الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أي أدب يُصور الكارثة ...آسيا بطلاً جغرافياً لحزن مطلق

خالد سليمان

2005 / 2 / 15
الادب والفن


أصبح عدد ضحايا موجات " التسونامي " المدمرة التي ضربت جنوب شرق آسيا شيئاً خرافياً في إزدياده ، وصار لقرن الواحد والعشرين خبراً يغذي نفسه من آثار لم تظهر بعد . فالأرقام اليومية للجثث والأشلاء التي تحتل واجهات التلفزة والصحف تضع المرء في دائرة حدث لا يمكن الحديث عنه في سياق الماضي ، لأن حصرها أو تحديدها بالأحرى ضمن التقديرات العامة بات شيئاً مستحيلاً منذ الساعات الإولى من الكارثة إذ تسلسلت - أي الأرقام- وفق إيقاع حكاية ميتولوجية نسج الخيال أبطالها من الجغرافيا ، من الشواطئ والجزر والحزن المطلق على كل شيء ، كل شيء ، البشر والمكان والماضي والمستقبل .
لقد تكدست الأخبار والصور رغم " قلتهما " من خلال تصاعد أعداد الموتى وبعض أشرطة فيديو صورها الهاربون من " ستريس " الشمال الغني ، واختفى الشواهد رغم " كثرتهم " بالشكل الذي رأيناه على الشواطئ المنكوبة ولم يعد هناك احد يتكلم أو يشهد على الصورة الداخلية للموت أو شعوره بالنجاة . صارت الجزر وبمقارنة مرئية مع ماضيها دليلاً قاطعاً بأن الحياة تفتقد للبشر فيها ، ولا يحتاج المرء سوى معاينة الدلالات الكارثية التي تبثها كل صورة تظهر في سياقها البيوت كاللامكان، والناس كالمجهول . هذا ما أظهرته قدرة الطبيعة عندما هزّت أعماق النفوس قبل اعماق مياه المحيط ووضعتنا امام أطياف موت متحركة تركت المجهول واختطفت الحياة .
منذ اللحظة الأولى من هذه الكارثة التي فرضت لحظة " تذّكر " قصيرة على منطق عالم النسيان سارعت وتيرة الإفناء في إخفاء الجثث والصقت شيئاً أكبر من الحزن بذاكرة الناجين الذين قد لا يتمكنون حتى بالتعبير عن أنفسهم لحظة هول الكارث. تحرّك عدد الضحايا تصاعدياً، وخلق في نفوس الباقين موجات سونامي أُخرى وستخلق غطاءاً سميكاً بين زمن موت " المقرّبين "وبين ناج سيصبح راوياً صامتاً لما رآه من تفاصيل المأسآة ، ويمكن بالتالي تأسيس عوالم روائية حول ما حدث دون شخصيات روائية ، لأن الذي نجا أهتزت أعماقه بدرجات تفوق تلك التي هزّت اعماق المحيط ولا يستطيع تذّكر ما حصل امامه إلاّ بعد إعادة إعمار الذات .
ولو قرأنا التقارير العلمية التي تتحدث عن اسباب هذه الكارثة نلاحظ ان الموت كان شيئاً مؤجلاً في تلك السواحل الآسيوية التي تحولت إلى مقابر جماعية لتاريخها وبقيت كجغرافيا مجردة من الذاكرة . يقول تقرير اعده المحرر العلمي لمحطة ( بي بي سي ) البريطانية ان أمواج سونامي هي :
(عبارة عن سلسلة من أمواج البحر السريعة والقوية التي تنتج عن الزلازل أو ثورات البراكين أو سقوط الشهب من الفضاء الخارجي في البحار والمحيطات. ويكثر حدوث ظاهرة أمواج سونامي في منطقة المحيط الهادي، حيث يوجد أكثر من نصف براكين العالم. وعندما تقع تلك الظاهرة فإن المناطق الساحلية تتعرض دون إنذار مسبق في بعض الأحيان، لموجات بالغة القوة. ويمكن لتلك الأمواج أن تحمل صخوراً من حوائط صد الأمواج، وزن الواحدة منها عشرون طنا، وأن تقذف بها لمسافة عشرين متراً. والفارق بين أمواج سونامي وأمواج البحر العادية هو أن طاقة الأولى تستمد من حركة الأرض وليس من الرياح. ويصل طول أمواج سونامي (أي المسافة بين قمة الموجة وقاعها) إلى مئة كيلومتر، كما أن الزمن بين إحدى موجات سونامي والموجة التالية لها قد يصل إلى ساعة كاملة ).
بين هذا التقرير الذي يتحدث عن مقدمات التسونامي المميتة وبين فتاة سريلانكية صغيرة نجت من الموت خوف لا يقل ثقله من ثقل تلك الصخور التي تقذفها الأمواج المدمرة نحو أجسادنا الهاربة من قمع يوميات العمل والسياسة والطقوس البخيلة ومن أرائك الظلام ايضاً ، وقد لا تعود السريلانكية الناجية بدورها إلى شواطئ بلادها ولا تنظر إليها ولا تتكلم عنها ثانية بعدما رأت فيها كل شيء يقتضيه الفناء ، لكنها تبقى شاهدة صامتة .
اصعب شيء في مثل هذه الحالة هو الكلام عما حدث والتواجد في مكان الكارثة التي ستلتصق آثارها بذاكرة الناجين لفترة طويلة . تقول انجيلا دوبون وهي محللة نفسية في مونتريال حول الأطفال الذين عاشوا تفاصيل الكارثة :
( سيتعرض الأطفال في مراحل نموهم إلى الإنكفاء وسيتوقفون عن الكلام للحظات ) ، لأن تلك اللحظة التي حصلت فيها المأسآة التصقت بذاكرتهم ولا تنفك عنها ثانية .
أي ادب يُصور كارثة تتوزع أبطالها بين امواج تستمد قوتها من إختصار الزمن وبين حزن مطلق يستند عليه الناجون ، من يصور تلك الصخور التي تُحلَّق خارج الزمن وتهزُّنا من الأعماق ؟ أي كاتب ، عندما يرى صور ما بعد الحزن خلقتها أمواج سونامي، يتماهى مع جيولوجي معزول داخل مختبره المليء باسرار الكون وينسى للحظة دنيا الشهرة والإيحاءات والنوستالجيا وإحتمالات الوقوع في براكين السياسة .
عندما قرأت الخبر للمرة الأولى تمنيت أن أكون جيولوجياً وأعرف ألف باء علم الأرض ، ليس لاني أسمع بالهزة الأرضية للمرة الأولى بل لأن " التسونامي " جاءت من أعماق المحيط وحملت معها صخور أسطورية تُوجت على اجساد البشر بعد ملايين السنين من السبات . لم يُصور العلماء هذه الصخور لكن وصفهم لها ولحركتها وسرعتها الخيالية في سحق الزمن مرعب ويضع المرء أمام اسئلة العودة إلى الميتولوجيا وتلك القوى التدميرية التي تختبئ في ماوراء الطبيعة وتخلق لدى الإنسان قرفاً حتى من وسائل تغذيته اليومية .
فأهل سريلانكا مثلاً ، معروفون بأكل السمك وهو بالنسبة لهم وجبة يومية ومصدر رزق جزء كبير من سكان هذا البلد ، لكن بعد التسونامي ما كان يريد السريلانكيون الذين فقدوا ذويهم في الكارثة أكل السمك ثانية ، لأن الأسماك كانت تعيش على جثث موتاهم منذ اليوم الأول من الزلزال . هذا ليس تصور اسطوري ولا هو وعي زائف ، إنما هو تلك الصورة المرعبة التي التصقت بذاكرة الناس أثناء حدوث الزلزال والفيضان والهيجان ، وقد يبقى الذين فقدوا " الأعزاء " لا يأكلون السمك في حياتهم ويقرفون منه للأبد . بجانب هذه التصور الإنساني المحزن الذي أنتجته صدمة الكارثة وأصبح جزءاً من الواقع اليومي للمنكوبين هناك صورة أُخرى أكثر مأساوية تتجسد في حضور الآباء والأمهات اللواتي فقدن أولادهن إلى الشاطئ في صباح كل يوم إذ ينتظرون الصغار على أمل أن يعيدهم البحر ولا يعتقدون انه – البحر- يبلعهم للأبد .
بين هاتين الصورتين يقف المرء في حال إستجداء تلك المعارف الجيولوجية التي ترسم الكارثة في خارج دائرة الأحساس بالموت ، لأن العالِم هنا يغدو مطالعاً لتلك المفردات التي تزيد من قوة الكارثة .
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية


.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي




.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز