الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موت أمريكي عاق

صبحي حديدي

2005 / 2 / 15
الادب والفن


رحيل آرثر ميللر (1915 ـ 2005) ليس مناسبة لامتداح كاتب مسرحي أمريكي كبير فحسب، بل هي بالقدر ذاته برهة استذكار واحد من أعظم ضمائر أمريكا المعاصرة، ممّن خضعوا ذات يوم لتنكيل وترهيب وتأثيم على يد المؤسسات ذاتها التي تفاخر بصناعة وإدامة واستدامة "الحلم الأمريكي" الشهير. إنها، أيضاً، برهة طَلَلية تستوجبها أية وقفة موضوعية أمام مآلات ذلك الحلم، على أنقاض ما تبقى منه في عبارة أخرى.
ففي عام 1947 انضمّ ميللر إلى لائحة الـ 320 من العاملين في مختلف اختصاصات صناعة التسلية ، حسب التعبير الذي يفرده القاموس الأمريكي لأعمال المسرح والسينما والغناء والأوبرا وسواها من الفنون، والذين مُنعوا من العمل في هذه الصناعة بقرار من لجنة النشاطات المعادية لأمريكا . وبالطبع، كانت أعمال هذه اللجنة قد دشّنت فجر الـ "مكارثية" بوصفها أسوأ استبداد ثقافي وفكري عرفته أمريكا علي امتداد تاريخها، أو... حتى تثبت السنوات القليلة القادمة أنّ الـ "نيو ـ مكارثية" التي يبشّر بها المحافظون الجدد اليوم لن تكون أقلّ شراسة! وكانت اللجنة قد بدأت عهدها باستجواب ما عُرف بعدئذ باسم "عَشْرة هوليوود" ممّن رفضوا التعاون مع اللجنة، فصدرت بحقّهم أحكام بالسجن.
إلي جانب ميللر توفّرت أسماء عدد كبير من خيرة كتّاب وفنّاني الولايات المتحدة آنذاك: ريشارد رايت، جوزيف لوزي، بول روبسون، ليليان هيلمان، داشيل هاميت، كليفورد أوديتس، لويس أنترمير، وسواهم. وذنب هؤلاء كان مزدوجاً: أنهم ينتمون بهذا الشكل أو ذاك إلى تيّارات اليسار، ويُشتبه تالياً بانتمائهم إلى الحزب الشيوعي؛ وأنهم رفضوا ممارسة الدسيسة على زملائهم والإدلاء بمعلومات عنهم إلى اللجنة. وفي كتاب السيرة الذاتية الذي أصدره سنة 1987 بعنوان "علي مرّ الأيام: حياة"، يروي ميللر تفاصيل مثيرة عن تلك الحقبة، لعلّ أشدّها تأثيراً في النفس ليس صموده هو أمام اللجنة، بل انهيار صديقه المخرج المسرحي والسينمائي الكبير إيليا كازان.
وكان كازان قد أطلق أوّل أمجاد ميللر حين أخرج "كلّهم أبنائي" في العام ذاته، 1947، وأتبعها بإخراج "موت بائع جوّال"، ثمّ مسرحية تنيسي وليامز الأشهر "عربة اسمها اللذة". وميللر، على نحو يمزج بين التعاطف مع الرجل والسخط الشديد على مؤسسة الكونغرس، يصف وقوع كازان في حيرة بين مواصلة مساره الفنّي والاعتراف على زملائه، أو التزام الصمت والاعتكاف بعيداً عن هوليود: "أصابني فزع شديد وأنا أصغي إليه. كان ثمة منطق قاتم في ما كان يقوله: إذا لم تُبرّأ صفحته فإنه لن يأمل أبداً، وهو في ذروة طاقاته الإبداعية، في إنجاز فيلم آخر في أمريكا، والأرجح أنه لن يُمنح جواز سفر للعمل في الخارج".
وفي فقرة أخرى يكتب ميللر: "لم يكن في وسعي سوى أن أقول إنه لا يمكن السكوت على ما يجري، ويجب أن تُطوى هذه الصفحة لأنّ استمرارها بلا إعاقة أو مقاومة سوف يلتهم الصمغ الذي يُبقي هذه البلاد متّحدة". ويضيف إنّ "الحُمْر"، ويقصد الشيوعيين حسب تعبير ذلك الزمان، "ليسوا هم الذين يصنعون مخاوفنا الآن، بل هو الجانب الآخر، وهذا لا يمكن أن يستمرّ طويلاً وإلا فإنه سوف يتلف عصب الأمّة، وعندها لن يفيد الندم. ولكني أخذت أميل إلى السكينة وأنا أفكّر بحجم التضحية التي كان كازان سيواجهها لو عرف أنني حضرت اجتماعات كتّاب الحزب الشيوعي قبل سنوات، وألقيت كلمة في أحدها"!
والحال أنّ لجنة الكونغرس تلك شُكّلت للتحقيق في النشاطات المعادية لأمريكا في صفّ اليسار وصفّ اليمين على حدّ سواء، ولكنها انتهت إلى استثناء الصفّ الأخير تماماً ونهائياً واقتصرت محاكم التفتيش على أهل اليسار وحدهم. كان مطلوباً من اللجنة أن تحقق مع المنظمة العنصرية الشهيرة "كو كلوكس كلان"، لكنّ رئيس اللجنة نفسه، مارتن دايز، كان صديقاً مقرّباً من المنظمة ومتعاطفاً معها وخطيباً في اجتماعاتها! عضو اللجنة جون رانكين اعتبر أنّ هذه المنظمة "مؤسسة أمريكية عريقة في نهاية الأمر"، وهذا ما أكدته زعامة المنظمة حين أبرقت إلى اللجنة مهنّئة: "كلّ أمريكي أصيل، وهذا يشمل أعضاء منظمتنا، يقف وراءكم ويساند لجنتكم في جهودها لإعادة البلاد إلى صاحبها الوحيد: الأمريكي الطيّب، الشريف، المحبّ للحرّية، والتقيّ الذي يخشي الله"!
لكنّ الوقائع اللاحقة أثبتت أنّ أمثال آرثر ميللر ينتمون إلى صفّ الأمريكي "العاقّ" وليس ذاك "الطيّب" الذي يحقّ له امتلاك أمريكا حسب تصنيف الـ "كو كلوكس كلان": ليس في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين فحسب، بل في سنوات العقد الأوّل من هذا القرن الراهن أيضاً. ألم يجاهر ميللر بمقته الشديد لكلّ ما يبشّر به جورج بوش من فتوحات في سبيل الخير، وحروب صليبية ضدّ الشرّ؟ ألم يصرّح، في حوار شهير مع أسبوعية "إكسبريس" الفرنسية، أنّ "هذه الإدارة تقود الولايات المتحدة من مصيبة إلى أخرى"، و"تلقي القبض على الناس في الشوارع، لا لشيء إلا بسبب أنّ وجوههم تدلّ علي انتمائهم إلى جنس معيّن"، و"تريد تحويل الأمريكيين إلى مباحث"؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟


.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و




.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا


.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف




.. فرحة الفنانة أمل رزق بخطوبة ابنتها هايا كتكت وأدم العربي داخ