الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شجرة فقراء الله

صبحي حديدي

2005 / 2 / 13
الادب والفن


الأمريكي مورت روزنبلوم كاتب غير عادي: إنه مؤرّخ عناصر الطبيعة من شجر ونهر وسهل وجبل، وناقد ذوّاقة طعام ومطبخ وغذاء، ومعلّق سياسي، ومراسل صحفي، ورحّالة جوّاب آفاق، وشخصية كوزموبوليتية بامتياز: كلّ الأرض عنده وطن لكلّ البشر، وكلّ البشر سواسية في الإقامة على كلّ أرض!
لكنه، بسبب عمله في صحيفة «إنترناشنال هيرالد تريبيون»، عشق فرنسا فأقام فيها ردحاً طويلاً من الزمن. وذات يوم تعرّض لمشكلات قانونية اضطرّته إلى مغادرة شقته الباريسية، فاستأجر قارباً على رصيف نهر السين وجعله بيته، فكسب قرّاؤه عملاً فريداً بعنوان «الحياة السرّية لنهر السين». أعمال أخرى قادته إلى تفصيل الحياة تحت شمس توسكانيا، أو رصد تلك العلاقة العجيبة بين باريس والقمر، أو تحليل الطعام الفرنسي كما يسجّله كتابه الطريف «إوزة في تولوز ومغامرات مطبخية أخرى في فرنسا»، ومؤخراً اقتفاء أثر الشوكولا من أصولها الأبكر عند قبائل الأزتيك في المكسيك وحتى أفخم محترفاتها في فرنسا وسويسرا.
لكنّ كتابه الأجمل، في ظنّي، هو «الزيتون: حياة وحكمة ثمرة نبيلة»، الذي قد يكون التاريخ الأعمق والأغنى لهذه الشجرة المتوسطيّة الكونية، الأكثر احتشاداً بالمعاني الدينية والسوسيولوجية والإقتصادية. ومنذ الصفحات الأولى يختار روزنبلوم التعبير عن نُبْل ثمرة الزيتون اتكاء على الآية الكريمة: «الله نور السموات والأرض. مَثلُ نوره كمشكاة فيها مصباح. المصباح في زجاجة. الزجاجة كأنها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية. يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. نور على نور».
وللمؤلف مع الزيتون حكاية حقيقية، كانت باعثه الأوّل وراء وضع هذا الكتاب الفاتن، الأشبه بقصيدة مفتوحة على اللغات والقارّات والثقافات والأديان والعادات الزراعية، في مديح ثمرة نبيلة مباركة. ففي عام 1986 اشترى روزنبلوم مزرعة عتيقة في منطقة البروفانس الفرنسية، ورث معها 150 شجرة زيتون مهملة، فقرّر «إحياء» هذه التركة النفيسة. وكتابه حكاية اكتشاف شجرة الزيتون أوّلاً، ثم الثمرة ذاتها تالياً، وصولاً إلى تقاليد استثمارها شرقاً وغرباً. وكتابه أدب رحلات أيضاً، لأنّ فصوله تصف اقتفاء أوطان شجرة الزيتون: من فرنسا إلى الأندلس، ومن المغرب وتونس إلى فلسطين، ومن تركيا واليونان إلى البوسنة وكرواتيا وتوسكانيا الإيطالية، ومن كالفورنيا إلى المكسيك.
ولقد أتيحت له عشرات الفرص لكي يسجّل «سياسة» ثمرة الزيتون: كيف يقطع جيش الإحتلال الإسرائيلي أشجار الزيتون لأسباب أمنية، وكيف يحتطب أطفال سراييفو أغصان الزيتون لا للتدليل على السلام بل لاستخدامها كسيوف حين يلعبون لعبة الحرب، وكيف تفرض المافيا الإيطالية احتكاراً ثقافياً ـ مالياً على زراعة الزيتون وعصر زيت الزيتون، وكيف انقسم زيتون إسبانيا ذات يوم إلى ملكي وجمهوري...
وهو يشير إلى أن ثمرة الزيتون قد لا تعني عند ملايين الأمريكيين «أكثر من حبّة ديكور في قاع كأس من المارتيني»، لكنها عند مئات الملايين من سكّان سواحل المتوسط أشبه برمز كوني شامل لكلّ ما هو سخيّ ومبارك. «سوق الزيتون في مراكش قد يكون أجمل بقعة على وجه الأرض»، يقول روزنبلوم دون أن يعتذر عن المبالغة لأنه لا يبدو كمن يبالغ البتة!
إنه أيضاً لا يبالغ حين يستخدم عشرات الإستعارات الحارّة الخاصة بأرواح البشر في وصف حيوات الشجرة والثمرة والزيت. «إنها شجرة الله، ولهذا فهي شجرة فقراء الله»؛ وهي «الذهب الأسود الحقيقي في بلاد العرب، قبل آلاف السنين من انبثاق البترول في أيامنا هذه»؛ و«ليس عجيباً أن تكثر الضواري في البلاد التي تعيش على الزبدة واللحوم» بدل الزيتون. وغارسيا لوركا ليس الشاعر الوحيد الذي يزوّد روزنبلوم بالمتاع الغنائي اللازم لكي يواصل امتداح شجرة الزيتون. إنه يلجأ إلى لوحات رينوار وغوغان وسيزان، ويستعيد التشكيل البصري في السينما، بل ويستصرخ حفيف أغصان الزيتون في الموسيقى الكلاسيكية أيضاً.
وهو يقدّم عشرات الوصفات التي تدخل فيها ثمرة الزيتون، ولا يُستغنى عن زيت الزيتون في ضبط مذاقها. من كلّ بلد وصفة، وفي كلّ صنف من أصناف الزيتون ثمة أسرار خفيّة همسها في أذنه زارعو الزيتون حيثما حلّ هنا وهناك. وذات مرّة، حين كان في القدس، توقف أمام صفّ من أشجار الزيتون، وسأل الدليل المرافق له:
ـ كم عمر هذه الأشجار؟
ـ خمسة آلاف سنة.
ـ بلا مزاح، أرجوك.
ـ خمسة آلاف سنة، أقول لك... ربما أكثر!
الزراعة إلى جانب الشعر، والسياسة إلى جانب وصفة تحضير الطعام، والأسطورة إلى جانب المبيدات الحشرية. وفي فلسطين تحديداً سمع روزنبلوم تفصيل العلاقة بين الثمرة والجسد الإنساني، حين قال له زارع زيتون من جنين: «نحن بلا زيتوناتنا أشبه بأوراق في مهبّ الريح. شجرة الزيتون هي الأرض، وأجسامنا تتشكّل على هيئة الشجرة. كيف تتخيّلنا إذا قطع الإحتلال أجسادنا هذه»؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لما تعزم الكراش على سينما الصبح ??


.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة




.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?