الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحكامنا الإنسانية سبَقَت القانون الدَّولي المعاصر بمئات السنين

علي شفيق الصالح

2012 / 7 / 30
دراسات وابحاث قانونية


لو تتبعنا روائع الأحكام التشريعيَّة والقضائيَّة في حضارتنا، لوجدنا فيها أرقى صور العدالة والقِيَم, التي أبْهَرَت فقهاء الغَرْب وكُلَّ العالم وأسْهَمَت في إثراء الإنسانية.
وأعرض هنا بعض هذه الصور التي تدل على أهمِّية تشريعاتنا وسبقها مبادئ القانون الدَّولي المعاصِرُ؛ لِكَيْ نَسْتلهم من ماضينا العِبَر، ونحفز شبابُنا على مواصلة البناء الحضاري ووضع صياغة عصرية لتراثنا.
تشريعاتنا في تحريم الحرب سبَقَت القانون الدَّولي المعاصر بألف عام:
لم يُحرِّم القانون الدَّولي المعاصِرُ صراحة حُروب الاعتداء إلاَّ في ميثاق الأُمَم المُتَّحدة الصَّادر عام 1945م، وحَرِيٌّ بنا أن نفتخر بأن هذا الموقف وتحريمَ حروب الاعتداء موجودٌ عندنا قبل أكثَرَ مِن ألف سنة، وهذه من أرقى الصُّور وأعلقها بالإنسانية والعدل.
لقد حرَصَت موروثاتنا التشريعية على النَّفس الإنسانية وحمايتها، فقال الله تعالى: ﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].
وقد تعدَّدَت الأحاديث النبوية التي طالبَت المؤمنين باحترام النَّفس الإنسانية وحمايتها، فقد قال الرَّسول - ص- عن قَتْل النَّفس: إنَّها من الكبائر.
السَّبق في مبدأ إعلان الحرب أو الإنذار بالقتال:
تُعَدُّ قضية فتح سمرقند دليلاً على المبادئ المتمدِّنة والإنسانية في الحروب والقتال لدى الخلفاء المسلمين، فلمَّا استُخْلِف الخليفة عُمر بن عبدالعزيز وفَد عليه قوم من أهل "سمرقند" (الَّتي هي حاليًّا ثاني مُدن جمهورية أوزبكستان)، ورفعوا إليه شكوى تفيد أنَّ القائد المعروف قُتَيبة بن مُسْلم (الذي قاد الفُتوحات الإسلاميَّة في بلاد آسيا الوُسْطى)، قد دخل مدينتهم، وأَسكنَها المُسلمين على غَدْر دون أن يُنذِرَهم ويُمهلهم؛ لينظروا في الأمر كعادة المسلمين في القتال.
فكتب الخليفة إلى والي المدينة يَأْمره بأن يُنَصِّب لهم قاضيًا؛ لينظر فيما ذكَروا، فإن قضى بإخراج المسلمين أُخرجوا، وقال الخليفة: إنَّ نبيَّنا ما أمرَنا بالظُّلم ولا أجازه لنا، وإن الله أوجب علينا العدل.
وتم نصب القاضي جُمَيح بن حاضر الباجيِّ، فحَكَم بإخراج جيش المسلمين كلِّه، على أن يُنابذوهم على سواء؛ أيْ: يُنْذِروهم قبل القتال، وذَكر في حُكمه: "لقد خرَجْنا داعين في سبيل الله، وما خرجنا فاتحين أشَرًا وبطرًا".
ولما أراد المسلمون الخروج رفَض أهل سمرقند ذلك، فقد أعجبوا بأخلاقهم وعدالة حُكَّامهم وقُضاتهم، وقالوا: بل نرضى بما كان، ولا نجدِّد حربًا مع هؤلاء القوم، آمنونا وآمنَّاهم.
والنبذ هو دعوة الناس وانذارهم قبل القتال، وهو ما يسمُّونه في أيَّامنا "إعلان الحرب"، الذي لا يُعَدُّ القتال جائزًا بدونه حسب قواعد القانون الدَّولي المعاصر.
إقرار الفقهاء الغربيِّين بالقِيَم الإنسانية في الوصايا لقادة الجيش:
تؤكِّد وصايا الرسول - ص- لقادة الجيش، ثم وصايا بقيَّة الخلفاء الرَّاشدين في آداب الحرب - مدى إنسانية الإسلام وحِرْصه على حماية النفس الإنسانية، ولا يُدانيها ما وصلت إليه القواعد والمواثيق الدَّولية في العصر الحديث.
لننظر مثلا إلى الوصية الشَّهيرة للخليفة أبي بكر الصديق -رض- أوَّل خليفة للمسلمين، التي يُوصي فيها القائد أُسامة بن زيد أمير أوَّل بعثة حربيَّة في عهده، ويوصي جنوده، والتي تجسِّد الأخلاق والآداب السامية في الحرب، فيقول:
"لا تَخُونوا ولا تَغُلُّوا ولا تَغْدروا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تقطعوا نَخْلاً، ولا تَحْرقوه، ولا شجرة مُثْمِرة، ولا تذبحوا شاة ولا بعيرًا إلاَّ لِمَأكلة، وسوف تمرُّون على قوم فرغوا أنفسهم في الصَّوامع، فدَعُوهم وما فرَّغوا أنفسهم له".
وقد أقَرَّ العديدُ من الفقهاء الغربيِّين بأهمِّية هذه الوصايا، وبِفَضْل أحكامنا الانسانية على القانون الدولي، ومنهم البارون "ميشيل دي توب"، أستاذ القانون الدَّولي بمعهد الدراسات الدولية بـ"لاهاي" في هولندا، وأورد بعض هذه الوصايا، وذلك في الجزء الأول من مجموعة دراسات لأكاديمية القانون الدولي.
السَّبق في مبدأ المساواة بين المواطنين باختلاف أعراقهم وأديانهم
أن مبدأ المساواة التامة في الحقوق والواجبات بين كل المواطنين في نفس الدولة باختلاف أعراقهم وأديانهم وثقافتهم هو مفهوم حديث لم يظهر الا في أعقاب الحرب العالمية الثانية, ونص عليه الاعلان العالمي لحقوق الانسان. ولكن هذا المفهوم معروف عندنا قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة, وعكست العديد من الأحكام والتطبيقات عبر التاريخ هذه الحقيقة.
ونذكر هنا هذه الواقعة وذلك عندما فَقدَ الإمام علي رضي الله عنه دِرعه، ثم وجدها عند رجلٍ من أهل الكتاب ، فجاء به إلى القاضي شريح قائلاً: إنها درعي ولم أبع ولم أهب، فسأل القاضي الإمام علي رضي الله عنه هل من بينة؟ فضحك وقال: أصابَ شريح ما لي بينة، فقضى بالدرعِ للرجل، إلا أن الرجلَ لم يخط خطوات حتى عاد يقول: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء .. أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقضي عليه؟ الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين.
لذلك لا غرابة أن يذكر "جوستاف لبون" في كتابه "حضارة العرب" ما يلي: "لقد كان تأثيرُ العرَب في الغَرْب عظيمًا، وإليهم يرجع الإسهامُ الواسع في بناء حضارة أوربا".
و لا غرابة حينما عدَّد المؤرخ "سيدو" في كتابه "تاريخ العرب" فضْلَ قواعد تشريعاتِنا على الحضارة الغربيَّة، وعلى الأخصِّ في القانون الدَّولي.
وهكذا فإنَّ الحاجة تدعو إلى السَّير بهذا النَّهج، وتيسير سبيل الأبحاث الفقهيَّة والقانونية المعمَّقة، وابتكار الأساليب الحديثة لأجْل مواصلة نمُوِّ الحضارة.
(*) استاذ القانون العام والمقارن/ باريس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شهادة محرر بعد تعرضه للتعذيب خلال 60 يوم في سجون الاحتلال


.. تنامي الغضب من وجود اللاجئين السوريين في لبنان | الأخبار




.. بقيمة مليار يورو... «الأوروبي» يعتزم إبرام اتفاق مع لبنان لم


.. توطين اللاجئين السوريين في لبنان .. المال الأوروبي يتدفق | #




.. الحكومة البريطانية تلاحق طالبي اللجوء لترحيلهم إلى رواندا