الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استمرار الهروب_قصة

نبيل جديد

2012 / 7 / 17
الادب والفن


.... عندما تأكد علماء اللغة و الاجتماع و التاريخ و الآثار ، أن عمر الشيخ سعيد يتجاوز الأربعة آلاف عام ، لم يستطع أيا منهم المغامرة و إبلاغ الصحافة أو وسائل الإعلام شيئا ، لأن ذلك يعني وضع مستقبل المصرح على كف عفريت ؛ لذا أصروا بالإجماع : استكمال فحوصا جسدية للشيخ ، تتجاوز الإمكانيات المتاحة في القرية ؛ فتم البدء بإجراء تحضيرات غاية في السرية لنقله إلى المدينة ، بالتوازي مع إجراءات إقناع الشيخ بالانتقال الإرادي ، لكن مقدار الأخطار التي أحس بها من الاستجوابات المتتالية السابقة ، والوجوه الغريبة التي تتصنع البسمة ، جعلته يعلن : عدم رغبته بالسفر ؛ فوضعت هذه الرغبة موضع التقديس من أهل القرية جميعا ، و باتوا لا يفارقونه لحظة واحدة ، يتمسكون بمجالسته والاستماع إلى حديثه المنساب بعذوبة وهدوء ، بينما يتأملون جسده النحيل الشاحب ، وذقنه البيضاء المسترسلة قطنا على قمبازه الناصع ، فعادت الحياة إلى سهرات القصر الليلية بعد فتور وانقطاع ؛ الأمر الذي كان سيسعد العم حبيب بشكل باهر لو تمّ في زمن أبكر ،إلا أن استغراقه في مشروع الانفراد بالقصر ،جعله يستقبل الزوار ببرودة ،و يعامل الشيخ بلا مبالاة ، كأنه يقول : تأخرت يا شيخنا في لمّ الشمل ؛ ووجد نفسه يتعاون لحدود التآمر مع ابن شقيقه المرحوم كامل آغا ، ليعلن في يوم اختفى فيه الشيخ سعيد : دعاه العميد مالك لزيارة العاصمة ، ثم شرع في اليوم التالي بنقل أمتعة الشيخ من مكان إقامته في القصر ، إلى غرفة تفتقد الضوء والإطلالة ، ينفتح بابها مباشرة على زقاق صاعد إلى مقام أحد الأولياء عبر بيادر القرية ، و لتعويضه عن (المضلّة ) أهداه كرسي " ديبو " الضخم ، بعد أن أضاف إليها مسندين جانبيين وآخر خلفي ليتناسب مع جسد الشيخ الضئيل ، مضيفا للغرفة كل وسائل الراحة و الاستقرار الممكنة ، فارضا الواقع الجديد ،مستغفرا ربه مرات عديدة ،مرددا ما أمكنه من آيات الغفران والرحمة .
لم يكن أحد في التربة أو القرى المجاورة يعرف للشيخ سعيد زوجة أو ولدا ، و لا أبا أو أما ، و أكثر المعمرين يؤكدون : هذا هو شكلا وهيبة منذ ولدنا ؛ ومع هذا فقد ترك عليه الزمن عليه آثار رجل ستيني ، وبقيت ملامح وقار تتنازع السلطة مع تجعدات تغزو الوجه الذي حافظ على اللون الأبيض الشاحب رغم الشمس التي ما فتئ يتعرض لها مذ كان صغيرا ، وتعبير ( كان صغيرا ) مجازي فلم يستطع أحد تحديد هذا الوقت ، حتى روايته التي لا تتوقف عن حياته ، أفلتت ميلاده وطفولته خارج الزمن ، وما عرفه الجميع : أنه كان ملاحقا باستمرار ، ما يكاد يستقر في مكان حتى تهاجمه الدوريات الباحثة عنه ، وكثيرا ما أشيع مقتله ، إلا أنه سرعان ما يظهر في بطن واد مقفر ، أو على رأس جبل موحش ، ليبدأ من جديد ، يداوي جروحه ، ويطمئن لعزلة المنطقة ، ويتفقد من بقي من مواليه ، لينطلق ثانية معهم ، مستعيدا شبابه وزمنه ، منقطعا للصلاة و العبادة والصيام الطويل والأحاديث التي لا تخرج عن: الدين والاستغراق في الله وسيرته الشخصية التي اكتست ملامح تاريخ متجذّر ،عايش من خلاله أر سطو و أفلاطون و أنبياء التوحيد ؛ بل أن بعض الأحداث أكدت تواجده في أمكنة متباعدة خلال نفس الوقت ، ولم يكن هذا ليشغل أحدا ، بل أنه كان يبدو الحالة الطبيعية لمريديه .
كثيرا ما استغرقت الشيخ طمأنينة الذكريات مع " آه " طويلة : ....ما أحلى الأيام الماضيات ؛ وهو يسهم بنظراته ، كأنه يرى الماضي السحيق ويعايش شبابه وحيويته ، مقدرته وحركته ... ثم تأبى الملامح إلا أن تتعكّر بعد صفاء ،فتنطلق تنهيدة حرّى ،ليعبر بعدها : عن طعنة سيف اخترقت ظهره أثناء الصلاة ، أو السم المدسوس بعشائه أو ضربة مقصلة تفصل الرأس الأشهب ، أو بيداء قاحلة تجفف الأعضاء حتى التذري ؛ مستفيضا بالحادثة التي أفقدته سمعه ، عندما تسلق " حجاب السنديانة " هاربا و مختبئا ، واستظل الشجرة الوحيدة منقطعا لعبادته ، فما شعر إلا والأرض تهتز أو تدور ، وكأن الليل والنهار يتعاقبان بسرعة الرمش ، وهو يحزم جذع السنديانة بيديه ، وتخرج من أضلاعه صرخة مستجيرة لا إرادية : يا الله ، حتى استقر " الحجاب " في بطن الوادي قاطعا مئات الأمتار تدحرجا ، وفي منطقة ارتكازه نبقت عين ماء ملأت حفرة السقوط ، كما ترك "الحجاب " عند السفح ، أسفل القرية ، ينبوعا صغيرا ، لازال يظهر ويغيب ليذكّر بالحادثة : ( ومن وقتها لاأسمع شيئا سوى نداء " يا الله " يتردد في ذهني بأشكال مختلفة : مستجيرة ، خائفة ، تائبة أو متوكلة ) ؛ ثم يتابع فيض الذاكرة المزدحمة ، بالرغم من إجادته القراءة والكتابة ، إلا أنه لم يعتمد مخطوطة ، بل حرّم كتابة مشافهته ، متذرّعا : الذاكرة أكثر حرية ونشاطا ، أما القرطاس فقد يتعرض للتزوير و التحريف مع ضمانة مصداقيته ، وتوكيدا لمقولته هذه كان لا يحاور إلا الموثوقين ، أو من يقدمهم موثوقون ، فالحوار مع الجهلة خطيئة لا تغتفر . وكان هذا حكما نهائيا تعوده المريدون والموالون ، وانصاعوا له ، كما فعلوا مع كل ما نهى عنه ، أو ذكر به ، أو حضّ عليه ، حتى لو تم ذلك في الواقع أو عبر أحلامهم ، فلا يجرؤ أحد على مخالفة أو نكران ، خاصة كبار السن ... وكان هذا الاحترام يتبدى تبجيلا لدى الشباب ، وخوفا عند الصغار ، فمكانة الشيخ أعلى من السؤال .
لم يتمتع الشيخ سعيد في العاصمة ، بالرغم من كون العميد مالك من الموثوقين الذين يطمئن للتعايش معهم ، إلا أن بهرجة الألوان وصخب الحركة وروائح المختبرات أفقدته التركيز والرغبة ، أضف إلى ذلك تعدد الزيارات و اللقاءات والفحوصات ، مع الصدمة الكبرى عند عودته إلى القرية ليجد نفسه أمام الأمر الواقع بتبديل مسكنه ، فكان متكدرا لدرجة أنه أحجم عن أي رد فعل ، بل استسلم بالطريقة ذاتها التي سلم بها جسده للآخرين منذ أشهر ، لكن يوم العودة هذا بات صدعا في حياته ، إذ بدأت صحته تسوء بشكل ملحوظ ؛ ومع أن البعض اعتبر : الإقامة الجديدة هي السبب ، إلا أن الأكثرية أكدت مسؤولية زيارة المدينة عن تدهوره الصحي ، فقد تم الاستيلاء على جسده هناك ، بغية الكشف عن سر العمر المديد ، و معرفة حالته بعد هذه السنوات الطويلة التي يقدرها البعض بالآلاف ، مما أثار دهشة الأطباء ، فأكثروا من التحاليل و الخز عات و التخطيط و التصوير الشعاعي ، لتحديد ولادة هذا الجسد العجيب والسليم ، فنجحوا بتذكير جسد الشيخ بالأمراض التي لم يكن يعرفها سابقا ، لدرجة أن بعض أهل القرية ادعى أنه التقط جراثيم المدينة وأمراض المشفى ، أما ذوي النوايا الأكثر سوءا بثوا إشاعة تفضي إلى أن الأطباء حقنوه بمسببات الأمراض لدراسة مناعته ، وكان أعظم ما أصابه نزول غشاوة _ بدت متعمدة _ على عينيه ، قصرت عنها كل العلاجات التالية ، ولما كان التواصل معه لا يتم إلا عبر إشارة متقنة أو كتابة سؤال ، فان الضعف البصري الحاد والمزمن جعل الحوار مستحيلا ، فشخصت عيناه في لحظات ابتهال مديدة ، و لم يعد حديثه إجابة على سؤال ، أو حلا لمعضلة ، أو تدخلا في مسار حدث ، بل بات استرسالا و تداعي خواطر ، مما أفضى إلى ثرثرة لا معنى لها ، أو دعوات متكررة لمن يقدم خدمة عابرة في غرفته الجديدة ، فتعمد أهل القرية حمايته من عيون الصحافة و التلفزيون و اللقاءات بإخفائه تماما ، بل حتى نكران وجوده أصلا .
قيم القصر كان المسؤول الوحيد سابقا عن تأمين متطلبات الشيخ ، حتى أثناء حياة كامل آغا ، والذي استفاد كثيرا من معيشة الشيخ في قصره ليدعم سلطته ، إلا أن معرفة كل ذكور القرية لعادات الشيخ و أسلوب معيشته ، وكيفية قضاءه لليوم ، جعلت من اليسير عليهم الاستمرار بتأمين متطلباته حتى مع وجود حواجز اللغة والرؤية ، فبقعة الشمس تعني التواجد خارجا ، والإفطار المبكر ، أما طعام الغداء فيأتي بعد وقت صلاة الظهر ، والعشاء في وقته كذلك ، بالإضافة للنظافة الشخصية ، وترتيب الغرفة وتهوئتها ، ولم يقتصر أحد بعينه على خدمة بذاتها ، خاصة بعد أن أصاب جسد الشيخ الوهن وآلام المفاصل ، مما أفقده إمكانية المبادرة بالخروج مللا ، أو الدخول بردا ، فقام أول العابرين بحمله من سريره ووضعه على الكرسي الثابت خارجا ، بينما يجتهد مار آخر _ حسبما يرى من حالة الطقس أو غياب الشمس _ بإعادته إلى سريره ، ويوجه الشيخ ذلك السلوك بدعوة مقتضبة بالخير للفاعل ، و مع مرور الزمن تحولت تلك الدعوة إلى همهمة لا تفصح عن رضا أو رفض ، ثم بدا عصيان الهمهمة فكأنه غرق فيصمت أبدي ، ومع افتقاده للحركة الذاتية لم يلاحظ أحد كمية ما تبقى من طعام في صحنه لأن من يحضر وجبة يختلف عن صاحب الوجبة التالية ؛ فبينما كان الوعاء يبقى شبه ممتلئ في الآونة الأخيرة ، إلا أن تطوع مراهق يتيم على ملازمته ، بات الوعاء يبدو فارغا دائما ومغسولا وجافا ، ينتظر الوجبة التالية ، ومع اشتداد البرد وهطول ثلوج غير متوقعة ، لم يلحظ الرجال تغيبه عن الكرسي معظم الوقت أولا ، وغيابه تماما تاليا ، بينما استمر الشاب المعافى بالتنظيف والترتيب والتهوئة ، وشعر الآخرون بالسعادة لوجود الشاب ، فما اعترضوا على مشاركته الشيخ غرفته للنوم ولا على وقوفه على الباب وحيدا يرد السلامات ويتلقى الأحاديث ويدعو للدخول ؛ فالشيخ بات بحاجة لخدمة مستمرة يؤمنها _ عنهم جميعا _ الشاب المتورد صحة ، والممتلئ شبابا و حيوية ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة


.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها




.. الممثلة ستورمي دانييلز تدعو إلى تحويل ترمب لـ-كيس ملاكمة-


.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق




.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا