الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وما أدراك ما لندن ! (4 )

سهر العامري

2012 / 7 / 22
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


وما أدراك ما لندن ! (4 ) سهر العامري
صرت كلما أردت الذهاب الى ضاحية ساوث هول ( Southall ) ركبت بالحافلة رقم E32 من على مقربة من الفندق الذي أسكنه ، ومنها بالحافلة رقم E5 ، وهي حافلة من ذات طابق واحد ، الى ضاحية كرين فورد ( Greenford ) ، كما صار يمكنني الركوب من ضاحية ساوث هول (Southall ) الى ضاحية أكتون ( Acton ) بالحافلة رقم 607 ، ومن هناك الى ضاحية همر سمث ( Hammersmith ) بالحافلة 266 كي أعود الى الفندق بالحافلة رقم H91 . هذا الدوران كان يرافقه دوران لسؤالين مهمين في ذهني ، كانا يتطلبان الإجابة مني .
السؤال الأول هو : أين رحل الإنجليز عن هذه الضواحي ، بل عن أغلب أحياء لندن ؟ ولماذا ؟ فأنت حين تسير في هذه الأحياء والضواحي تجدها عبارة عن مدن صغيرة هبطت من بلدان العالم الثالث ، فالشوارع غير متسعة ، لا تخلو من كسور وحفر ، والبيوت متلاصقة ، ضيقة المساحات ، تقادم عمرها ، وانهدت أركانها ، ولا غرابة في أن تجد هوائيات التلفزيونات قد اعتلت سطوحها مثلما اعتلت سطوح البيوت في البلدان المتخلفة ، كما أن جدران مقدمات بعضها قد تهدمت وتداعت بشكل جلي ، وبعضها الآخر تذكرك طريقة بنائه ببناء البيوت القديمة التي تقوم على ألواح من الخشب ، تحشى المسافات بينها بالصخر أو الطابوق الذي يشد بالجص عادة ، وهذه الطريقة هي طريقة قديمة عرفتها مدن الشرق القديمة مثل بغداد ودمشق ، وتعرف : ببناء ( التيغة ) ، ولكن مع هذا فإنني رأيت بعض العمارات الحديثة في طريق Great west مبنية بالطريقة ذاتها بعد أن أستبدلت ألواح الخشب فيها بقضبان الحديد التي تنتصب على الأرض بهياكل الضخمة ، ثم تحشى الفراغات في هذه الهياكل بألواح من مواد مصنعة بطرق حديثة ، أو بألواح من زجاج ، وهي طريقة بناء شاهدت مثلها في ضاحية شمرانات من العاصمة الإيرانية ، طهران ، ولكن الايرانيون كانوا يملؤون الفراغات ما بين القضبان بالطابوق .
لم يكن تقادم تلك الضواحي هو الدافع الذي حدا بالمواطنين الإنجليز الى هجرها ، وإنما السبب المهم الذي تعلو قامته على الأسباب الاخرى هو أن أغلب الأنجليز لا يروق لهم العيش مع مواطني البلدان التي استعمروها ، فهم ينظرون لهؤلاء البشر نظرة دونية ، ويعاملونهم باحتقار واضح ، ولا يريدون الاقتراب منهم ، وقد وصل بهم الحال الى تصفيتهم جسديا ، إن وقف هؤلاء بوجوههم أو لم يقفوا ، وهذا ما يفسر لنا الحروب العنصرية التي خاضوها في أمريكا ، وفي أستراليا ، وافريقيا ضد سكانها الاصليين ، وليس هذا وحسب ، بل تعالوا معي لنقرأ ما سطره منصف منهم ، هو الانجليزي يونغ جيفين رفيق الرحالة المعروف ، ولفريد ثيسجر ، وذلك حين كتب : ( كانت علاقة الجالية البريطانية بالسكان المحليين شبه معدومة ، وفي عام 1954م ، أي قبل اندلاع الثورة التي أطاحت بالحكم الملكي في العراق بأربع سنوات ، أتذكر وقوع شجار في النادي أدى الى انقسام تلك الجالية الى فئتين ، وقد حدث هذا عندما اقترح أحد أعضاء النادي دعوة محافظ البصرة ، ومدير الشرطة فيها الى حفل رأس السنة ، لقد جاء اقتراحه كالصاعقة في إحدى الليالي التي كانوا يلعبون بها البريدج ، فقد رد عليه أحدهم : ماذا تقول ؟ وصاح آخرون أيها الأحمق ! .. وبعد مرور أربع سنوات على هذا الحادث اندلعت ثورة 14 تموز عام 1958 م لتحول القضية فجأة الى وجه آخر ، من مسألة السماح لمسؤول عراقي بالدخول الى النادي البريطاني لمدة ساعتين في السنة الى مسألة السماح لأي بريطاني بالبقاء في العراق ) راجع كتابي : عرب الأهوار ص 23 . وعلى هذا يمكننا أن نتلمس أسباب هجرة المواطنين الانجليز لتلك الضواحي الى أماكن أخرى في المملكة المتحدة أو الى خارجها.
أما السؤال الثاني فهو : أين ذهبت الثروات الطائلة التي نهبها الإنجليز من البلدان التي استعمروها على مدى العشرات والمئات من السنين ؟ فالمعروف أن الإنجليز استعمروا بلدانا كثيرة ، بل قارات بكامل ثرواتها الطبيعية ، منذ أن تطورت الرأسمالية إبان الثورة الصناعية في بلدهم حتى وصلت الى مرحلة الإمبريالية التي تمثل أعلى مراحلها مثل يرى ذلك لينين ، وبعد أن تسلحت جيوش تلك الامبريالية الغازية بسلاح فكري قدمه لها واحد من أعتى مجرمي التنظير الفكري في التاريخ منذ أن شرع الفيلسوف اليوناني ، افلاطون ، نظريته في التقسيم الطبقي في كتابه الجمهورية ، هذا التقسيم الذي أباح إبادة العبيد من قبل أسيادهم ، مثلما أباح وضعا معاشيا بائسا للفقراء ، منصوصا عليه من قبل السماء في نظرية المثل التي حملها كتاب افلاطون المذكور من قبل .
كان المنظر الفكري ذاك هو الانجليزي ، توماس روبرت مالثوس المولود سنة 1776م الذي بشر بنظرية اقتصادية عرفت بـ "النظرية التشاؤمية" ، تلك النظرية التي شرعت الحروب ، وإبادة الفقراء من أجل أن تتوازن المعادلة الهندسية التي يتكاثر بموجبها السكان في هذه الأرض مع المعادلة العددية التي يتوفر فيها الغذاء لهم مثلما زعم هذا المنظر . ووفقا لهذه النظرية اندفعت جيوش المستعمرين البريطانيين بأساطيلها شرقا وغربا ، وذلك من أجل أن تقوم الطبيعة بإعادة توازنها عن طريق إنهاء حياة عدد كبير من البشر من خلال هذه الحروب المبررة التي تسحق فيها الطبقات الفقيرة ، فالرجل الذي لا معيل له - حسب مالثوس - ولا يستطيع أن يجد له عملا ليس له نصيب من الغذاء في هذه الأرض ، ولهذا تأمره الطبيعة بمغادرة الزمن بالموت في مجاعة أو في حرب أو في مرض أو في كوارث طبيعة كالبراكين والزلازل والفيضانات .
لقد أدت نظرية مالثوس إلى حدوث كوارث إنسانية رهيبة حين استخدمت سلاحا للإبادة الجماعية في الكثير من المستعمرات الإنجليزية ، ففي أمريكا مثلا ، ولكي يحدوا من تناسل الفقراء قامت السلطات الرأسمالية فيها بإخصاء الآلاف من أبناء العرقيات المضطهدة كالسود والهنود الحمر ، وقد عرف هذا الإخصاء بالتعقيم القسري ، ومع كل هذا لم تصمد نظرية مالثوس أمام التيار الهادر للتاريخ الذي يدفعه الصراع الطبقي ، فقد ظهرت تلك النظرية ، مثلما قال عنها ماركس ، عبارة عن سرقات أدبية كتلك التي يقوم بها طلاب المدارس ، فمالثوس قد أخذ جلها من سير جيميس ستيوارت وتاونسيند وفرانكلين وغيرهم ، وقد رأى ماركس أن الفقر سببه هو تركيز المال والثروة عند الرأسماليين ، وليس تكاثر السكان بالنسبة لما يتوفر لهم من غذاء على هذه الأرض ، فالعلم ، وفقا لماركس ، يستطيع أن يتدخل في هذه المسألة عن طريق تطوير أساليب الزراعة ، والعناية بالتربة وخصوبتها ، وهذا ما حدث فعلا ، ففي الوقت الذي بلغ فيه عدد سكان الأرض في عهد مالثوس قرابة المليار نسمة نجد أن هذا الرقم قد تضاعف في أيامنا هذه حتى بلغ قرابة سبعة مليارات نسمة ، هذا في الوقت الذي نشاهد فيه أن كميات الغذاء في المعمورة قد تضاعفت مرات عدة كذلك ، ولو قدر لمالثوس أن يخرج من قبره اليوم لشاهد بأم أعينه الكميات الهائلة من الأغذية المعروضة في أسواق لندن ، ليس للإنسان فحسب ، وإنما للحيوان هذه المرة ، فهناك من الأسواق ما تحمل الرفوف فيها كميات كبيرة من أنواع أغذية معدة بشكل خاص للقطط ، والكلاب ، يضاف الى تلك الأنواع الكميات الهائلة من الأعلاف المصنعة التي أوجدها العلم في السنوات الأخيرة للحيوانات الأخرى .
لم يقف التطور في المواد الغذائية عند حد كثرة أسواقها التي تزدان بها شوارع العاصمة البريطانية ، وإنما يتعدى ذلك الى بقية أسواق السلع المنزلية من أواني الأكل ، والأدوات الكهربائية ، وبعض الملابس ، والقرطاسية ، وما شابه . وأنك لتجد الكثير من المحلات التجارية التي كتبت على أبوابها : أرض الباوند ( Poundland ) ويعني ذلك أن كل ما موجود في هذا المحل يباع بباوند واحد ، أي ما يعادل دولارا أمريكيا ونصفا لا غير ، وبسهول يمكن أن تلاحظ أن جل العاملين في هذه المحلات ، وتلك الأسواق هم من المهاجرين . وعلى عادتي في الاطلاع على دخول العاملين في بعض الدول فقد سألت شابا مهاجرا من هؤلاء يقف محاسبا في واحد من تلك الأسواق عن مقدار ما يتقاضاه من أجر شهري ، فرد علي أنه رغم عدم امتلاكه لمؤهل دراسي متقدم لكنه يتقاضى شهريا (1400) باوند ، أي ما يعادل (2200 ) ألفين ومئتي دولار ، وهذا يمثل ثلاثة أضعاف ونصف من راتب شاب لبناني يعمل في سوق للمواد الاستهلاكية في بيروت كنت قد سألته عن راتبه حين كنت في زيارة للبنان ، وهو يمثل كذلك ضعفين ونصف الضعف من راتب طبيب عراقي في السنين الأولى من عمله .
يبدو لي أن حركة السوق هذه في مدينة لندن لا تختلف عن حركة أية سوق أخرى في بلد آخر لم يقم مواطنوه باستعمار بلدان أخرى ، ولم ينهبوا ثرواتها ، وحسب صحيفة التايمز البريطانية فإن السائح السعودي ينفق في "يوم من المشتريات" بلندن خلال صيف هذه السنة ما معدله 1900 جنيه استرليني مقارنة بمعدل ما ينفقه السائح الأميركي وهو 550 جنيها استرلينيا في اليوم الشرائي الواحد ، ويصل معدل ما ينفقه السائح الإماراتي الى 1194 جنيها استرلينيا ، بينما معدل ما ينفقه البريطاني هو 120 جنيها استرلينيا.
ومن هنا يظهر أن الفرد البريطاني هو الأفقر في هذه المجموعة ، هذا بعد أن كان رأسماليو بريطانيا قد استغلوا ثروات ضخمة نهبت من البلدان التي استعمروها ، ولكنها تبددت في أوجه مختلفة خاصة في التوسع والحروب الأزمات الاقتصادية ، والى الحد الذي صارت فيه الحكومة البريطانية الحالية ، وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم الرأسمالي ، تقايض حق الإقامة والسكن في بريطانيا مقابل مقدار من المال يقدمه مستثمر مصري يريد الرحيل بثروته لها من بلده بعد أحداث "الربيع العربي" في البلدان العربية ، هذا الربيع الذي أرادت من ورائه صانعو القرارات في البلدان الغربية أن يقيموا بناء سياسيا فوقيا متخلفا في تلك البلدان التي أطالها ذلك الربيع مستغلين كره الشعوب للحكومات الاستبدادية فيها ، وهي حكومات قاموا هم بدعمها ومساندتها من قبل ، وعلى مدى سنوات طويلة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل صغيرة منسية.. تكشف حل لغز اختفاء وقتل كاساندرا????


.. أمن الملاحة.. جولات التصعيد الحوثي ضد السفن المتجهة إلى إسر




.. الحوثيون يواصلون استهداف السفن المتجهة إلى إسرائيل ويوسعون ن


.. وكالة أنباء العالم العربي عن مصدر مطلع: الاتفاق بين حماس وإس




.. شاهد| كيف منع متظاهرون الشرطة من إنزال علم فلسطين في أمريكا