الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بداية البدايات ... ام الحكايات

جهاد الرنتيسي

2012 / 7 / 16
الصحافة والاعلام


مررت على صحف كثيرة , وفي مواقع مختلفة ، خلال ما يقارب العقدين ونصف العقد الماضيين ، لكن الطليعة اول ما يتبادر للذهن ، حين يسألني احدهم اي الصحف التي عملت فيها الاقرب الى قلبك .
السؤال تتبعه اسئلة استفسارية ، ومع تكرارها على مدى السنوات الماضية , صارت هناك اجابة واضحة اكررها دون تردد ، وغالبا ما تتيح للبعض التجاسر ، واتهامي بالنوستالجيا .
التهمة لا تضير ، ولا تستدعي التوقف عندها في جميع الاحوال ، لانني لم اتعامل مع الطليعة يوما باعتبارها وظيفة في صحيفة ، بقدر ما كانت تجربة حياة .
حينما احاول تحديد بداية لتلك العلاقة اجدني امام بدايات تتشظى كذاكرة لاجئ تتكئ على روح قلقة وشتات مزمن لا شفاء منه .
اتحدث بلا تردد عن بداية ، ولكني حين اقترب من تلك البداية اجدني ، كمن يصف لوحة فسيفسائية .
1
وصل الدكتور احمد الخطيب اسطورة في حكايات الوعي الفلاحي التي كان يرددها والدي واصدقاءه ، والاقرباء .
التقط الطفل الذي كنته نبرة اعتزاز في الاحاديث المتداولة ذلك الحين ، على اسطح المنازل في الفروانية وخيطان ، عن جماعة الطليعة ورمزهم الطبيب الذي يداوي الفقراء بالمجان احيانا .
اختلطت مباهاتهم بلقاء الخطيب او تلقي العلاج في عيادته باحلامهم التي كانوا يعبرون عنها بحماسة واندفاع ، لا يخلوان من يقين بانتصار الثورة ، والعودة الى فلسطين .
حول كؤوس الشاي وفناجين القهوة ، في اماسي الصيف ، اختلطت ملامحه بملامح جورج حبش وكمال جنبلاط وفيدال كاسترو ، وبدت مجلته وتياره النبض الفلسطيني في الجسد الكويتي .
كانت الطليعة وجماعتها في صفحات الوعي الاولى واحدا من اركان منظومة عربية ودولية ، تضم الحركات القومية والوطنية واليسارية واليمن الجنوبي والاتحاد السوفيتي وكوبا ، يكفي ذكر اي منها ليصاب المرء بنشوة ما .
عقد من حبات اللؤلؤ قد تختلف اشكالها او احجامها او الوانها لكنها مربوطة بخيط الانحياز للقضايا العادلة وعلى راسها قضية الشعب الفلسطيني .
2
صارت الطليعة منبرا منشودا للفتى الذي استقر في صفوف اليسار الفتحاوي بعدما ضاق به صدر اليمين .
ندلف لاول مكتبة في الطريق الى ثانوية خيطان ، نسال عن العدد يوم صدوره ، نبدا من غلافه الخلفي ، الى صفحات القراء ، بحثا عن مقالة لفلان ، قصيدة لعلان ، واذكر ان الصديق القاص سمير البرقاوي كان من بين شركائي في هذه العادة .
خلف اسوار ثانوية خيطان لا يكف السؤال عن الطليعة يوم صدورها ، صورة الغلاف ، الموضوع الرئيسي ، ملف العدد .
حين ركبنا الحافلة متوجهين الى مقرها ذات يوم ، لم يكن خيالنا قد اهتدى ، الى مجسم لوجه الشهيد غسان كنفاني ، استقر على احد جدران المدخل .
ومع تكرار الزيارات تعرفنا على هدوء ماجد الشيخ ونزق محمد الاسعد دون ان نعي باننا اصبحنا جزء من المشهد الطليعي المفتوحة افاقه على ارجاء الارض الاربعة .
3
كانت خسارتنا كبيرة مع توقف المجلة عن الصدور ، لم يعوضها اتساع حضور "الحرية" و" الهدف " ، ونشر بعض ما كنا نكتبه في صفحات القراء ، ثم الصفحات الثقافية في القبس حيث كان وليد ابو بكر يتراس القسم الثقافي ، والوطن التي كانت المحطة التالية للاسعد .
لكن توقفها لم يطل ، عادت وفية لالتزامها القومي ، مع الانتفاضة الفلسطينية الاولى .
للوهلة الاولى لم نستسغ صدورها بحجم التابلويد ، ونحن الذين اعتدنا عليها مجلة غنية بتنوعها ، وذات شكل فني اقرب الى مجلات المقاومة ، لكننا راينا فيها صدى لحجارة اطفال الضفة الغربية وقطاع غزة .
كيف يمكن ان ندعمها ؟؟.. تداولنا السؤال للحظات انا والصديق سمير البرقاوي ، قبل النزول من الحافلة ، وخلال دقائق طرحناه على الاستاذ محمد الغربللي ، الذي قال لي نريدك معنا ، انهي التزاماتك الوظيفية ، وتفرغ للطليعة .
لم اسأل عن الراتب ، او تصريح الاقامة ، او التبعات ، توجهت الى شركة الالبان الدانمركية صباحا وابلغت ادارتها باستقالتي .
كانت الطليعة فرصة للتطهر من تشوهات في الروح ، وترسبات خلفتها مألات تجربة الانشقاق ، الذي عرف بانتفاضة فتح ، قبل ان يحتويه النظام السوري ، ويحوله الى جزء من ديكوره الفصائلي .
4
ان تكون في الطليعة يعني انك اخترت موقعا متقدما ، في صناعة الوعي الجديد ، ومواجهة قوى الظلام ، والانتصار لقضايا المظلومين ، اينما وجدوا ، وعبرت عن انحيازك الوطني والقومي والطبقي .
من الطبيعي ان يملي هذا الخيار نمطا مختلفا في العمل الصحفي يتمثل فهم"غرامشي" لدور المثقف وانحيازه لعصره .
على تخوم عصب الانحياز لقضيتي الاولى فلسطين صارت الاسطورة واقعا يوميا ، سامي المنيس بين مكتبه والديوانية ، يفكر طويلا ويتحدث قليلا بهدوئه وادبه الجم ، عبدالله النيباري ومذياعه الذي لا يفارقه في الممر الطويل بين المكتبة والارشيف ، والخطيب ياتي ظهرا ليجد الجميع بانتظاره ويحرص على شرب الكركديه ، والاشارة الى فوائده الصحية بين الحين والاخر .
في خلية النحل هذه لا بد من تحقيق الذات ، لم يكن غير الكتابة سبيلا لهذه الغاية ، ولا بد من متابعة كل شئ في هذا العالم ، لتكون مستعدا للقيام باي جهد صحفي ، يطلب او لا يطلب منك ، علك ترضى عما فعلت .
واكتمل البعد الحياتي في التجربة مع شباب الوسط الديمقراطي خالد الصوري ، محمد القلاف ، خلدون الصانع ، اماني البداح ، اسيل العوضي الذين كانوا يترددون على مبنى المجلة ونتبادل الحديث عن حلم احلال العدالة في عالم مبني على الظلم .
5
كان الحلم يسير جنبا الى جنب مع الهم اليومي ، وعلى راس همومنا الرقابة المسبقة على المطبوعات ، التي كان لها ثأرا دائما مع احمد النفيسي " ابو بدر " اطال الله عمره وقلل من انفعالاته .
الرقباء كانوا موزعين على الصحف اليومية ، خلال عملهم مساء يجيزون مواد المجلات والصحف الاسبوعية ، كنت احمل المواد قبل صدور العدد بيوم ، وما يتبقي منها صباح يوم الطباعة ، واتوجه بها الى رقيب الانباء ناصر الفرج .
مقالة النفيسي كانت تستنفر حواس الرقيب الفرج ، الذي يعرف بذائقته الرقابية الفقرة التي يحاول الكاتب ان يمرر فكرته من خلالها ، وغالبا يشطب بعض الفقرات وتثور ثائرة ابو بدر .
ذات مرة لم اجد الرقيب الفرج ، ولكي انتهي من اجازة المواد توجهت الى رقيب الوطن ، اجاز معظم المواضيع ، وعندما تناول مقالة النفيسي قال لي بارتباك انه لا يحبذ اتخاذ قرار باجازتها او منعها .
في احدى المرات حذف الرقيب في اللحظة الاخيرة اجزاء واسعة من استراحة الطليعة التي يكتبها النفيسي وكانت المطبعة بالانتظار ، لحل المشكلة اضطررت للقيام بعملية جراحية للصفحة ، طلبت من المونتاج تكبير صورة احد امراء الحرب الافغان الوارد اسمه في ما تبقى من الاستراحة ، وكان اسمه يونس خالص ، ضحك ابو بدر طويلا عندما راها في الصباح التالي .
ديوانيات الاثنين المطالبة بعودة الحياة النيابية كانت المعلم الابرز للحياة السياسية الكويتية في ذلك الوقت وذات يوم تم توقيف الخطيب والنفيسي .
اتصل بي الغربللي ، صباح يوم صدور الطليعة ، وسالني كيف ستتعامل مع الصفحة الاولى والحدث ، قلت له انني انتظر المشورة ، فاقترح ان تغطي صورة الخطيب كامل الصفحة لنتفادي التعليق والتباسات اللغة .
وبعد صدور العدد وصلنا كتاب من وزارة الاعلام ينتقد نشر غلاف لم تتم اجازته من الرقابة .
6
ارشيف الطليعة كان سجلا للحياة السياسية والابداعية ، نجد فيه مثلا مقالات للشهيد ناجي العلي ، قصص لم تنشر للشهيد غسان كنفاني ، لم يسعفنا الوقت ونكبة الغزو عن جمعها والكتابة حولها .
قامات طوال بحجم عبدالعظيم انيس ، وغالب هلسا ، وسليمان النجاب ، وغيرهم اتيح لي لقاءها في الديوانية المفتوحة على كل ما هو انساني وتقدمي في هذا الكون .
وفيها التقيت اخوة اعزاء على القلب وان لم التقيهم منذ سنين منهم الروائي وليد الرجيب ، واعزاء من البحرين عبدالله خليفة ، وفوزية رشيد .
قضايا عادلة اتيح لي الانحياز لها ، ومواقف اعتز بها ، عبرت عنها تحت هذا السقف ، الذي اراده اصحابه مرتفعا .
7
لعالم الطليعة طرائفه ايضا ، ففي احد الايام طلب المخرج محمد عجيزه صورة مع خبر عن جرائم الاحداث ، ناولته صورة لشاب نحيف يتم اقتياده مقيدا الى حافلة الشرطة ، ولم اكن اعلم ان ذلك الشاب النحيف لم يكن سوى احمد الديين وهو في مقتبل العمر ، وان الصورة التقطت بعد مشاركته في احدى التظاهرات .
في صباح اليوم التالي عاتبني ابو احمد المنيس رحمه الله بابتسامته الهادئة قائلا " الله يهداك ما لقيت غير صورة بوفهد تحطها مع خبر الاحداث " وحينما التقيت الديين في الديوانية بعد قليل بادرت للاعتذار ، وقابل اعتذاري بالتعبير عن سعادته، لانه لم يكن يعلم ان الصورة موجودة حتى ذلك الوقت .
ذات اثنين كان المرحوم المنيس قادما من احد التجمعات المطالبة بعودة الحياة النيابية ، سالناه والزميل عباس وهو صديق عراقي له ميول شيوعية عن الاخبار فبادرنا مازحا " تستانسون لما تشوفون كويتي ينطق " .
في احد الايام زارني صديق فلسطيني ، كان قادما من الاتحاد السوفيتي ، واهداني علبة سيجار ، حين نزلت الى المطبعة وفي يدي احدها ، هلل العمال مازحين " صاير برجوازي " طلبت منهم القدوم معي الى المكتب ووزعت عليهم ما في الصندوق ، التقاهم ابو احمد في الممر ، وسالني مستغربا ، قلت له هذه هدية من صديق وزعتها على الشباب ، خاطبني يومها ببعض الجدية قائلا " يا جهاد رح تحرق لي المطبعة " .
كانت تستهوي ابو احمد قراءة روايات سلسلة ذاكرة الشعوب ، التي لم تكن تصل الى الكويت بشكل منتظم ، وكنت اتشوق لقراءتها ، فقررت العمل بنظرية محمد الاسعد التي تقول بمشاعية المعرفة ، وطلبت من الزميل وليد عنداري وهو يساري لبناني كان يعمل في الارشيف ان يطلعني اولا على بريد المطبوعات ، قلت له ان ابو احمد مشغول بمعاركه ولا وقت لديه لقراءة الروايات ، وانقطع من يومها سيل ذاكرة الشعوب عن ابو احمد المنيس لاستمتع بقراءتها.
اصطحبني ابو بدر النفيسي اطال الله عمره في احد الايام الى جلسة مع الشاعر الكبير عبدالرحمن الابنودي ، كان قد وصل الى الكويت للمشاركة في ذكرى مرور 40 عاما على النكبة الفلسطينية ، في الطريق لفتت نظره سحب دخان ابيض تنفثه سيارة " وانيت " مما اثار امتعاضه ، قلت له بالتاكيد صاحبها طفران ، قال لي محتدا وما ذنب البيئة .
8
صورتان استحوذتا على الذهن وانا اغادر الكويت بعد الغزو والتحرير ، سامي المنيس وهو يبدي حسرته في صباح الثامن من اب 1990حيث كنت انتظره في الديوانية وكان يوم صدور المجلة ، قال لي يومها " فتشني جنود الاحتلال بعد خروجي من البيت .. لن تصدر الطليعة اليوم " وحين جئت اودع اهل الطليعة قبل بعد تحرير البلاد ، وجدت ابو احمد ينظر من شباك الديوانية متأملا ، وانفعل النيباري قائلا " خليك يا معود" حين قلت له بانني مغادر ، ولم يغب عن الذهن الاخ والصديق محمد اشكناني ، الذي تكفل بتكاليف شحن امنعتي ، حين لم اجد في جيبي ما يكفي لشحنها .
عندما جئت الى الكويت ضمن اول وفد اعلامي اردني يزور البلاد بعد الازمة رايت المنيس والنيباري تحت قبة المجلس ، لم اشعر بتغير كبير في الزمن ، ولم يتح ضيق الوقت لقاءهما .
وحين وصلني خبر وفاة ابو احمد ، شعرت ان واحدا من العائلة رحل ، هي الخسارات ، التي لا نعرف فداحتها ، الا بعد وقوعها .
.......
كلما تذكرت موقفا ، يولد اخر ، كما هو حال التجارب المفعمة بالحياة ، تستعصي على الوصف والكتابة ، يبدو ان تجربة الطليعة ، التي صارت جزء من ملاحي ، واشعر انني جزء من ملامحها ، بحاجة لاكثر من وقفة في عيدها الخمسين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوسا وفهد سال.. في تحدي اللهجة السودانية والسعودية.. من سيرب


.. كارثة بيئية في إندونيسيا.. إزالة الغابات للحصول على وقود الد




.. اليونان: تبرئة المصريين التسعة المتهمين في غرق قارب -أدريانا


.. صحف كاليدونيا الجديدة : شتّان بين ماكرون وميتران إزاء الأزمة




.. الجيش الإسرائيلي يكثف عملياته في رفح ومخيم جباليا وبيت حانون