الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خشخاش السماء.. قصة.

حماده زيدان

2012 / 7 / 18
الادب والفن


هنا في ذلك الشارع، كانت الحكاية، والحكاية كما هو معروف لها بداية، ثم أحداث، ثم ذروة لتلك الأحداث، وأخيراً النهاية، وحكاية شارعنا بدأت منذ زمن لا نتذكره نحن سكانه، فقط خُلقنا فوجدنا أنفسنا في شارع كانت به محلات (السماء) للأعمال الخيرية تملأ جنباته كلها، وتلك المحلات لا تربح أبداً من أعمالها الموسعة، فقط تعمل الخير للجميع، ويصطف سكان الشارع يومياً في صفوف للحصول على بركات محلات (السماء) من فول، وعدس، وأرز، وطعام، وغيرها من الأشياء التي توزع بالمجان هناك، والمحلات رغم كثرتها في شارعنا لم يستطيع أحد سكان الشارع أن يعلمون من صاحب تلك المحلات الخيرية التي جعلت من سكان شارعنا (كروش) تمشي على أرجل، وجعلت من التنبلة صفة مميزة للجميع من أهل الشارع، وأصبح عنوان شارعنا الجديد هو شارع (السماء) تكريماً لهذه المحلات العظيمة ولصاحبها الخفي.
في الصباح يستيقظ سكان شارعنا، منذ الرابعة صباحاً على الصيحات التي تدوي من فوق مآذن المحلات، يخرج الجميع مهرولين، يصطفون في صفوف في تضرع ورهبة يتناولون أطعمتهم من خدّام تلك المحلات، يبكون كثيراً من هول الموقف، ويخرجون من المحلات محملين ببركات السماء، ويزفهم الخُدام إلى أن يصلوا إلي بيوتهم مطمئنين وسعداء بما حصلوا عليه من بركات السماء. يصل الفرد من هؤلاء إلى بيته، يُخرج العدس والفول ويضعهم في أطباق مباركة، ويقرأ كثيراً من الأدعية لصاحب المحلات الذي لم يراه، وبعد أن يأكل يرتدي أفخر ما لديه من ثياب، وينزل إلى الشارع سعيداً بهذا (الكرش) الذي انتفخ وظهر خلف جلبابه الأبيض الفخم. في الشارع يجد هذا الفرد الكثير مثله، يتحدثون كثيراً عن تاريخ شارعنا، وعن عطايا (السماء) التي لا تنتهي، يتحدثون كذلك عن صاحب المحلات، لا يذكرون اسماً له، ولا يرغبون في ذلك، لأنهم وببساطة لا يعرفون له اسماً، يطلقون عليه عدة ألقاب تداولوها جيلاً بعد جيل، ولم يستطع أحد إلى يومنا هذا أن يعلم لهذا الرجل اسماً ولا حتى تاريخ وجوده بالشارع، ولا تاريخ افتتاح أول تلك المحلات، ولكنهم وعلى كل الأحوال سعداء بالشارع وبعطايا السماء التي لا تنتهي.
للشارع قانون، وضعته إدارة محلات (السماء)، هكذا كانت الصفقة السماء تعطي، والشارع يسّير إلى ما تريده السماء، تقبلوا الوضع هكذا، وأصبحت تلك قوانين السماء، وأصبح صاحب محلات السماء هو الرب لسكان الشارع الطيب، وكانت القوانين على كثرتها جعلت منا نحن سكان الشارع مجرد قوالب من الطوب يزين بها صاحب محلات السماء شارعنا والذي تحول لشارعه هو بالفعل.
الحياة في الشارع أصبحت ركيكة، وأصبحت الحدوتة ليس لها مجال من الإعراب، وأصبح لابد لي من السكوت عن سرد حياة قوم لا حياة لهم، قررت أن ألملم أوراقي، وأشطب ما مضى من كلمات، لولا ظهور هؤلاء الغريبين في شارعنا، وهي المرة الأولى لظهور غرباء، كانوا للتدقيق غريبين، رجل وامرأة، زوجين كانوا، وكنا نحن في شارعنا لا نفضل الغرباء، لم يمر بيننا غريب من قبل، لا نعرفهم، ولا يعرفونا، نخافهم نعم نخافهم، هم لهم طبائعهم أكيد غيرنا، نحن نحب السلام ونطالب به ونعيش ونتعايش عليه، نحن نحب الدعاء نعم ندعي طوال ليلنا ونهارنا لصاحب السماء حتى يرضى عنا، نحن نحب أن نكون في سلبيتنا تلك، بل خُلقنا لها، أما هم فلا نعرف عنهم سوى إنهم زوجان جاءوا إلينا من شارع بعيد، ووافق على وجودهم صاحب السماء. اليوم الأول لوجودهم كان حدثاً تحدث عنه الكثير من سكان شارعنا، وأصبحا مساراً لإعجاب الكثيرين، لأنهم مختلفان عنا ربما، وربما لأنهم قد غيرا الكثير منذ أن هبطوا علينا في ذلك اليوم المشئوم.
اليوم هو ال... منذ هبوط هذان الغرابان إلينا، أيام كثيرة مرت رأينا فيها ما لم نتخيله، لقد رأينا بأم أعيننا تلك المرأة تعمل!!، كانت تمسك المقشة وتكنس أرضية الشارع الذي لم ينظفه أحد منذ سنين، ورأينا الرجل ينزل من الصباح يقلم الأشجار ويرسم بالمقص صوراً بديعة، ورأيناه يحمل الطعام لزوجته من فوق الأشجار لتطيبه هي ويأكلوه بعد أن يتعبا فيه، بطونهم صغيرة، ونحن لنا كروش، أجسادهم رشيقة، ونحن كالبطيخ لا تعرف لنا طولاً من عرض، الرجل وامرأته كانا علينا بلاء، ووجداهما في الشارع كان سبيلاً للتغيير، وكان بداية له، وبدأ ذلك عندما قام أحد السكان القدامى بالصراخ:
- هذا ليس عدل.. كل هذا للغريبين؟!!.. يعملون، ويأكلون من أعمالهم، بل وتقوم الزوجة بتطيب الطعام، ما هذا كله.. لقد مللنا من أصناف الطعام التي تقدم لنا، لقد مللنا من كروشنا التي ظلت تمتد حتى غطتنا.. لقد مللنا من ألوان ملابسنا.. مللنا من تلك الراحة وهذا الدعاء.. المساواة.. المساواة.. المساواة.
دوى صراخه في أنحاء الشارع، سمعه الجميع، وسمعته أيضاً السماء، وانضم إليه رجلاً أو اثنان أيدوه وصرخوا معه، والتف حولهم ثلاثة ثم أربعة ثم خمس.. ثم أصبحوا كثيرين وأصبح الوضع فعلاً مشتعل.
الشارع يزداد الغضب فيه، والزوجان مازالا بهدوئهم يباشران أعمالهم دون اهتمام لما يحدث، طالما رضي عنهم صاحب السماء، استمر العمل كما هو، واستمرت الثورة كما هي، واستمر الوضع لأيام كثيرة أخرى، دون تدخل من السماء مطلقاً، وعندما شعر الثائرون بأن ثورتهم لن تجد لها صدى عند السماء، وعندما مُنع عنهم طعامهم لسويعات قليلة، انفض الثائرون من حول ثائرهم الغريب، وأصبح وحيداً كما كان، فخفض صوته ثم راح مع صمتهم وانكتم.
علم الثائر الغريب يومها أن الثورة مستحيلة، وأن هؤلاء (البطيخ) لا رجاء منهم، فقرر أن يغير مسار خطته، وهنا بدأ في مصاحبة الزوجان فكان أعز أصدقائهم، وكانوا يخرجون ثلاثتهم كل يوم منذ الصباح يعملان الزوجان كعادتهم، ويشاهد هما هو لا يشاركهم أعمالهم لأن ذلك من المحرمات عليه، ولكنه يشاهدهم ليتعلم.. فقط ليتعلم ويترك أذنيه تسمعان همسهم، ويترك حواسه لتشعر بحواسهم، ويترك أنفاسه لتتعلم من نبض أنفاسهم، ليصبح وبعد عدد من الأيام أقرب إليهم من حبل الوريد، ويصبح صديقهم الأوحد في شارعنا، ويأتمنه الزوجان على ذلك السر الأعظم، وتبوح له الزوجة على ضيقها البالغ من هيئة سكان الشارع، ويبوح له الزوج عن احتقاره لتنبلة هؤلاء البطيخيين، وتحكي له الزوجة، ويحكي له الزوج، ويعلم الغريب الثائر أن الزوجان وضع لهما صاحب السماء كل الأشياء جميعها في خدمتهم، وجعلهم هم الأسياد على سكان شارعه، رغم كونهم غرباء عنه، زاد غضبه فوق الغضب، وزادت ثورته فوق الثورة، ولكنه تحامل على نفسه وسكت، وجعلهم يحكوا له أكثر عن ذلك السر، الذي عرفه كل تفاصيله الآن، والآن فقط قرر أن تستمر ثورته إلى النهاية، وقرر أن يكون غوايتهم الأولى، علم بأمر الشجرة، وعلم بأنها محرمة عليهم، ورغم كونها ليست الشجرة الوحيدة في الشارع إلا أنها محرمة، وبأمر رسمي من صاحب المحلات، سألهم..
- ولماذا تلك الشجرة بالتحديد؟!
انتظر إجابتهم، ولم يجدها، فسألهم من جديد، فلم يجد إجابة، فقرر أن يجيب عنهما.. فقال:
- لأنها شجرة (الخشخاش) من يحصل على ورقة منها يصبح مزاجه رائقاً، وتصبح الحياة أمامه هادئة وجميلة، أنظروا إلى أهل شارعنا يؤكلون من تلك الشجرة يومياً لذلك هم (سعداء.. مطمئنين.. فرحين) وأنتما لو حصلتما على نصيبكما من السعادة سيكون لكما حياتين حياة للشقاء والعمل، وأخرى للسعادة والاطمئنان، هيا نتذوقها معاً، سأتذوقها أنا أمامكما الآن..
اقترب أكثر إلى الشجرة، وقطف ورقة وأكلها، ثم ورقتين، ثم أخذ من ثمارها، ثم ضحك، وضحك، فنظرا إليه متعجبان ومعجبان بحالته، ونظرا إلى وجهيهما فوجدا شقاء ما بعده شقاء، فقررا في لحظة أن يتحديان (السماء) وأن يحصلا على نصيبهم من السعادة، اقتربا بحظر من الشجرة حتى وصلا إليها، ومد الزوجان الكفوف، وقطفوا عدة أوراق من الشجرة، ووضعوها جميعها في أفواههم، وظلوا يمضغا في حملهم منتظرين السعادة، وظل هو ينظر إليهم نظرة منتصر، حتى أتى الأطفال والتفوا حول الزوجان، وبدا للجميع أن هذا اليوم هو الأخير لهما في الشارع فخرجا بزفة من الأطفال، وشماتة الكبار، ولعنات من السماء، وسعادة للثائر الغريب على نجاح ثورته.
تمت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي