الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زواج الدمى لا ينجب أطفالاً حقيقيين ..

بشرى ناصر

2005 / 2 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


أظنني قد حكيت لكم من قبل (وبشكل عارض) عن صندوق طفولتي الذي عذبني كما عذب أمي ... الصندوق الذي يحوي مدني الفاضلة ونقيضها والتي كنت أبنيها ليس لأتلهى فقط ... وإنما كي أخلص من ضجيجي (الذي رافقني منذ سن مبكرة) وكانت والدتي تستاء من تلك العوالم ليس فقط لتتسببها في فوضى بيتنا الصغير ؛ وإنما لأنها (قلة أدب) كما وشت عمتي (الحولاء ) بي حين رأتني أدس خرقاً وأقمشة في بطن الدمية حينما أوشكت على الولادة ... تلك (العمة) ما كانت لتعرف وقتها أن الصغار يلتقطون ما يعجز الكبار بمدركاتهم الكبيرة عن التقاطه ؛ لا زالت تلك العوالم تسقط ظلها عليّ ... وتؤكد لي المرة تلو المرة : أنني لم أبارحها ولم أغادرها ...... عالم الصندوق الكبير الذي يخبئ دمى قطنية وأخرى أصنّعها بنفسي من أغطية الزجاجات وبقايا الأخشاب والخرق وما الى ذلك من نفاية تصلح لخلق نبلاء مترفون ... أو مهمشون وساقطون ..... هناك في صندوقي العجيب كانت دوماً دمية رثة (منتوفة) يخرج منها قطنها ... أرممها وأخيطها بنفسي لتكون الخادمة التي أتخيلها بأبهى حلة وأبهى صورة ؛ وبما يقنعني لأن تكون مستعدة للتحول لسيدة ... ذلك التحول الخطير الذي عذبني منذ سن مبكرة ولم أكن أعي وقتها أنه (التفاوت الطبقي) ؛ كانت حكايات أمي التي تروي نصفها ليأخذ منها التعب كل مأخذ فتغفو...ونظل منتظرين إكمالها ... تصنع بي فعلها وتأثيرها على أحسن وجه ؛ لأن ما تشعله الحكايات بي من نيران يكفي فعلاً لإكمال السردية نهاراً وبشكل معزول بعيداً عن رفقة المتطفلات من البنات ... طالما حاولت الكثيرات إقحام أنفسهن للعب معي ... وطالما كنت أرفض ؛ لعدم قدرتهن على الدخول معي لعالمي الخاص المتكون من قيمي وقناعاتي ؛ والذي ظللت أؤمن به رغم بلوغي الثالثة عشر من عمري ؛ ورغم دعوى أمي أنني كبرت ... لم أصدق أنني صرت أمرأة الا حين وشى بي جسدي ونقلني لقطيع الإناث عنوة ؛ وقتها فقط خبأت صندوقي الميت دونما أسراره وحكاياه وعوالمه ... لأنني اكتشفت أنها انتقلت معي للورق ؛ أو أنها لم تكن أصلاً في الصندوق وناس الصندوق ... فهي لا تزال هنا في رأسي ؛ وراحت صراعاتها تكبروتتطور وتتشابك على كريستال الورق ؛ وتدريجياً راح العالم الذي (تصورته) ينمو ويتشعب رغماً عني أيضاً ... فمع تزايد سنوات عمري كانت شخصياتي المثقلة بالأسى والغارقة بالضجيج تتوزع أدوارها واهتماماتها ... فلم يعودوا مستغرقون بالطبقية وما عادت اهتماماتهم حكراً على التوزيع العادل للثروة ... فقد اكتشفوا أن العالم يتغير بشكل مخيف ومرعب وبالقدر الذي لا يمكنهم من اللحاق بتغيراته والإمساك بها أو تأملها مهما لهثوا وانقطعت أنفاسهم ؛ ربما أكون( من اكتشف هذا الشيء وليس هم ) لكني من باب الولاء أو التحايل ظللت أكتب عنهم في كل مرة وبنفس الطريقة التي زاولتها منذ الطفولة : تخيل عوالم وهمية أجمل بكثير من العوالم الحقيقية طالما ظل عقلي متشبثاً بطفولته ومصراً عليها .. عوالم ليست شاحبة ربما يتخثر فيها الزمن أسند لها رأسي كنوع من الحماية ... أو ربما هي محاولة دؤوبة لترويض الخوف من هزيمتي الشخصية أمام عالم كبير لا يهدأ على حال ولا يستقر... فالكتابة بالنسبة لي لا تعني مد جسور من التواصل مع الآخرين بقدر ما هي (لعب) على بياض الورق لا يختلف عن اللعب القديم ... لأن الفرق الوحيد هو كتابة هذا اللعب ليقرأه الآخرون بينما كنت في الطفولة أحتفظ له بجانب كبير من السرية .
أما المكاسب التي تجلبها الكتابة فهي لا تقل أهمية عن( اللعب ) وما يجلبه للأطفال فكلاهما يجلبان الصلح والتصالح مع الذات ... وخلق موائمة بين الداخل والخارج ... بين المتوحش والمستأنس؛ بين الثابت المسترخي بوداعة وبين الضجيج المشحون بالجنون والتمرد .
ربما فضيلة (الكتابة ) برأيي : هي أن تعلق أحلامك لعالم آخر مختلف ... أولاً وأخيراً ؛ ولذا لا أجدني متحمسة لنشر ما أكتب ؛ بالقدر الذي تمثله لحظة الكتابة وما تمده لي من نشوة ولذة .
فنحن البشر غاية في التعقيد ... والا ما معنى إقبالنا على القهوة رغم مرارتها ؟ مدعين أن رائحتها تفتح ذاكرتنا على المدى كله ؟ لماذا نعشق رائحتها رغم أن هناك أكثر من عشرة ألاف رائحة يستطيع تمييزها الأنف ؟
بعد ذلك دعوني أقول : أن الكتابة أعظم مكافأة يمنحها الله لمن يستطيع تحويل تأملاته ومشاهداته ورغباته وجنونه الى حيوات أخرى بديلة ... مكافأة تفلت عنان المخيلة بحيث لا يتبقى هناك وقتاً لتحري التغيرات الطارئة على الجسد أوالوجه ... فأنت مشغولاً بتأمل كل شيء حولك ... ومشغولاً بتربص المتغيرات على العالم ... ومشغولاً بتوقك الحضاري الأجمل بكثير مما هو قائم ...
ولذا وعلى الرغم من أن الكتابة لا تنجب أطفالاً حقيقيين ... ولا تخلق عوالم ومدن فاضلة حقيقية الا أنني أتشبث بها دونما بدائل ... مأخوذة بالمستقبل ؛ وأرصد ما يحدث للعالم العربي ثقافياً منذ هزيمة ال67 وحتى اليوم ... أتابع حالات التغريب المستمرة عند شعوبنا أرصدها في موسيقى الناس وفي تفاصيل حياتهم ... مشغولة بها وتتعبني لتخترق حتى وجودي اليومي العادي ؛ مما يدعونا للسؤال نفسه في كل مرة : لولا الكتابة ماذا كنت سأفعل ؟ فالوعي مخرب ومدمر ؛ بحيث كلما ازدادت المعرفة واتسع الأفق لا تضيق العبارة فقط ... بل تمضي تدريجيا نحو الجنون ... دلوني على شخص واحد يمتلك وعياً ولا يكون مصاباً بحالة عصاب أو أكثر
؛ أو اكتئاب عميق ؛ أو على الأقل( دروشة) وقد أعاني من الحالات جميعاً رغم اعتقادي أنني متوازنة بمقاييسي طبعا .... لذا فنحن نمثل صوتاً لمرحلة ... نبدأ حيث وعينا الداخلي وحصيلتنا الفلسفية ؛ كم صدمة سببها لنا الواقع السياسي ؟ لا أدري .... فما حدث في لبنان عام 82 من مجازر لم نشفى منه بعد ؛ ولا زالت صرخة مكتومة في أرواحنا من وقتها ...مع هذا يظل الأمل يبللنا ؛ وتبدأ الكتابة تأخذ أهميتها مع بدء إحساسك بالعجز الشديد في الحياة ... أو قولوا تبدأ الحاجة لاستخراج (الصندوق) كلما اضطررنا لترويض الوحش الكائن في الواقع الصعب المستعصي على الملاحقةللتكيف معه أو لفهمه على الأقل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما بعد نظام الأسد.. هل تُحكم سوريا بقبضة الميليشيات؟ | #التا


.. هل تعدد الأجندات الإقليمية سيكون سلبيا على الوضع بسوريا؟




.. مطار دمشق الدولي سيعمل خلال أيام


.. الصين تحظر تصدير المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة




.. نشرة إيجاز - رئيس الوزراء السوري الجديد يقول إنه كلف برئاسة