها ، تقف عند العلوم الدنيوية – الطبيعية والمجردة - : الفلسفة ، الفلك ، الطب ، الكيمياء ، الرياضيات ، الفيزياء ...الخ ، وعلمائها الكبار : الرازي ، ابن سينا ، الكندي ، الفارابي ، ابن رشد ، البيروني ، الخيام ، ابن الهيثم ، ابن طفيل ، جابر بن حيان ....الخ . وقد يجد المرء العذر لأصحاب مثل هذا التصور ، ذلك لأن هذه العلوم ، وعلماءها ، شغلت بؤرة الصراع اللاحق ، والذي أودى بها جميعا ، فاهتمام وتركيز الباحثين ، من كل لون ، عليها فيما بعد .
وعليه فليس من باب الاستعراض ، أو الرغبة في الإسهاب ، الإشارة إلى أن هذه النهضة الحضارية ، رافقها حراك ، وتطور صاعد ، في كل مناحي الحياة ، وعلومها الأخرى . تطورُ نَقَلَ الدولة العربية من رحاب البداوة ، بطباع أهلها الخشنة ، وجلافة ملامحهم القاسية ، إلى رحاب المدنية ، بما تتصف به من تهذيب للنفس البشرية ، ومن رقة في الطباع ، ولطف ومرونة في العلاقات . وفيها كلها – هذه العلوم الأخرى - برزت قامات علمية شامخة . في علم التاريخ مثلا برز مؤرخون مثل الطبري ، اليعقوبي ، المسعودي ، البلاذري ، وابن كثير وآخرون كثر . وفي الجغرافيا ، برز الإدريسي وآخرون . وفي الرحلات واستكشاف العالم ، وعادات وتقاليد شعوبه ، برز امثال ابن بطوطة . وفي تأريخ السيرة النبوية ، وسير الصحابة ، برز جمع من هؤلاء العلماء الأجلاء ، مثل ابن إسحاق ، الواقدي ، ابن هشام ، ابن سعد ، ابن حجر العسقلاني ، ابن الأثير وغيرهم كثيرون .
ولا أظن إلا أن القارئ يعرف أن علوم اللغة العربية ، وقواميسها ، نشأت ، تطورت ، ووضعت في هذه الفترة . نشأ علم النحو والبلاغة ، وعَلَمه سيبويه أشهر من أن يعرف . وعلم العروض ، وعَلَمه الخليل بن أحمد الفراهيدي ، حاضر دوما عند كل من يقرض الشعر ، أو يتذوقه . وابن منظور ، وقاموسه لسان العرب ، والفيروزآبادي ، وقاموسه المحيط ، لا يستغني عنهما أي دارس للعربية . وبديهي أن الأدب ، بفروعه المختلفة ، شهد نهضة كبيرة . وأعلام مثل الجاحظ ، وابن المقفع ، وابن عبد ربه ...مازالوا ملء السمع والبصر . ولو أن مسار هذه النهضة لم ينقطع ، ولم يتوقف ، لكانت الرواية العربية قد سبقت مثيلاتها في العالم ، وبزمن طويل . فأغاني أبو الفرج الأصفهاني ، ومقامات المقريزي والحريري ، ثم حكايات ألف ليلة وليلة ، وضعت المقدمات والأسس ، لولادة وتطور هذا الفرع الهام والجميل من فروع الأدب . وإذا ما تذكرنا اهتمام الخلفاء والولاة ، وغيرهم من كبار الحكام ، بمن وصفوا بالمهرجين ، أو المتخصصين بالترويح ، أو تسلية الحكام ، لرأينا كيف أن مقدمات ، وأساسات المسرح الكوميدي ، كانت قد نشأت ثم ترسخت آنذاك .
ولم يقف تطور اللغة وقواعدها وآدابها عند هذه الحدود . ذلك أن الشعر نفسه شهد نوعا من الطفرة . وشعراء هذه الفترة لم يتكرروا بعدها . فشعراء في قامة بشار بن برد ، وأبي نواس ، وابن الرومي ، والبحتري ، وأبي تمام ، وابن الفارض ، وأبي العلاء والمتنبي لم يأت لهم نظير بعدها .
الإبداع والفنون هي بداهة وليدة عصور النهضة . وكان من غير الممكن أن يتخلف تطور الشعر الغنائي ، والموسيقى عنصر الفن الأساس ، وابتكار آلات جديدة ، وتطوير أخرى حاضرة . ومثل غيرها من العلوم ، برز فيها أعلام كبار ، مثل إبراهيم وإسحاق الموصلي وتلميذهم زرياب . ولأن الفن يرتقي بالذوق ، ويرهف الإحساس ، كان لابد من أن يرتقي علم وفن العمارة . وإذا كانت أطلال قصر الحمراء في غرناطة ، ما زالت شاخصة وشاهدة على المستوى العالي الذي بلغه كل من علم وفن العمارة ، فإنه مازالت هناك مئات الشواهد الأخرى ، متمثلة في المساجد المنتشرة ، في العديد من المدن الإسلامية العتيقة ، وزخارفها البديعة ، وما تشي به من إشارات للدرجة المتقدمة ، التي كانت مختلف الفنون قد بلغتها آنذاك ، والخدمة التي كانت ستسديها للحضارة الإنسانية ، لو لم يحدث ما حدث لها من إيقاف فانقطاع .
في إحدى قراءاتي توقفت مشدوها عند وصف لأحد قصور خليفة عباسي ، أظنه المقتدر ، إن لم تخني الذاكرة . لم يسحرني الوصف الرائع لستائر شبابيك القصر ، الموشاة بأبيات الشعر التي تحكي ألوانا من الحكمة ، والمحاكة بأسلاك الذهب . استوقفني وصف حدائق القصر ، بأشجاره الاصطناعية ، المثبتة عليها مختلف أنواع الطيور والعصافير المغردة . أذكر أنني آنذاك استغرقت مذهولا فيما وصل إليه الفن ، بصنع عصافير وطيور ، مناقيرها وأقدامها من الفضة ، وعيونها وريشها من لآلئ متنوعة ، وتنطلق في التغريد مع أول نسمة تهب عليها . تساءلت ، وما زلت : ترى لو قدر لهذا الفن البقاء والاستمرار ، فأي درجة كان سيبلغها بعد قرن أو قرنين وأكثر ؟ وقد يقول قائل : هذا شاهد بعيد قد لا يمكن التحقق منه . وأقول بين يديك رائعة البحتري في وصف بركة المتوكل . وأنت فقط لو تمعنت فيها لوقفت بسهولة ، ليس فقط على ما بلغه علم العمارة وفنه من تقدم آنذاك ، بل وعلى ما بلغه الذوق الجمالي من رقي ، عند أهل ذلك العصر . ولك أن تسرح بخيالك لتسائل نفسك : كيف كان مقدرا أن يكون شكل حياتنا لو اتصلت ، ولم تنقطع هذه الحضارة ؟ ولمساعدتك ، سأقدم لك بيتين فقط من رائعة البحتري . هو يصف ، من بين ما يصف ، وكل بيت في الوصف أبدع من سابقه ، اندفاع الماء في البركة بما يلي :
تنصب فيها وفود الماء معجلة كالخيل خارجة من حبل مجريها كأنما الفضة البيضاء سائلة من السبائك تجري في مجاريها
وكما أشرنا انعكس الانفتاح ، وما حمل من اطلاع على حضارات الآخرين ، وتطور في العلوم ، على الناس ، فيما عرف بمدنية الدولة . وإذا كان من الصعب الآن العودة إلى ، والوقوف على حدود هذا التطور ، فإنه، لحسن حظنا ، ما زالت هناك شواهد ، وإن كانت ضمنية ، عليه . وأكتفي بمثال . ففي زمن المتوكل ، وهو من خلفاء أواخر العصر الذهبي العباسي ، وفد عليه شاعر بدوي، هو علي بن الجهم ، لم يعرف غير الصحراء ، وكائناتها المحدودة . وكان بديهيا أن تنعكس هذه المعرفة المحدودة في شعره . وقف ابن الجهم أمام الخليفة ، وأنشده قصيدة مديح قال فيها ، واصفا الخليفة :
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا من كبار الدلا كثير الذَّنوب
لم يغضب المتوكل من هذا الوصف . وبالعكس رأى في الشاعر موهبة رسمت ثقافة الصحراء حدودها . أمر له ببيت جميل على شاطئ دجلة ، وإقامة مريحة لستة أشهر . استقدمه الخليفة بعدها ، فإذا به يمدحه بقصيدة رائعة جاء مطلعها :
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن سلوت ولكن زدن جمرا على جمر
ومع أن كل بيت تال فيها كان أجمل من سابقه ، فقد انتقل إلى مدح الخليفة ، بوصف لا أروع ولا أجمل ، ومنه :
إذا نحن شبهناه بالبدر طالعا وبالشمس قالوا حُقَّ للشمس والبدر
ومن قال أن البحر والقطر أشبها يداه فقد أثنى على البحر والقطر
وقال أيضا :
وجوه بني العباس للملك زينة كما زينة الأفلاك بالأنجم الزهر
ولا يستهل الملك إلا بأهله ولا ترجع الأيام إلا إلى الشهر
وتلك كانت نتيجة ستة أشهر فقط من المدنية على ذلك البدوي ، الذي قال فيه المتوكل : أوقفوه فأنا أخشى عليه أن يذوب رقة ولطافة . ترى كيف كان سيكون حالنا لو لم تنقطع هذه المدنية ؟ وترى هل يمكن لأحد منا الآن تصور حجم الجريمة التي تمثلت بقتل هذه الحضارة وردم أساساتها ؟


علوم الدين :
ننتقل بعد هذا إلى جانب آخر لهذه الحضارة . إذ ربما لا يتذكر كثيرون ، أو لا يحبون أن يتذكروا ، أن علوم الدين ذاتها ، نشأت ، تطورت وبلغت أوج ازدهارها في تلك الفترة . هل نقول ذلك لأن فن عمارة وزخرفة المساجد ، شاهد لا يقبل الدحض لمثل قولنا هذا ؟! ونرد : نعم تلك واحدة ، لكن غيرها كثير . مثلا نشأت ، وتركزت علوم القرآن – التفسير ، أسباب النزول ، جمع القرآن ، الناسخ والمنسوخ ... الخ – في تلك الفترة . ولا سبيل إلى تجاهل قامات كبيرة ، في هذا الشأن ، مثل الطبري ، ابن كثير ، الزمخشري ، الألوسي ، القرطبي ...وغيرهم كثير . وفي تلك الفترة تم جمع وتدوين السنة . وفيها برزت قامات البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي والترمذي وصحاحهم . وإليها استندت كتب الحديث اللاحقة . وفي هذه الفترة ظهر تدوين السير ، التي أشرنا إليها سالفا . والأهم من كل ذلك أن هذه الفترة هي التي ولدت فيها المذاهب ، مذاهب السنة وأعلامها : أبو حنيفة ، الشافعي ، مالك وابن حنبل ، ومؤلفاتهم الكبيرة ، وكذلك مذاهب الشيعة وأعمدتها الكبيرة . ولا أدري إن كان القارئ ما زال يتذكر أن مذاهب السنة بلغت قرابة السبعة وتسعين مذهبا ، أشهرها ، بعد المذاهب الأربعة ، مذهب الأوزاعي ، كلها تراجعت واختفت ، في مجرى الصراع والحوار بينها ، وليتقيض البقاء للمذاهب الأربعة : الحنفي ، الشافعي ، المالكي والحنبلي . وكان أن كبار الفقهاء نبغوا ، ومدارس الفقه نشأت وتوطدت ، في ذلك العصر أيضا . والتعداد هنا لا يضيف إلى القارئ جديدا .
وجها العملة :
لكن ذلك كان أحد وجهي العملة . أما الوجه الثاني ، والذي تسكت عنه أدبيات التيارات الإسلامية المعاصرة ، فتمثل في الصراع الضاري ، الذي شنته مكونات تيار النقل ، على هذه الحضارة ، ورموزها من العلماء . فالانفتاح ، والاطلاع على علوم الآخرين ، والتفاعل معها ، أوجد ما وصفته ، في مقدمة هذه الحلقة ، بالحراك الفكري الواسع ، العميق والمتنوع . وكما سبق وأشرت كان الدين نفسه أحد ميادين هذا الحراك . ولأن الاطلاع على العلوم ، والتفاعل معها ، اقتضى بداهة إعمالا للعقل ، وتنشيطا له يتجاوز الحدود الموضوعة ، كان أن نشأ ، بين علماء الدين أنفسهم ، ما وُصِف ، أو عُرِف ، في حينه وفيما بعد ، بتيار العقل . وبديهي أن هذا التيار كان واسعا ومتشعبا ، لكن جامع مكوناته يتمثل في إخضاع كل المسائل ، موضع البحث ، لمساءلة العقل ، وبالتالي قبول ما يقبله ، ورفض ما يرفضه . والمشكلة التي ظهرت ، تمثلت في الرغبة بإخضاع النص الديني ، قرآنا وسنة ، لمساءلة العقل ، وبما نتج عنه من رفض للإيمانيات التي تقف على نقيض مساءلة العقل . ولعل القارئ يذكر أن فرقة المعتزلة ، وما تفرع عنها كالأشعرية ، كانت أبرز مكونات تيار العقل ذاك .
في المقابل كان هناك تيار النقل العريض هو الآخر ، والمتمسك بقبول ، والعمل ، بكل ما وصل عن الكتاب والسنة ، وما أجمع عليه السلف الصالح . وكان بديهيا أن يتصادم التياران ، بالحوار ، والحجة بداية ، ثم رفض الآخر والعمل على القضاء عليه ، فإزالته تماما بعد ذلك .
ما يهمُّنا هنا أنه في ظل هذا الصراع نشأت الطوائف الإسلامية ، المتناقضة والمتعارضة حتى الموت . وفي ظله أيضا ظهر من جاهروا بعدم إيمانهم . وفي ذلك الوقت المبكر ظهر من أعلنوا ، ليس فقط عدم قناعتهم بصحة البينات القرآنية ، وعدم عدالة بعض التشريعات ، ورفضهم لمسلكيات بعض كبار الصحابة ، بل واندفاعهم لإشهار إلحادهم . إقرأ مثلا بشار بن برد ، أبو العلاء المعري ، ابن الراوندي وغيرهم كثير . ولما كان قانون عقوبة الزندقة لا يطبق إلا على المعارضة السياسية لرأس الدولة ، فقد نشأ ما يمكن وصفه بنوع من تيار للإلحاد ، رأى فيه تيار النقل خطرا مهددا ، لا يمكن ، التعايش معه . وبديهي أنه لو قيض لهذا المجرى أن يستمر ، لكانت بلاد المسلمين قد سبقت الغرب كثيرا في هذا المضمار .
بدا آنذاك أن معارضة تيار النقل لتيار العقل بالحوار ، واستنادا إلى الحجة ، دحض الرأي ، وعرض البرهان ، محكومة بالخسران . وكان أن مقارعة الحجة بالحجة ، والرأي بالرأي الآخر ، لم تدر في فراغ . كانت هناك دوما مشاركة رأس الدولة ، الخليفة والولاة ، وتابعيهم من الحكام والقضاة والفقهاء . واستمر انتقال الخليفة من خندق إلى آخر حتى نهاية العصر العباسي الأول ، وحيث ظل هذا التنقل يحقق نوعا من التوازن بين التيارين ، ونوعا من الحفاظ على أدب الحوار . تغير الوضع مع نهاية هذا العصر ، وحين قبض قادة الجيش ، وهم من غير العرب ، على زمام الأمر ، وتحول الخليفة إلى ألعوبة في أيديهم . ولا أظن إلا أن القارئ ما زال يتذكر التوصيف الدقيق لحال الخلافة آنذاك ، ببيتي الشعر :
خليفة في قفص بين وصيف وبُغا
يقول ما قالا له كما تقول الببغا
ووصيف وبُغا هما قائدان تركيان من قادة الجيش . ولأن العسكر لا يحتاج لإعمال العقل ، فقد فَقَدَ تيار العقل سنده في السلطة ، من جهة ، وتحقق لتيار النقل السند ، فحرية كاملة ومطلقة ، في مواجهة تيار العقل ، ولتنتقل المواجهة من الحوار ، والإتيان بالدليل والبرهان ، وإقامة الحجة فدحض الرأي الآخر ، إلى استخدام الأساليب العنيفة ، وبما فيها نفي هذا الآخر ، وإخراجه من ساحة المنافسة كلية . وقد يقول قائل أن اللجوء لقمع الآخر ، والركون لأساليب العنف ، لم تكن منعدمة ، على طول عصور الصراع السابقة ، وظلت تمارس بهذا الشكل أو ذاك ، حتى في أزهى فترات هذه العصور ، عصر المأمون ، ثم عصر المتوكل كنقيض ، فعصر الواثق ...الخ . ونقول ذلك صحيح ، لكن العنف فيها لم يصل إلى درجة النفي الكامل لهذا الآخر ، وإنما توقف عند حدود الضغوط ، مع تجاوز مذموم ،هنا وهناك ، تجاه بعض الرموز ، كما حدث مع ابن حنبل مثلا . المسألة أنه مع نهاية العصر العباسي الأول ، وتكريس هيمنة العسكر على الخلفاء ، حدث انقلاب كامل في معادلة الصراع بين تياري الفكر الديني العريضين ، النقل والعقل ، ولصالح الأول .
مسؤولية العلوم المترجمة :
ومنذ اليوم الأول لبداية الصراع ، حدد قادة تيار النقل العلوم الوافدة – المترجمة – وفي مقدمتها الفلسفة ، بصفتها المسؤولة عما جرى ، وما آل إليه الحال ، من تهديد لصحيح الدين ، حسب رؤيتهم . ومنذ اليوم الأول رأوا في أن وقف تدفق هذه العلوم ، وهدم ما وصل منها ، وما بني عليها ، ومحو كل آثار التكريم لرموزها وعلمائها ، الطريق الصحيح ، والسبيل الوحيد ، الأكيد والمضمون ، لإعادة الناس إلى جادة صحيح الدين ، وصونه من كل انحراف . استخدموا في ذلك أساليب متعددة . وظلت إثارة العامة ، ودفع المريدين ، المتشيعين والأتباع ، للعدوان على هؤلاء الرموز وإنتاجهم ، أشدها وأكثرها نجاعة وفاعلية. ولعل القارئ يتذكر كيف أن الحنابلة دأبوا على مواجهة خصومهم ، من أهل المذاهب الأخرى ، بإطلاق العميان عليهم في شوارع بغداد ، وكيف كان الناس يحسبون ألف حساب لثورة هؤلاء العميان ، ويلجأون إلى الفرار هربا منهم .
وسأختصر ما حدث في مشهدين ، جسدتهما لنا عبقريات سينمائية مؤخرا. المشهد الأول تمثل في جمع مؤلفات ابن رشد ، وتكويمها في ساحة ، ثم حرقها أمام عينيه ، ليحرقوا معها قلبه ، كما يقال بالعامية ، أو مشاعره وأحاسيسه النبيلة . وهو ما حدث مع كثيرين غيره ممن كان الموت قد غيبهم . والثاني مشهد قيادة بعض رجال الدين لعدد من الأتباع المتعصبين ، فمهاجمة المرصد الفلكي لعمر الخيام ، هذا المرصد الذي كان بناه له صديقه ، الوزير السلجوقي نظام الملك ، في مدينة جنديسابور الفارسية . هؤلاء المتعصبون لم يكتفوا بحرق المرصد ، وعدم الإبقاء على حجر فيه ، وحرق حتى آخر ورقة من إنتاج هذا العالم الجليل ، بل طاردوه يريدون قتله . وكان أن قاضيا متنورا ، وصديقا قديما ، هو من هربه ، وأحاطه بعنايته وهو مطارد حتى آخر يوم من حياته .
ورغم كل ما حصل نجت بعض أعمال هؤلاء العلماء الأجلاء . وهي التي نفاخر أن علم أوروبا قام عليها . والمهم أن نتائج الخلاص من هذه العلوم ، لم تقف عند حدودها وحدها . لحق بذلك اقتلاع الفنون ، ووقف تطور الآداب ، ومن ثم العصف بكامل منظومة الحياة المدنية ، التي كانت قد ازدهرت آنذاك . وبدل المضي مع عجلة الحياة في التقدم إلى أمام ، عادت بلاد المسلمين القهقرى ، بما في ذلك التخلص من كل مظاهر مدنية الحياة ، بالعودة إلى تقاليد الصحراء ، وجلافة وفظاظة أنماطها . ولكي ندرك حجم المأساة ، يمكن للقارئ أن يغمض عينيه ، ويتخيل ما كان يمكن أن يكون عليه حالنا ، لو استمر تطور وتقدم تلك المدنية ، ولو استمرت مسيرة تلك العلوم والفنون . ترى أكانت الهجرة في أيامنا ستكون ، كما هو الحال الآن ، نحو أوروبا وأميركا ، أم نحو عالمنا نحن ؟ ولو استمرت تلك العلوم في التقدم ، وأولئك النوابغ في الظهور ، هل كان يمكن للاستعمار من الوصول لبلادنا ؟ ألم يكن الاحتمال الأرجح أن يكون رحالتنا هم من سبقوا الأوروبيين لاكتشاف العالم الجديد ؟
وماذا عن المستقبل :
منحتنا الثورات العربية الجارية فرصة التقدم خطوة للأمام ، من خلال تدشين ممارسة خطوة من خطوات الديموقراطية . أعني ممارسة حق انتخاب قيادة الحكم هنا وهناك . لكن الانتخابات ، حتى الآن ، حملت إلى سدة الحكم ، تيارات الإسلام السياسي ، سليلة وحفيدة تيار النقل ، الذي وأد الحضارة الإسلامية ، وعصف بالمدنية التي كانت قد تحققت ، ونعمنا نتيجة ذلك بالحياة أكثر من ثمانية قرون ، في ظلام الجهل والبؤس والفاقة والتخلف ، والسقوط تحت عجلات الاستعمار . وخلال القرن الماضي ، ونتيجة فعل الآخرين ، لا فعلنا ، أخذنا نطل على العالم ، من خلال الإطلال على علومه وفنونه . وحَدَانا الأمل بمحاولة اللحاق والانضمام لركب الحضارة ، وبالتالي نفض غبار تلك القرون الثمانية . لكن برامج تيارات النقل السياسية الإسلامية ، تقول بعلو الصوت ، أن هذا القليل الذي وصلنا ، وحصلنا عليه ، سيكون الهدف ، في تكرار هزلي ، ساخر ، سخيف ، قميء ....لما حدث قبل القرون الثمانية . ومن هنا هذا الإصرار من قبل التيارات المتشددة ، سلفيي حزب النور في مصر مثلا ، للقبض على رقبة وزارات التربية والتعليم ، والتعليم العالي . وهذا ليس ضربا في الرمل ، ولا لأن نائبا في مجلس الشعب المصري طالب بتشريع يلغي تعليم اللغة الانجليزية في المدارس ، ولا بسبب ما يتسرب عن المستقبل المظلم الذي ينتظر الفنون ، وحرية الإبداع ، والموسيقى والغناء في المقدمة منها .
لنعد إلى ما حدث في جامعة بيرزيت ، وكان موضوع مقال " تسونامي إسلامي يضرب جامعة بيرزيت " ، المنشور على هذه الصفحة . فبسبب كاريكاتير يغمز بقناة النفر من الرجال الذين لا يكفيهم تشريع جمع زوجات أربعة ، ويعمدون إلى الزنا ، قامت قيامة مجموعة هامشية من الطلبة ، ساندتها مجموعات أخرى . لم تكتف هذه المجموعة باتهام الأستاذ ، المعلق هذا الرسم الكاريكاتيري على باب غرفته ، بالردة ، ومن ثم بتطبيق حد المرتد عليه ، وأقله طرده من الجامعة ، بل ذهبوا لأبعد من ذلك . طالبوا ، وساندهم أساتذة وكتل طلابية ، بإغلاق دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية ، وإن لم يتحقق لهم ذلك ، تقرير مساقات التدريس فيها ، وتحديد المناهج والمراجع لها . ألم يكن هذا بالضبط ما فعلته تيارات النقل قبل ثمانية قرون ؟ ألم تكن النتيجة وأد الحضارة الإسلامية ، وإسقاط شعوبها في وهدات الجهل والفقر والأمية ، وتحت كعوب بساطير الاستعمار ؟
قد يقول قائل : ولكن المحاولة في جامعة بيرزيت فشلت ، وهي حادث فردي على أي حال . ونقول : هو فشل مؤقت ، إذ ستتكرر المحاولات مرة بعد أخرى . وهي ليست حادثا فرديا . سبقها حادث مماثل في الجامعة الأمريكية – جنين . في دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية ، قررت الدكتورة ريما النجار طلبتها كتابا لكاتبة إيرانية مهاجرة تعيش في فرنسا . اسم الكتاب persepolis يحكي قصة طفلة تحلم أن تصبح نبية ، ومن ثم تتخيل شكل الإله الذي ستدعو إليه ، وتحاول رسمه . الطلبة وفي بيان التحريض عليها ، زعموا أن الصور المتخيلة في عقل الطفلة ، هي صور تشبيهيه لرب العزة والجلالة ، وأن الكتاب يحوي ألفاظا نابية وهجوما حقيرا على الإسلام . ومن ثم وصفوا الدكتورة بالملحدة ، وطالبوا بفصلها من الجامعة ، وتم لهم ذلك . وطبعا طالبوا بإغلاق الدائرة ، أو انتقاء مناهجها ومقرراتها .
والسؤال الذي يخطر على البال في الحالتين : لماذا لم تقم عمادة كلية الآداب بواجبها ، ومناقشة الأستاذين في موضوعات الخلاف ؟ لماذا لم يعهد لمتخصصين بمراجعة وتقييم ، الكاريكاتير في حال جامعة بيرزيت ، والكتاب في الجامعة الأمريكية ؟ لماذا لم يتم أي شكل من الحوار مع الأستاذين ، وإقناعهما بخطئهما ، في حال ثبوته ، فالرجوع عنه ، بدل ضجيج وصخب الطلاب ، والاتهامات بالإلحاد والردة ، وتعمد الإساءة للدين ، والمطالبة بالفصل وتطبيق حد الردة ؟ كان ذلك سيحصل لو أن الأمر كان فيه شبهة مساس بالدين . لكنه لم يحصل لأن هذه العلوم الوافدة ، والتي تحرك العقل ، في دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية ، هي الهدف . صحيح الدين ، في رأي هؤلاء ، لا يستقيم ولا يثبت ، إلا برجم هذه العلوم الوافدة . إلا بمنع إزالة الغلاف الذي أطبق على عقولنا على مدار كامل الثمانية قرون الماضية . إن تحرر العقل وقع الخطر . هذه هي الحكمة التي ترفعها التيارات المتأسلمة . ولاتقاء هذا الخطر يتوجب بقاء عقولنا مغلفة ، لنسلمها لخالقنا تماما كما استلمناها ، أو مجلتنة ، حسب وصف صديق عزيز . أخيرا أسألك عزيزي القارئ : ألا يحدث ما حدث في جامعتي بيرزيت وجنين في كل الجامعات العربية ؟ ألم يدر بخاطرك أن تتساءل كيف سيكون عيشك إن تم حرمانك من الاستمتاع بما أنتجته البشرية من الفنون ، التي هي أطيب الطيبات ؟ وهل صحيح أن أبواب الجنة ستغلق في وجهك إن حاولت استخدام عقلك ؟ وهل ضمان هذا الدخول أن تسلمه ، مجلتنا ، كما استلمته ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عنزة ولو طارت
لا مبالي ( 2012 / 7 / 13 - 21:42 )
يا صديقي حتى لو كتبت شواهد اكثر من ذلك فهذا لن يثني احدا عما هو عليه
فالمشكلة ليست في الاسلام المشكلة في من يطبقه
وهؤلاء سيحاسبهم رب العباد

فكون الرسول مات متاثرا بالسم

وكون الخلفاء الراشدين ماتوا قتلا
وكون حروب الردة قتلت الالاف من الرجال وتم سيي واغتصاب الالاف من المسلمات على ايدي المسلمين
وبالرفم من التوريث والمجون واللقتل في كل سنوات الحكم الاسلامي
ويالرغم من ان معظم المبشرين في الجنة ومعظم قادة المسلمين قتلوا بطريقة ابشع من ميتة القذافي
وبالرغم من تخلف المجتمعات الاسلامية في كل مناحي الحياة اينما وجدت
سنظل نقول ان الاسلام هو الحل والمسلمين خير امة اخرجت للناس وستظل حياتنا كلها لله
، وليس مهما ما يقال هنا وهناك
المهم ان هناك سبعون حورية بانتظاري كلما ضاجعت احداها عادت بكرا
ولكني لا اعرف في الحقيقة كم عمر الحوريات لاني لا اتصور ابدا ان اضاجع فتاة اقل من 18 وكل ما يقال عن الرسول انه تزوج عائشة وعمرها تسع سنوات انما محض افتراء ، فالرسول يفهم ولا اظنه فعل ذلك، بالرغم من انه زوج ابنتيه لولدي ابو لهب وعمرهما اقل من عشر سنوات

اخر الافلام

.. خطوة جديدة نحو إكسير الحياة؟ باحثون صينيون يكشفون عن علاج يط


.. ماذا تعني سيطرة الجيش الإسرائيلي على الجانب الفلسطيني من معب




.. حفل ميت غالا 2024.. إليكم أغرب الإطلالات على السجادة الحمراء


.. بعد إعلان حماس.. هل تنجح الضغوط في جعل حكومة نتنياهو توافق ع




.. حزب الله – إسرائيل.. جبهة مشتعلة وتطورات تصعيدية| #الظهيرة