الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انفجار (قصة قصيرة)

نافذ الشاعر

2012 / 8 / 1
الادب والفن


عندما دخلت الفصل في ذلك اليوم ذهبت مباشرة إلى السبورة، وكتبت عليها عنوان موضوع الإنشاء الذي أريد الطلاب أن يكتبوا عنه وهو "صفوا المدرسة والفصل الذي تتعلمون فيه". ولكي أتأكد من أن التلاميذ سوف ينفذون كلامي، قلت: "هذا سيكون موضوع الإنشاء في الأسبوع القادم، ولا يجب أن يكتب أحد منكم خلاف هذا الموضوع. وليكن في علمكم أن درجة هذا الموضوع سوف توضع في أعمال السنة. فلابد أن تكتبوا عن المدرسة والفصل وليس عن شيء آخر"!
وعندما انتهيت من كلامي انتاب جسدي دفء عجيب. وتحركت نحو شرفة الفصل، وتمنيت من قلبي أن تكون ملاحظاتي وتوجيهاتي مؤثرة.
لقد سئمت من كثرة حديث التلاميذ عن القصف والحرب والدمار، وكانوا يدخلون القصف والدمار في كل موضوع يكتبونه.. ولم أكن أعرف ماذا بوسعي أنا فعل؟. فطالما كررت لهم بأن هذا النوع من الكتابة لا يجدي نفعا، ولكن نصائحي لم تجدي معهم شيئا. ويا له من ألم على كل تلك الجهود التي بذلتها، والعجيب أنني لم أعثر بين طيات كتب التربية الحديثة على علاج لهذا ألأمر.
لم تكن الأمور على هذا النحو عندما بدأت عملي في السنة الأولى، حيث كنت أقول لهم اكتبوا عن فترة الصيف التي أمضيتموها. أو اكتبوا عن أمانيكم عندما تكبرون، فكانوا يكتبون أو لا يكتبون. ويعرضون الموضوع بعدة أساليب، ويحصل كل واحد على الدرجة التي يستحقها وكنت أقدم لهم ملحوظاتي، بالرغم من أنهم كانوا يكتبون أشياء ساذجة ومضحكة.

مرت الأيام وجاء اليوم الذي كنت أنتظره، ودخلت الفصل في تؤدة ووقار، وقبل أي شيء فتحت النوافذ، وعدت إلى وسط الفصل، ونظرت في عين كل واحد منهم بسرعة ، ثم قلت: "حسنا يا أبنائي! عن أي شيء كان موضوع الإنشاء؟
علت همهمة التلاميذ في أرجاء الفصل فرفرف قلبي من السعادة لأن هذه الهمهمة كانت تدل على أنهم كانوا يفكرون في الموضوع. وعندها يجب أن أختار الشخص الذي كنت أعرف أنه أكثر جرأة لقراءة موضوع الإنشاء. وفتحت السجل أمامي، ولم يكن الأمر بحاجة إلى مزيد من التفكير فقلت:
- رائد سلامة!
كان رائد يستطيع التعبير عن مشاعره، وأحاسيسه أكثر من غيره داخل الفصل، وكان يقرأ موضوعه بالإحساس الذي يناسبه، وكانت لديه القدرة على الحديث عن الحرب والقصف بحرارة مدهشة كأنها مراسل عسكري؛ فكان الدم يتدفق وجهه الأبيض وجبينه الوضاء!
وسمعت صوته وسط ضوضاء التلاميذ يقول:
- حاضر يا استاذ!
فقلت بعصبية: "أنا لا أنادي الغياب والحضور! أحضر دفتر الإنشاء وتعال إلى هنا لتقرأ موضوعك"
قام "رائد" المعروف بنحافته ورقته وجاء ناحيتي يحمل في يده ورقات، وعندما وصل إلي وسوست لي نفسي أن آخذ الورق من يده وألقي نظرة فاحصة عليها فقد كنت مشتاقا للاطلاع على ما كتب، وغالبا ما كان يحذف عبارات أثناء قراءته الجهرية، لا يود أن يسمعها الجميع. فنظرت إلى عينيه الواسعتين وقلت:
-أليس لديك دفتر إنشاء؟
-فأحنى رأسه قليلا وتردد برهة من الزمن، ثم قال بصوت خفيض كأنه عصفور صغير أصيب بنزلة برد:
-سامحني يا أستاذ لأني..
-حسنا.. حسنا ابدأ..

بدأ في قراءة موضوعه، بعد تردد يسير، ثم واصل: تتكون مدرستي التي أتعلم فيها من عشرة فصول. أجتمع أنا وزملائي في فصل واحد من هذه الفصول العشرة، يوجد بفصلنا نافذتان. أنا وزملائي 47 تلميذا. عندما يدخل معلمنا الفصل يذهب نحو النافذة قبل كل شيء ويفتحها..
سعدت كثيرا بهذا التدفق وكدت أطير فرحا، إلا أن حادثة مروعة قد منعتني، حيث سمعت صوت انفجار رهيب، وكأن السماء انطبقت على الأرض! ولم تكن صرختي وصرخة التلاميذ قد جاوزت أنصاف حناجرنا حتى وقع السقف على رؤوسنا، وانهالت على أجسادنا أكوام الحجارة والخرسانة والتراب.. وفي هذه اللحظة بدا كل شيء على حقيقته وغابت عن عيناي نظرات رائد الحزينة. وبعد لحظات أحسست أن يدي قد قيدت، وتحركت بشدة حتى أحرك جسدي، ولكني علمت أن هذا العمل بلا جدوى، وكان الاختناق يزداد شيئا فشيئا. وكنت أحس أنه لابد أن أصرخ وأخرج نفسي مرة واحدة من تحت الأنقاض، فأزيح التراب بيدي اليابستين. وبدأ الصراخ ونواح الأطفال يضعف ويتلاشى ويصبح مبهما ومخنوقا..
كان أهالي المدينة قد أخرجوني من تحت الأنقاض وكانت نظراتهم تحكي وقائع حادثة مروعة قد وقعت. ألقيت بنظرة يائسة ومتعبة وملتهبة حولي، وكان أول شيء وقع بصري عليه هو جثة رائد سلامة الغارقة في التراب والدماء. وكان قد أغلق عينيه الكبيرتين الحزينتين في هدوء حزين، وكان الدم يحيط بشفته السفلى المغلقة. وكان يحمله مدير المدرسة، الذي جاء إلى وهو يبكي وجعلني أرى رائد سلامة حيث كانوا قد غطوه بقطعة قماش. نظرت أولا إلى عينيه الساجيتين ثم أدخلت يدي تحت الغطاء أتحسس يديه، وكنت أتوقع أن تكون الورقة التي كان يصف فيها الفصل لا تزال في يده كيما أخرجها من يده والقي نظرة على موضوعه واحتفظ بها كتذكار من هذا الطفل الشهيد. ولكني أدركت أن يديه لم تكن في كتفيه النحيلتين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي