الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مذابح بورما .. مرة أخرى

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)

2012 / 7 / 19
حقوق الانسان


بعد أن كتبت مقالتي الأخيرة عن مذابح بورما، تلقيت ردود أفعال وتعليقات متباينة، ما بين مؤيد ومعارض، لكن أكثر ما أقلقني أن يكون هناك بالفعل مذابح مروعة يروح ضحيتها أبرياء ولا أُدين القتلة، أو أساهم في إخفاء الجريمة أو التقليل من شأنها؛ لذا كان لا بد من مراجعة الموضوع والبحث فيه بشكل أعمق.

ما حيرني - وأشرت إليه في المقال السابق - أنّ أخبار المذابح لا تذكرها وكالات الأنباء المعروفة، وربما يوافقني الكثيرون أن نشرات الأخبار في مختلف الفضائيات وعناوين الصحف المشهورة – وغير المشهورة – لا تتناقل هذه الأنباء، أو تذكرها بشكل عرضي ودون تركيز يتناسب مع ما يُنشر على صفحات الفيسبوك، وما زاد من تعقيد الصورة أن معظم الصور مفبركة ومزورة، وقد التقطت في أماكن أخرى في زمن آخر. ولكن بالاطلاع على تقارير صحافية يمكن الوثوق بها تبين لي بالفعل أن هناك مذابح حقيقية تجري بحق أقلية الروهينجا المسلمين في ميانمار (بورما سابقا). لذا اقتضى ذلك مني التنويه، وقيل: الرجوع للحق فضيلة.

للإعلام لعبته وسياساته وأجنداته، وهو غالبا موجه، ويخدم دول وجماعات معينة، فيركز على مقتل قطة ويجعلنا نذرف الدموع عليها، وقد يتجاهل مأساة شعب بأسره وكأن شيء لم يحدث، وبالتالي فإن إخفاء قضية ما، أو تجاهلها لا يعني أنها ليست موجودة، أو أنها غير مهمة. فكل جهة تحدد مدى أهمية الحدث وفقا لما يخدم مصالحها.

صحيح أن عدد الضحايا المسلمين في بورما أقل بكثير مما يشاع على الفيسبوك، ولكن سواء كانوا بالعشرات أم بالمئات فذلك لا يقلل من حجم الجريمة، ويستدعي منا جميعا إدانتها، خاصة أن معظم الروايات تؤكد على حرق وتدمير مئات المنازل وتشريد آلاف العائلات، ومن وجهة نظري فإن تشريد عائلة بدون ذنب هو أكبر وأخس جريمة بحق الإنسانية.

ما يجري في ميانمار التي تبنت الديمقراطية حديثا بعد عقود من حكم العسكر الديكتاتوري، أن الرئيس الجديد "ثين سين" رفع مستوى عمليات التمييز العنصري التي كانت ترتكب ضد الأقلية المسلمة في إقليم أراكان إلى مرتبة سياسة دولة ممنهجة ومعلنة، بإبلاغه مفوض الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن "الحل الوحيد لأفراد عرقية الروهينجا المسلمة يقضي بتجميعهم في مخيمات للاجئين، أو طردهم من البلد"، وعلى ما يبدو أن الحاكم الجديد أراد استغلال موجات المديح التي انهالت على بورما بعد تبنيها الديمقراطية بإطلاقه مثل هذه الأقوال العنصرية المتطرفة. لكن أجهزة الأمن والغوغاء لم يكتفوا بذلك؛ إذ أوصلوها إلى مرتبة التطهير العرقي. فوفقا لمنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، ذكرت تقارير أن قوات أمن الدولة قامت بحملات اعتقال جماعية للمسلمين، وأنها دمرت آلاف المنازل، ومع أن الحكومة أعلنت حالة الطوارئ وأوقفت عمليا أعمال العنف إلا أن أحوال الروهينجا ما تزال تثير القلق، والناجون منهم يتناقلون روايات مرعبة.

وبغض النظر عن الأسباب المباشرة لاندلاع أعمال العنف في البلاد؛ فإن ما كشفته أن أوضاع الروهينجا أقل ما يقال عنها أنها بائسة، وأن حقوقهم مهضومة، ويتعرضون لمعاملة قاسية لا تحترم إنسانيتهم، بل أنهم لا يعتبرون مواطنين، حيث يغلق دستور ميانمار كافة الخيارات المتاحة أمامهم ليكونوا مواطنين، باعتبار أنهم من أصول بنغالية، وأن أجدادهم لم يعيشوا في بورما، وأنهم جاؤوا مع الاستعمار البريطاني في القرن 19.

هذه الممارسات التمييزية ضد الروهينجا هي سياسة حكومة يمينية بامتياز، وتنطلق من أسس عرقية عنصرية، يسعى البعض لإلباسها ثوبا آخر، وإذا كان من يقترف جرائم التطهير العرقي من الأغلبية البوذية، فإن هذا لا يعني أنها حرب دينية؛ فالبوذية ترفض العنف كليا، ومن يمارس العنف والقتل لا ينطلق من وحي تعليمات دينية، بل يمارس جرائمه مدفوعا بغرائزه وساديته وأمراضه النفسية التي تغذيها أفكار التطرف والتعصب.

الجهات التي تنقل صور المذابح وتهول من الأخبار وتبالغ في تصويرها، هي إما جهات سياسية تريد صرف الأنظار عما يجري في منطقتنا، وتشتيت الجهود بعيدا عن قضايانا الرئيسة. أو جهات من الإسلام السياسي الذين يرغبون دوما بتصوير أي حادثة تجري ضد أي مسلم في أي بلد كأنها حرب صليبية أو عدوان على الإسلام. وللأسف في الحالتين تضيع الحقيقة؛ فإما أن ينجح الأعداء بتوجيهنا بعيدا عنهم (كما في الحالة الأولى) وقد رأينا في العقود الماضية أمثلة كثيرة على ذلك؛ حين كانت الحكومات العربية المأزومة تصدر أزماتها إلى أفغانستان وغيرها من مناطق الحروب الأهلية، وكانت إسرائيل تسلم من هجمات "المجاهدين" الذين صوبوا بنادقهم بعيدا عنها آلاف الأميال. وفي الحالة الثانية كان يتم التمويه على العدو الحقيقي، واختلاق أعداء افتراضيين، أو تكريس الطائفية بأبشع أشكالها.

إذا أردنا نصرة مسلمي البورما باعتبارهم أقلية مظلومة ومضطهدة؛ فإن ذلك يكون بطرح قضيتهم في المحافل الدولية، وإظهار معاناتهم للرأي العام، وتنظيم حملات إعلامية بطريقة محترمة وموضوعية، لا تستخدم فيها الصور المفبركة وعبارات التحريض الطائفي التي تدعو للكراهية والعنف، ولا تخدم قضيتهم بشيء؛ بل تخدم دعاوى المحرضين الذين يتاجرون بعذابات الآخرين.

وقبل أن نتحدث عن مظالم المسلمين في بورما وغيرهم من الأقليات المضهدة، علينا أن نتذكر أن في بلادنا العربية فئات اجتماعية محرومة، وأقليات طائفية وإثنية يتم سحقها وحرمانها من أبسط حقوقها، وعلينا أن نخجل من أنفسنا قبل أن نهاجم الآخرين.

وقبل أن نتحدث عن حرب على الإسلام، أن نتذكر أن من يسمون أنفسهم إسلاميين من الشيعة والسنة في العراق (على سبيل المثال لا الحصر) قد قتلوا من المسلمين الأبرياء المدنيين مئات الآلاف في حرب طائفية قذرة، ودمروا عشرات المساجد والحسينيات وهم يهتفون الله أكبر، وكان كل طرف منهم يدعي أنه ممثل الإسلام الصحيح والناطق باسمه. هذا دون أن نذكر الضحايا المدنيين الأبرياء من الديانات والطوائف الأخرى.

وقبل أن نوجه أنظارنا صوب بورما أو غيرها من المناطق المنكوبة، علينا أن ندرك حساسية المرحلة التي نمر بها، وخطورة الأحداث التي تتشكل من حولنا، وأن هذا يتطلب منا تركيز كل الجهود والطاقات على قضايا الحقيقية الملحة، وإنقاذ ما تبقى من روح الربيع العربي، مع ترحّمنا وتعاطفنا مع كل المظلومين في العالم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الصديق عبد الغني سلامة المحترم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2012 / 7 / 19 - 18:01 )
تحية واحترام
احسنت اخي الفاضل بالعودة الى الموضوع فشكرا جزيلا
اكرر التحية


2 - مواكبة الحدث.....
هوزان خورمالى ( 2012 / 7 / 19 - 22:53 )
شكرالك استاذ سلامة يبدو انك كاتب محايدويعطي الحق لمن يستحقة في المكان والزمان الذي يستحقة المظلوم وتدين الظالم في ظلمة بحق وفي كل وقت ,وهذايدل على ان الاستاذعبدالغني يواكب احداث ويحلل المجريات حسب نوعيتة ومعطياتة ,على كل حال مسلمي بورما ليسوا اول من يكون ضحاياالاهارب العرقي والديني المتعصب ففي عراقنا لم يقصر المذهبين بحق الاخر في القتل والتهجير بعد سقوط الطاغيةلكن كان على الاستاذ سلامة اعطاة موضوع مقالة بعدتاريخي مثلا اظطهاد الكرد في زمن امقبور صدام وخاصة فاجعة حلبجة وماسي بادينان وعملية التطهير العرقي الذي طال بدفن 180000مواطن كردي من شيوخ والاطفال وهدم 4000قرية واستخدام سياسية الاراضي المحروقة بحق ارض كردستان المقدسة وعلى الصعيد العربي كان لابد لاخ كاتب المقال الاشارة الى دارفور والمذابح التى ترتكب في الصومال على يدعناصر شباب المجاهدين على كل حال نحن الكردالوسائل اعلام الرسمية تم ادانة تلك المجازر الوحشيةو على الصعيد الشعبي ايضا لم يرضى الشارع الكردي لتلك المذابح في بورما بحق الاخوة في ميانمار وغيرها من الدول التى تعاني من الاظطهاد العرقي والديني والسياسي كواجب ديني واخلاقي وشكرا


3 - تحية للشعب الكردي
عبد الغني سلامه ( 2012 / 7 / 20 - 08:32 )
أخي هوزان خورمالي المحترم
شكرا على إطرائك وتعليقك ،، وفي الحقيقة أنا لم أكتب عن القضية الكردية رغم أهميتها وتعاطفي معها وتفهمي لحقوق الأكراد وتأييدي لهم، وهذا تقصير مني لعلي استدركه يوما ما
بخصوص دارفور فقد كتبت ونشرت أكثر من مقال ودراسة عن هذا الموضوع ربما تجدها في http://abedelghani.blogspot.com/ الصفحة الخاصة بي أو في مدونتي صدى الصمت
وكما تفضلت حضرتك هناك الكثير من المآسي والكوارث والمذابح التي تحصل في العالم ولا يستطيع كاتب أن يلم بها جميعها

تحياتي لك وتقبل مودتي

الصديق العزيز عبد الرضا
أجدها مناسبة لأعبر لك عن عميق شكري وتقديري واحترامي لك
ونحن دوما متفقون
وكل عام وأنت والعائلة الكريمة بخير

اخر الافلام

.. موريتانيا.. تقرير أميركي يشيد بجهود البلاد في محاربة الاتجار


.. اللاجئون السوريون -يواجهون- أردوغان! | #التاسعة




.. الاعتداءات على اللاجئين السوريين في قيصري بتركيا .. لماذا ال


.. الاعتداءات على اللاجئين السوريين في قيصري بتركيا .. لماذا ال




.. الحكم بالإعدام على الناشطة الإيرانية شريفة محمدي بتهمة الخيا