الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في نص ذاكرة العسل المر للمبدعة القديرة هيام مصطفى قبلان / عايده بدر

عايده بدر
باحثة أكاديمية وكاتبة شاعرة وقاصة

(Ayda Badr)

2012 / 7 / 12
الادب والفن


( ذاكرة العسل المرّ)
يلتفّ الحزن حول عنق البحر ..يطوّق الرّمال وهمس الموج ، ساكنة هي مدينة الحلم، البواخر وشواطىء الصيادين ، شباكهم المثقوبة منذ فجر صارخ ،لم يقذف البحر أحشاءه لا بسمكة ولا بمحارة.
كل شيء يتخدّر ، صخور تخبّىء سرّا ،نقشا ، وذكريات.المقاهي التي كانت تضج بالمتنزهين أقفلت أبوابها ،، ملح ضبابيّ يغتال طبقات من الاسمنت الملطّخة بألوان متلاحمة فقدت طراوتها ، نهشتها أظافر الغرباء وقلوب لا تعرف الرّحمة .
جلس متأملا الأفق البعيد ،، خيط رفيع يفصل بين عالمين ،، وهي حافية تسير على الماء تخرج من صدفة الوقت لتزيل ترسّبات خريفه المتقاعس ..!
كأنّه يراها للمرة الأولى بشريطها الورديّ ،،لم تتغيّر غير من خصلات بيضاء اندسّت بين أثلام شعرها المحشوّ ، المضفور بجديلة عقصتها عند أسفل رأسها الصغير ، كعائدة من رحلة مستعصية ، كالنّطفة الأولى ...!
جلسا على مقعد خشبيّ ، يجترّ عطب شهوة لرائحة لحم محروق، لم يستطع البحر أن يطفىء بعضا من قساوة الحرّ الشديد الذي أعلن عصيانه .
هوجاء كانت عاصفة الحرب المدمّرة فوق زحام الرّكام ، مدينة النور تطلق زفراتها الأخيرة، وتنعق الغربان في سماء مضرّجة بلون الأرجوان .
لامس أصابعها بيدين مرتجفتين ، ووجهها المتآكل صفرة سلّم نفسه لظلال عينيه الصاهلتين من خمر المنافي ...
- أليست هي الصّدفة يا" كارمن" ؟
- الصّدفة أنك تعود اليّ يا " ستيفانوس"
- لم نلتق بزمن الحبّ ، ها نحن نتباكى بحثا عن فتات ..
تنهّد ستيفانوس ، هو الذي فقد في الحرب عينه اليسرى برصاصة اخترقت جدار منزله فأدمت ريحان القلب !
ألقت برأسها على كتفه ،، سرحت الى البعيد كانت تبصر بعينه الأخرى ما وراء البحر ، عينه طالما لاحقتها بنظرات الشوق ، فراشة الحقل بفستانها المزركش ، بلهفة الشباب المتفتّح ، برائحة التفاح على خديها تتبخّر أنفاسها فوق راحتيه يشهق:
- أراك طفلة تدرج في الحقول ، شقية لا تعرف النوم ، فراشة الضوء ، غزالة تسابق الريح والسنابل .
- وهل ترك لنا الزمن في جرار العمر غير الدمع ؟
- لا دموع بعد اليوم يا حبيبتي ،، الليل حارس البحر لا تخشي عليه من القنّاصة ، انتهت الحرب ...
- ولم ينته الحزن ، قد نشلحه على جدار حديقة تنبت من ضلعه زهرة ، قد يورق في نيسان ويرتدي زرقة البحر وربيع الغيث ، يسافر بنا الى حيث كان الوقت يزحف مستجديا عيون السّماء أن ترفق بنا ولا تنسانا ..
يصمت الموج الاّ من التحام روحين فوق الرّدم ، بين ادراك المسافة والعناق يترك " ستيفانوس" لخياله أن يجاور غرف قلبها ويفرغ في كأس مناه خمرة روحها ، يرتشفها كعصير ليمونة ،، يفيق من سحابة دخان ثكلى ، من بقايا صور لشوارع تحتسي الدّم وأوراق مبلّلة بالموت الليليّ!
بجانب المقعد عصفور يبحث بين الرمال ،، يغافل حركة الشمس وهي تميل نحو المغيب ،، يوقظ الموج من صمته ،،،تململت " كارمن ":
- انظر ستيفانوس للعصفور المرتعش ، هل ينشد ضالته في هذا المكان ،، من بذرة سقطت سهوا تحت خبب الرمل ؟
- بل يبحث عن ثقب يدفن فيه رقصته الأخيرة !
يتمرّغ بماء تسرّب الى ريشه المنكمش ، نعال تتراكض لتقبض على جناحيه ، بين شهقتين يلتقط " ستيفانوس" بقايا حلمه ، يطفو على وجه الماء خيال لجسد يعبق برائحة الكرز الممزوج بعسل مرّ ...!!
هيام قبلان



القراءة / عايده بدر

بلغة تأخذ من الشعر هذا البريق نسج الحرف هنا قصته
هناك على شاطىء البحر جلس يغسل تعب الأيام و وجه الموج يحاوره ،، انتهت الحرب على الأرض التي غادرها و لكنها لم تنته في داخله فلا تزال ترسم بريشتها ملامح الألم و الحزن الذي خلفته في نفسه
حين نادته كارمن " بشرائطها الوردية و خصلاتها المنسدلة على وجهها القمري انتفضت روحه التي ودعتها منذ زمن طويل ،، غادرتها كما غادر أرضه ،، أخذته منها الحرب ذات همسة لم تكتمل وما تركت له فرصة الوداع
ذلك الشعر الذي تلون بشهب من صقيع الأيام و برودة اللحظات ،، ذلك البحر الذي لم يمنحه شيئا ها هو يمنحه كارمن من جديد لوهلة لونت اللحظات بابتسامتها ،، بلمسة من يديها دفأت صقيع يديه و تلك رأسها الصغير اتكأ في آمان على كتفه
مولودة من رحم الغيب حضرت الآن بعد أن جف ماء البحر في عينيه و اكتظت أيامه بأشواك اللحظات العارية من كل شيء سوى وريقات الخريف تضرب أيامه بصفرتها
هي عين واحدة أبقتها له الأيام و منها نظرا معا نحو ذكريات لم تواتها الفرصة لتصبح واقعا حلوا و لو لمرة اخيرة ،،، نظرات الشوق تطل من تلك العين الوحيدة التي اتخذاها هما الإثنان شرفة لهما يطلا على خريف الأيام من خلالها و هذا المرار يغلف كل شهقة نفس تزفر بها صدريهما
كانت الشمس حينها تبحث بشغف عن ذراعي الموج ليفتحهما تلقي بنفسها داخل صدر البحر لتطفىء هذا الشوق و على نغمة سكون الموج كان لحظة عناق الشمس بالبحر و الذكرى بالذكرى وقلب كارمن لؤلؤة الموج الساحرة بقلب استيفانوس ساحر الموج
لم يكن ذلك العصفور هناك ليشكل من اللوحة شيئا إلا حين تحرك ينتفض باحثا عن مكان يأويه فانفض عناق الشوق بين الكون ،، و ها كارمن تمد إليه يديها تدعوه لركضة أخيرة نحو الموج ،، ليقبضا على ريح فرت منذ زمن من بين أيديهما ،، ليمض استيفانوس وحيدا نحو كارمن الخيال الحي في جوف قلبه و ليطفو على سطح هذا البحر الذي بخل عليه يوما ببعض رزق و منحه ذات حلم أخير خيالها ليكمل الحلم و يغفو غفوته الأخيرة بين ذراعي الموج بين ذراعي كارمن لمرة أخيرة
و لا يترك لنا سوى تلك الذكريات بكل عسلها و مرارة واقع دثرته رائحة الكرز على وجنتيها
بلغة تحمل من الشعر تلك الخطفة التي يتركها فينا كان الحرف هنا مدثرا بكل هذا الجمال ،،، يرسم لوحته لخريف الذكرى يسبح في روح طالما كان الحلم زادها المتبقي لها بعد أن أتت الحرب على كل ما كانت تملك
و في لحظة لا تتكرر في العمر سوى مرة يتجسد الحلم واقعا يرسم بظلاله واحة لتلك الروح لترتاح فيها بين لحظات التعب المتكررة
كانت الخاتمة من الشاعرية ما خطفت الروح معها و أدمعت عيون القلب
فكم من ذكرى و حلم نود لو تجسد لنا و لو للحظات أخيرة تلامسها أناملنا و تبقى رائحة كرزها عالقة على وجوهنا للأبد
عالمين هنا حرصتِ سيدتي على رسمهما بعناية و اقتدار عالم ما قبل الحرب التي أخذت منه كل شيء و كان نتاجها هو جلسته المتألمة في انتظار أن يعطف عليه البحر ببعض ما يكسر وحدته و عالمه الرتيب
و عالم ما بعد انتهاء الحرب و تلك الوحدة التي ساندها خريف العمر بكل قسوته لتنهش من روحه الكثير فما أبقت له سوى بعض حلم جاء و أخذه معه في رحلةى كان يتمناها منذ زمن بعيد
أستاذتي الرائعة القديرة
هيام قبلان
هنا حرف قد من عمق الروح فخرج بكل هذا الشجن الذي تحمله المفردات التي حرصتِ علي انتقائها بعناية فجاءت لوحة البحر هنا بهذا الأزرق الذي لون صفحتها و شمس تميل للغروب آخذة بروح أضنتها عذابات الفقد البعيد
جاءت الخاتمة مفعمة بالمشاعر آخذة بعمق الشهقة الحزينة التي تخرج من صدور متابعي لوحتك الراقية هنا و هي تودع وجه الماء و تنتبه إلى أن هذا اللون الذي غير للحظات ظلال تلك الروح المسكينة لم يكن سوى حلم يقظة منحه له البحر حين جف عقله من الحزن
مبدعتنا القديرة و أستاذتي الحبيبة
لحرف يحمل بصمتك كان لابد و أن نعاود زيارة منابع النور
نأخذ قاربا من قوارب الشمس لنستطيع أن نبحر فيه بآمان
لروحك النقية الرائعة كل محبتي و تقديري
محبتي
عايده








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائعة
د. سعيد البدري ( 2012 / 8 / 3 - 19:51 )
سيدتي القديرة قرأت معظم أعمالك المنشورة هنا و انتشيت حقا من هذا الابداع الرائع الذي تقدمين بين ابداعك الخاص و ابداع القراءات تكمن مبدعة حقيقية تظهر من سطورها
كل تقديري لك سيدتي الرائعة
د. سعبد البدري
شاعر و ناقد


2 - امتناني و تقديري
عايده بدر ( 2012 / 8 / 4 - 13:35 )
أستاذي القدير د. سعيد البدري
فيض امتنان لرقيك قديرنا و حضورك الذي تعتز به حروفي و ترتقي
كل تقديري لرؤية راقية تمنحها لحرفي الخاص أو قراءاتي الخاصة بأعمال المبدعين
أسعد بتقديرك و رؤيتك و خاصة أنها تأتي من مختص بعلم النقد فكم رائعة رؤيتك قديرنا
مودتي و خالص الامتنان و الاحترام
عايده

اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا