الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بُصاقُ اللامعنى

محمد البوعيادي

2012 / 8 / 3
الادب والفن


أهملت الكتاب جانبا وأخمدت السيجارة في المطفأة ، حدقت طويلا في الرماد المنثور على جنباتها، نقط صغيرة ملتهبة تموت مرارا، مسربلة في ثوب النوم الفضفاض الأبيض وقفت (ح) على حافة سطح العمارة الشاهقة، كان عاليا جدا بحيث يتبدّى الناس في الأسفل كقطرات زفت سوداء متناهية الصغر، في عباءة النوم كانت حافية القدمين، شعر سيء قصير منسدل على جنبات العنق البض الطويل، كتفاها الصغيرين منكشفان للشمس الشتوية المريضة، وقفت على حواف السطح الشاهق، تحملق في سحابة منعزلة تحتل سماء الشارع الكبير، في الأسفل يتبدى الناس والأشياء كالنمل الجائع، ينغلون في دأب وسرعة، هي كانت تراقب تلك الحركة المقلقة لهذه الكائنات البئيسة، يركضون، يتدافعون في الزحام، بعضهم يجرُّ أطفالا وآخرون يعزفون على الطريق عزفا منفردا، بعضهم مثنى كطائري شتاء مرحين، وآخرون يتوسدون حزنهم على أرصفة مبللة بالمطر ....
الساحة العمومية أشبه بعالم صغير فيه كل شيء، وهي هناك ترى ذلك الكل شيء وتسترجع ضيق اللحظات المنفرطة، إحساس غارق في القهر، مسلوبة الإرادة وفي أعماقها نفي ساحق للمشيئة الذاتية، تحس ذاتها مسبورة ومنكشفة أمام طاقة هائلة تفوق مقدرتها، تحتويها فعلا وعقلا، تفكر في يدٍ أشبه بيد الإله تخنقها، تكاد تقطع عنها أوكسجين الحياة، لربما اكتئاب عميق كهذا الحزن الذي لفها في كفن المساء الشتوي المُحايد، إذا يشبه ذلك الشعور المنفلت حالة اكتئاب حادة، الحزن كائن يثقل على صدرها لكن الأسباب مجهولة بحيث لا تستطيع وضع يدها على جرح ما وتقول هنا، هنا بالذات وليس في مكان آخر، تلك اليد جزت عروقها ذات حين، لم تكن يدها هي، كانت مجرد وسيط محايد أيضا، لثمت الشفرة ثم غمستها في رطوبة الرسغ الأيسر الرقيق ففار الدم كمنبع جبلي..لكنها لم تكن هي الفاعلة، تشعر أن مصيرا تراجيديا ينتظرها خلف كل فتحة باب، خلف كل منعطف، في كل حركة، في كل زفرة أو شهقة، إحساس ثقيل بغياب السيطرة على المصير، كانت قلقة ومنطلقة في الآن ذاته، أقلها ستضع حدا لهذا الضيق الأزلي، ستحلق عاليا ولا يهم ما يأتي بعد التحليق، هكذا فكرت...
الناس في المقهى المقابل للمبنى يعانقون الشاي الساخن المنعنع، يلهثون من البرد، يثرثرون حول أشياء لاقبل لهم بها، كذلك هم دائما، حين كانت تمر أمام المقهى حاملة قفة الخضراوات الشتوية أو سلة البرتقال الرخيص، كانت تنتبه إلى ثغائهم، معظمهم عجائز، رفضوا أن يصعدوا إلى سطح العمارة، خوفا أو جبنا أو مازوشية في لعق المأساة الفردية والجماعية حتى الثخمة.. فارغون، يرددون تراتيل الخواء في سكون، تتزاحم الأكتاف على الرصيف في خليط غير متجانس، يتدافعون، سيدة متعجرفة في مشيتها المضحكة تجر كلبا يكاد لا يبين منه إلا ذيل يلعب يمنة ويسرة، سيارة فارهة تدهس شيخا فقير الثياب، أثار ذلك انتباهها، ارتعبت عميقا كأن العجلات فرمت أضلعها هي، أشعلت سيجارة أخرى وأسهبت في اللوحة، تحلّق الناس ثم انفضوا من حوله كالذباب يجهز على جيفة صغيرة، ليبقى مسجى على قارعة الطريق ورقة دفتر قديم مرمية،..السيجارة في تركيبها بسيطة جدا، لكنها عندما تحترق تفتح مجالا آخر للتأمل، لفتها بين أصابعها الرقيقة في خمول وتثاقل، تأملتها قليلا ثم تأملت النفاث على الأرض الباردة، كانت حافية إلا من ضماد في القدم اليسرى تتخلله بقعة حمراء كبيرة، لم يبق في السيجارة إلا حريق دائري صغير على شكل خاتم ملتهب، فكّرت أنها مثل السيجارة تحترق على مهل، ثم تنتهي، وذلك الإله المتخفي الذي يحركها كالكراكيز هو المدخّن الشره الذي يستهلك جسدها وكيانها كلفافة ملغومة بمخدر شهي، إحساس بانفلاث الذات وانعدام الإرادة، إلاَّ حزن عميق كالمساء الشتوي يرابض في الخلايا المتجمدة...
فركت أعقاب السجائر التي أمطرت أرض السطح، فركتها بكعب القدم الحافية ولم تشعر بأي ألم، كان البرد قارسا وأطراف قدميها زرقاء بحيث تتبدى الشرايين ممتلئة بسائل أشبه بالمداد، أحست بمرارة آخر ما تبقى من السيجارة الأخيرة، وصلت إلى حدود الفيلتر البرتقالي، رمقته، انطفأ فأشعلته، دخنته رغم المرارة وكثافة الدخان الأسود القاتلة، أرادت أن تفعل شيئا لا يخطر ببال القدر، تلك اليد، الطاقة الهائلة التي تشعل سجائرها ، جسدها، والتي تحدد لها ساعات النوم وساعات البكاء، امتلأت حنجرتها بضجيج الدخان، التصق الدخان بفتحة الحلق كأنها مدخنة قديمة، تلمظت فظاعة السم الأسود قليلا ثم بصقت نحو الأسفل وراحت ترصد رحلة البصاق عبر عشرات الأمتار من الفراغ، بصقة كبيرة وخضراء.
.........................................
عندما استفاق الكاتب (ب) مساء، بعد أن شرب كأس قهوة ودخن سيجارة رخيصة دون أن يتناول شيئا، كان هناك شيء منفرد بعقله،يشغل باله، فكرة واحدة تسيطر على جُماعِ كيانه : كيف يمكن أن يتخلص من قصة مأساوية بخسائر أقل؟.
فكّر قليلا في أن يمزق ما كتبه، كم مرة مزق أوراقه بعد ليال من الأرق والرقن على الآلة الكاتبة؟، كم مرة أمسك الأوراق من حوافها ثم قرّبها من سيجارته المرابضة على الشفتين؟، يجلس يراقب الكلمات يجتاحها مد أسود عند حواف الشعلة، هذه كلمة فكر فيها طويلا، هذه مفردة بحث عنها في القاموس مرتين، هذه سمعها في فيلم ما، يحرق كل شيء حين يشعر بغليان نزعة الكمال التي تحاصره كقضبان من الهلام، منذ كان مضغة وهو يرفض النقص في كل شيء، ينقح كل ما يكتبه مرات ومرات، أحيانا يقوم ليلا أو عند الفجر ليغير كلمة ما ثم يعود لينام في توفُّز وقلق...
بعد أن استيقظ تماما وحادت حمرة النبيذ عن محيط عينيه المريضتين، نظر إلى نافذة غرفته المدفونة تحت الأرض، اكترى تلك الغرفة من سيدة عجوز، صغيرة وأثاثها قليل، جدرانها مغلفة بكارتون أحمر سميك وباهت، لكنها تشعره برغبة في الكتابة وهذا هو الأهم، رمق النافذة حيث قطرات المطر تصنع وجها زجاجيا باكيا، تريث قليلا وأفسح لنفسه فرصة كي يجد نهاية ملائمة للقصة الملعونة، قرر أنه سيخرج إلى عالم الآخرين، لعله يجد إشارة أو حادثة أو شيئا ما يلهمه نهاية ممكنة، أو على الأقل فكرة تخرجه من مأزق الجمود الذي وصله مع تلك القصة بالذات، ارتدى معطفه الشتوي الثقيل وقبعته المستديرة وأرخى الزمام لساقيه تعانقان رصيف الشارع المليء ببرك الماء المتجمدة، مشغول الخاطر، تتراقص في مخيلته المتعبة ألف فكرة وألف سيناريو مستحيل لقصة بسيطة تورط فيها عندما لم يجد ما يفعله، أصبحت تلك الأقصوصة لعنة رازحة على صدره، تحتله إصباحا وإمساء، لعن اليوم الذي قرر فيه أن يصير كاتبا، ندم على كأس البراندي التي زجته في هذه الورطة، لا هو يستطيع ترك ما بدأه لأن الشعور بالهزيمة ينخر وعيه، ولا هو يكمل لأن الشخصية أعجزته عن إيجاد حل ، إذ تنامت الشخصية البطلة حتى صارت تساويه في السلطة أو تفوقه، تشعره أنها سيدة مصيرها وهو أمر لا يمكن أن يقبل به...
في الشارع الكبير حيث الساحة العمومية راح يحصي سكنات الفضاء وحركاته، عساه يجد ضالته في حركة هاربة من ثقل المكان وطغيان النظام القاتل أو الفوضى المنظمة كما يسميها دائما، لكنه لم يرصد شيئا، تابع مسيره البطئ إلى أن اصطدم بجموع الناس متحلقين حول جثة، اقترب بفضول الكاتب عساه يرمق ما قد يساعده، كيف مات أو ماتت؟ لربما....
لم يكن سوى عجوز مسجّى في دمائه، دهسته سيارة غالية الثمن، هكذا قال الكثيرون دون إغفال ذلك التفصيل: غالية الثمن.
توقف طويلا عند الجثة المتورمة من البرد، أوغل بعينيه الحمراوتين في منظر الدم النازف من صدر العجوز المهشم، كان يتابع قطيرات حمراء متلألئة تنحدر نحو مجرى الصرف الصحي، الناس – وبنغمة واحدة – كانوا يأسفون للنهاية التافهة وبعضهم يمطط عبارات مفرغة من أي معنى تتردد في حالات مماثلة دون أن ينسى ذكر: سيارة غالية الثمن..
لم يعطه الدم النازف أية فكرة، بل لم يشعر بأي شعور يسبق الفكرة في العادة، بدا له أن موت البطلة اللعينة مستحيل، لا يمكن أن تموت كالشيخ بكل تلك البساطة الفجة، سيكون من التافه أن تموت مصادفة وببساطة مماثلة، خاصة وأنها نجت من تجارب أخطر صاغها هو بكلتا يديه، فهي لما حاولت الانتحار للمرة الثانية لم تغرس الشفرة جيدا في رسغ اليد، فقطعت شريانا واحدا استطاع الطبيب إلى شفائه سبيلا، فكيف لها أن تموت بحادثة سير طبيعية إذا؟ حتى ولو كانت السيارة غالية الثمن..
رجع القهقرى قليلا ثم استدار، تخيّل أن شخصية مسخوطة كبطلة قصته لا يمكن أن تموت أبدا، إنها أزلية لذلك سيبقى ألمهما أزليا، ربما هي خالدة إلى الأبد، وربما معاناته ستطول مع هذه المخلوقة الورقية لأسابيع وأسابيع قبل أن يستسلم كما يفعل في غالب الأحيان، من يدري؟
لكنه لم يستسلم لاستنتاجه ذاك، كان (ب) يعرف أن الشخصية الورقية تستطيع أن تقاوم غريزة الموت والقتل التي تقود القلم فتجعله كمقصلة لجميع من سخط عليهم مزاج الكاتب - الإله، لكنها في نهاية المطاف تستسلم لنظام الحدث، فتسعد إلى الأبد أو تموت و تنعدم، لذلك قرّر أنّ شخصيته المؤرقة ستموت، مهما كان الثمن ستموت، أولا لأنها حاولت أن تنتحر قبل ذلك، فهي أصلا تريد الانعدام، ثانيا لأنها عنيدة جدا، فقد بلغت بها الصلافة إلى تحديه بشكل سافر وهو ما لن يغفره لها أبدا، لذلك سيكون من المنطقي أن يقتلها، تموت في حالة انتحار ثالثة وأخيرة، بقي أمامه فقط أن يحدد شكل الانتحار وساعته.
تفرّت شفتاه عن ابتسامة خبيثة، شعر بزهو وارتياح، يبدو أنه اكتشف أي السبل سيتبع في إعدام البطلة، ولنا أن نتصور كيف يمكن أن يقتل قصّاص إحدى أبطاله الذين يكرههم ويتواطأ مع القارئ لإنهاء حياتهم بكل صخب وعنف ممكنين أو غير ممكنين...
......................................
سعيدا وشبه مرتاح، كان القصاص الحقود يسارع الخطى إلى غرفته الصغيرة ليأخذ القلم و يجهز على (ح) التي أذاقته المُر واستعصت عليه لأيام وليال طويلة، كان متوفزا تدفعه طاقة داخلية هائلة نحو مكتبه الخشبي القديم ليأخذ القلم ثم يكتب سطرا أو سطرين ينهي بهما المأساة التي تورط في دهاليزها الخفية، أحس بانزياح الثقل من على صدره وبتوقف الطنين الدائم داخل جمجمته، طنين دام لأربعة أيام بلياليها، الآن سيبقر بطنها ويستخرج أمعاءها ليستريح بعد ذلك ويعود إلى حياة الهدوء والكأس، كان(ب) متأكدا هذه المرة من أنه قادر ومتمكن من مصير القصة، إنه في مستوى النهاية، سيواجه البطلة بكل عنف وحزم، ثم يقرر مصيرها ببرود، لن يستسلم لتلك المسحة البريئة على وجهها، لتلك النعومة الثلجية التي خلقتها يداه، سينسفها بلا شفقة، سيضع نهاية فقط، ليس أمرا عسيرا إلى هذه الدرجة، من تحسب نفسها هذه الشخصية اللعينة؟، إنها ليست أكثر من خاطرة طارئة زارته في حانة فارغة، وستغادره في غرفة فارغة أيضا فوق منضدة خشبية مهترئة، على ورقة بيضاء فارغة أيضا...سيسيل دم على تلك الورقة ويخرج عن إطارها ليلطخ المكتب..
بعد أن قطع أمتارا قليلة أحسّ (ب) بشيء يلطم قبعته من فوق، شيء سقط من علو شاهق، مد يديه فإذا هي لزوجة مقرفة، قلب القبعة بين يديه، بصقة، إنه تُفال آدمي يلطخ قبعته الأنيقة، شعر باحتقار وحنق كبيرين، سبّ وشتم وقرر مدفوعا بجنون الكتاب وغضب المَبصوق عليه أن يصعد إلى سطح العمارة كي ينهال سبا وشتما على الباصق، و لربما يدفعه – مبالغة – من فوق السطح...
كابد (ب) مشقة الصعود حتى انهد كاهله، أحس عياء يسري في أوصاله من طول السلالم، وطوال مدة الصعود كان حقده يزداد اشتعالا وغضبه يتنامى شيئا فشيئا ككرة ثلج متدحرجة، اعرورق محيط العينين من الشرر وانتفخت الأوداج، سألقن درسا لهذا الحيوان قال بينه وبين نفسه، هؤلاء المتخلفون يبولون على الأسوار أمام الجميع ويبصقون من الشرفات على الجميع، لابد من الصفع و الشتم، ومن غيري يصلح لذلك؟، فكر أنه بعد أن يسب ويشتم سيعود إلى غرفته ، يشرب كأس قهوة ساخن ويصنع ب (ح) ما حصل للبصقة، سيرميها من الطابق الأخير لعمارة ما كي تتشظى هامتها البديعة وتنكسر كالزجاج المبثوث على أرض الرصيف ، بعد أن ينسج حالة وصف دقيق لضيق نفسي موغل، لحالة اكتئاب داغل، سيتهشم هيكلها العظمي ويسيل مخها لزجا فيختلط مع تراب الأرض، ثم تموت ككلبة، سيبكي قليل من القراء و سيعود هو للكأس ليخلق ورطة جديدة، يندم، يعاني، ثم يجهز على بطل أو بطلة، تصور لحظة السقوط... جسد أبيض رقيق يسقط كشراع منتفخ من عل، اليدان مقلوبتان إلى الخارج والأرجل مفروشة بالعكس، حيث تقابل بعضها بعضا، كل ذلك حين تقصم السقطة مفاصل الكوعين والركبتين، ليبقى الوجه غائصا نصفه في الأرض، بعد أن يتآكل من هول الصدمة فتسيل محتويات الرأس مهروقة كزبدة لزجة ....
عندما بلغ الكاتب الحقود إلى نهاية السلالم كان منهكا ككلب بعد رحلة صيد في شعاب وعرة، فتح باب السطح، صدمه التيار البارد، تبدت له شابة في عباءة نوم بيضاء وفضفاضة، كان الريح ينفخ العباءة بقوة وهي واقفة على حافة السطح تحملق في الأسفل، لم يتبين ملامحها عن بعد، كانت بعيدة ومولية إياه ظهرها، صرخ حانقا: أنت، أيتها المريضة...استدارت نحوه بهدوء.
.................................
وخزة عميقة كطعن المدية في الكُلية، شعر بشيء بارد ينزل مع ظهره كقطرة مطر متجمدة، إحساس بارد أكثر من برودة المساء الشتوي، لربما هو إحساس بالتفاهة أو صدمة وعي هائلة رجّت كيانه، آن استدارت نحوه أحس (ب) بعبثية المشهد، بدوار خفيف ودهشة داغلة في نسيج الجسد، أتكون هي (ح) ذاتها؟ لا يعقل وإن يُعقل فأنا أحلم، قالها تحت ثأثير اللحظة وهو لا يكاد يشعر بأطرافه السفلى .
المرأة التي أراد أن يقتلها على الورق، التي أراد لها سقوطا من على عمارة ما، تقف مباشرة أمامه على حافة سطح شاهق، حافية القدمين، غائرة العينين، بتفاصيلها الدقيقة التي خطتها مخيلته، الوجه الصغير المستدير، القد الطويل الممشوق، التفاصيل الهاربة في القلق، حمرة البشرة الذهبية، الحاجبين المرتفعان قليلا، كل شيء كل شيء.
بقي المشهد كما هو عليه لدقيقة كاملة، لقطة بانورامية من لقطات خياله المبدع الذي يتّقد حضوره وهو يكتب، تبادلا نظرات غريبة، أحس أنه يحلم، لربما كان يحلم، من يدري؟، صفع نفسه، ضحكت وهمّت بأن تحلّق من فوق سطح العمارة، أحست هي الأخرى أن ذلك الإله المتخفي على بعد أمتار منها، ذلك الشيء الثقيل الذي يجثو على أنفاسها طوال تلك المدة، رمت السيجارة من يديها وهمت أن تطير، لكن جاءها الصوت هيّابا:
+ انتظري.
حملقت فيه بريبة وارتعاش، حقل كهرومغناطيسي قريب منها، تشعر بانجداب نحوه وكأنه مغناطيس كبير، خوف وإحساس باندفاع مفاجئ، نزلت من على الشريط الإسمنتي الذي يحف سطح المبنى دون أن تريد ذلك، تريد أن ترمي بجسدها نحو الأسفل، هكذا يقول الصوت النابع من الجمجمة، هكذا يملي عليها الطنين المستمر، لكن الجسد كمسمار ينجدب، لا حول ولا قوة للعقل ولا للشعور عليه.
اقترب (ب) منها ، توقفت هي، حبسا أنفاسهما، كأنهما يغوصان في عمق البحر، لم يكن أحدهما ليصدق شيئا مما يحدث، لاهي تصدق أن القدر الذي كان يرسم مسار حياتها يقف أمامها، وأنّا للقدر أن يأتي شخصيا بقديمه إلى إنسان؟ وأين؟ في الطابق الأخير من عمارة قديمة، ولا هو يصدق أن (ح) التي خلقها بقلمه في غرفته الحميمة تقف أمامه دما ولحما،عارية الصدر ، حافية الأقدام، عيناها هما ذاتهما بالتفاصيل المملة، الأشفار الطويلة الناعسة، البؤبؤ الأسود الواسع، الجفن المسهد الغارق، النظرة العسلية الكسولة ذاتها كما أرادها، بل كما تخيلها تماما، كانا في لحظة انخطافة لا تُصدّق بتاتا، هل يكون الشيطان يلعب بهما، بعقليهما، بعاطفتيهما، بوعييهما؟ ولما؟ وإلا فما يكون هذا الشعور؟ أزائف هو؟
اقترب منها في وجل وحيطة ، كان مصدوما ومتحمسا، استعداده الدائم لأي شيء ساعده على حفظ توازنه، رغبته الباتولوجية في كل غريب دعمت ركبتيه فصمد واقترب ، أما هي فبقيت جامدة في مكانها، تنتظر اقتراب القدر منها:
+ لا تخافي لن أؤذيك، أنا منذهل فقط، لا أكاد أصدق.
+ لست خائفة منك بتاتا، من أنت؟ لقد جئت في وقت غير مناسب، انصرف فقط، لا شيء لتفعله هنا.ماذا تريد مني ومن تكون؟
+ أنا ، أنا....
+أنت ماذا؟
+ أنا ..، لا أحد، مالذي تفكرين في فعله الآن؟
مفجوعة الفرائص استمرت في سؤاله:
+ وماذا يفعل لا أحد في سطح عمارة خال ، لاشيء يستدعي صعودك، أرجوك انصرف .
+ أنت لاتفهمين، لا يمكن أن أنصرف الآن، أنا في خضم كل شيء، أنت من صنع خيالي، صدّقيني.هذه هي الحقيقة.
أسهبت في ضحك متوتر، لكنها كانت تشعر أن هذا الرجل يقول شيئا عميقا، في داخلها صوت لا يكذب وإن كان عقلها والمنطق ينفيان ما يقول.
+ الحقيقة؟ هل أنت في كامل قواك العقلية أيها الغريب؟
+ لا أدري حقا لا أدري، لكن دعيني أقول فقط أنك يا آنسة (ح) من صنع خيالي تماما، لا يمكن أن تكون مصادفة، هذه الملامح و التقاسيم المنحوثة برفق، البشرة الحمراء القمحية، الطول، النظرات، أنت لست مصادفة هذا أكيد، وإلا سأنسف رأسي مع الحائط.
+ كيف عرفت اسمي؟ من تكون أنت؟، أحس كأنني أعرفك من قبل، تكلم، لم يعد لديّ وقت طويل. يجب أن أذهب، وأنت كذلك.
+ أنا لا أعرف اسمك فقط، بل أعرف كل تفصيل فيك، كل وشم في جسدك، كل شبر، انكساراتك،أفراحك القليلة، ماضيك، حاضرك، لكني أعترف، أجهل مستقبلك، أعترف الآن أني أجهل مستقبلك، بعد أن وجدتك خارج أوراقي أشهد أنك حرة تماما فيما سيحصل لك مستقبلا. لربّما أنت في عُهْدَةِ كاتب آخر الآن...
+ ماذا تقصد؟ إلامَ ترمي؟ لا أصدق ما تقول، لكني أعترف، أحس أنني أعرفك منذ زمن بعيد، غير أن ذلك لا يغير شيئا عليك أن تذهب الآن. انصرف كي لا ترى ما لن يروقك.
+ أعرف أيضا أنك تفكرين في الموت، الآن، و ربما أكون السبب ، بل أنا هو القدر الذي قادك إلى هنا عليك أن تتوقفي الآن، لقد غيرت رأيي تماما، يمكنك أن تعيشي، سأغير كل شيء، قد أمنحك أشياء لا تتوقعينها، قد أمنحك السعادة. أنت حرة ، لم يعد لي من سلطة عليك، قد أقول أني استسلمت حين رأيتك دما و لحما، لا يجب أن تموتي. هذه رغبتي الآن، هذا هو شعوري بعد كل التوعد والاستيشاط غضبا.
+ بعد ماذا؟ لا يمكن لأحد أن يمنحني السعادة، هناك أشياء لا تعرفها ولو كنت أنت القدر كما تزعم، أشياء لا تمنحها المظاهر، أشياء نستقل بها عن كل رواية وحكاية، لن تفهم ذلك طبعا أيها القدر.
+ لا يمكن ذلك، أنت لم تفهمي بعد، قصتنا أنا وأنت أشبه بقصة الله وآدم، لقد خلقتك ، استوعبي ذلك. أعني ما أقول، طبغرافية وعيك كلها في مخيلتي، كل ماتفكرين به أنا الذي أمليته عليك، كل ما كنت تفعلينه أنا الذي خططت له.
+ و هل تملك دليلا؟
+ نعم أستطيع أن أخبرك عن كل شيء الآن، حاولت الانتحار مرتين وفشلتِ، تزوجت ومات في الحرب، عائلتك ماتت أيضا في حريق، لقد خلقت كل هؤلاء بيدي، و بيدي قتلتهم جميعا، لا أصدق أنا أيضا، لكن هذه هي الحقيقة، الحقيقة أنك ملك لي أيتها الآنسة، لكني أتنازل الآن عنك لنفسك، أترك مصيرك بين يديك، فلا ترمي بنفسك من هناك .
+ لكن...لكن، لماذا؟
+ لا أدري لماذا، هكذا فقط، ربما صُدفة إلهية، ربما هناك كاتب كبير ينسج قصّتنا أيضا، قد تكون قصة داخل قصّة، كاتب يكتب قصتنا أنا وأنت والشارع والعمارة وكل شيء، لا أعرف شيئا عن ذلك، لكن كل ما أعرفه الآن هو أنك كنت عجينة رخوة في ذهني فعجنتك وصنعتك كما أنت الآن، يا للروعة.
بدت عيناها مغرورقتان، كأنها تهم بالبكاء:
+ سألتك لماذا قتلت زوجي وعائلتي، ما الذي أذنبوه؟، إن كنت أنت القدر فما ذنبي وذنبهم؟، ألم تفكر في ما قد يحصل لي من ألم وشقاء؟ ولماذا حكمت علي أن أحمل جنينا في بطني بعد أن قتلت أباه؟
كانت قد استوعبت تماما أن الذي يقف أمامها شيء خارق للمشهود، عقلها قابل لتصديق أشياء خارجة عن حدود المنطق، وهذا الذي أمامها إما شيطان أو ملك الموت جاء ليقبض الروح حين ترمي نفسها من العلو الشاهق. هو يحدثها عن تفاصيل نسيتها هي ذاتها، ليس آدميا هذا أكيد.
كانت نبرة الحزن تخرق صوتها وهي تطرح السؤال في استجداء وعتاب باكيين:
+ لماذا؟
صعقه السؤال بعنف، كوصلة برق اخترقت جسده النحيل، انتفض في داخله ارتياب وارتجاج لم يعرفها يوما، كيف؟ ما الذي تريد أن تقوله هذه المرأة؟ هل أنا ...
لم يفكر يوما فيما يفعله، كان يكتب مقتنعا بأن تقطيع أوصال الناس وتمزيق الجلد وسلخ الرأس أشياء مثيرة للقراء، بإمكانه اغتصاب آلالاف النساء وتشريد فلول من الأطفال كيفما شاء ما دامت المسألة لن تخرج عن نطاق الحبر والورق، كان يقول أن حرية الكاتب في سلطته الشريرة على الأشخاص، جمالية القبح كانت هدفه في كل ما يكتب ، رؤوس قطعت، أبطال شنقوا أو سجنوا مدى الحياة، بطون بقرت بالسكاكين وهي حامل، أطفال اغتصبوا، هكذا كان يكتب ولا شيء يهمه فيما يفكر الآخرون حينما يقرؤون، في نهاية المطاف كل ما تقوله قصصه موجود في العالم، بل إن ما يحدث أفظع بذلك آلالاف المرات، على الأقل هو لم يكتب عن موت مدينة كاملة تحت القصف أو احتراق شعب بالأسلحة النووية و الكيماوية، هل اخترع شيئا جديدا؟ أهو مذنب حقا؟ ماذا عن أولئك الذين يموتون يوميا بالسرطانات والأوبئة والتسوناميات المجاعات والحرائق والسيدا والتيفويد والزلط الأكحل، والخلاء المُخلي ، هل هو السبب في تلك المصائر المأساوية كلها؟؟
كان هناك شعور بأن شيئا ما ليس في محله، هي تلومه، هو لا يلوم أحدا، من سيلوم هو؟ من ورطه في هكذا موقف؟
لم يجد شيئا ليقوله، أي جواب سيكون لا معنى له، كيف سيبرر عددا مهولا من الجرائم، لقد كتب بيده تلك:
" كانت (ح) صغيرة حين اضطرمت النار في بيتهم، كانت تلعب خارجا والجميع في البيت، جدها كان مقعدا على كرسي آلي، أمها نائمة وأبوها فوق سطح البيت يصلح القرميد المكسور، أخواتها الثلاث كن يشاهدن التلفاز، وفجأة انفجر شيء داخل البيت، انفجار هائل أتبعه حريق قوي، تطايرت ألسنة اللهب وشويت الأجساد، كان جسد الجد يحترق على مهل، تنتشر النار من عنقه فتشوي جلده المترهل على مهل، الأم احترقت متلفعة برداء النوم، تفحمت الجثث كاملة ولم تنج سوى (ح) لأنها كانت تلعب فقط، تلعب خارج البيت".
تلك اليد كتبت أيضا:
" بعد سنوات وحين عادت (ح) إلى العيادة لتستلم نتائج تحليل البول أخبرها الطبيب بأنها حامل في شهرها الثاني، قفزت من السعادة والفرح، وهمت أن تهاتف زوجها، كانت سعيدة جدا وغافلة عن المأساة التي تنتظرها، حين خيم المساء على البيت الصغير، جاء مبعوث الجيش إليها، كان يتقدم جارّا قدميه كأنهما مكسورتان، اغرورقت عيناه بالدموع وهو يخبرها: مات زوجك سيدتي في انفجار لغم قديم".
كان (ب) يتقن كل شيء، يتتبع تسلسلا منطقيا في تقنيات القتل و يصور اللحظات بتمعن ودقة متناهيين، لكن كيف خرج الخيال عن كونه خيالا و تجسد أمامه واقعا؟ هو لا يحلم أكيد لا يحلم، المرأة هنا أمامه تسأله لما؟ تريد منه جوابا بسيطا فقط، آنذاك سهم في أسئلة داخلية حارقة طالما سهدت جفنه منذ طفولته الشقية:
ألا يسأل الموتى، لما يموتون بالرصاص ويموت آخرون مكرمين؟، ألا يسأل أطفال الملاجئ لما يشردون وأطفال آخرون يحتفلون برأس السنة مع آبائهم وأصدقائهم؟، ألا يسأل المريض بالسرطان، لما أوهمناه بالحياة مدة ثم انبثق الورم في الرأس كفكرة طارئة فحول كل شيء إلى جحيم؟، ألا تسأل البنت ما ذنبها كي ترجم حتى الموت؟ ألا يسأل الفقير ما ذنبه حتى يبيت جائعا وفي أماكن أخرى يرمى في القمامة أكل غالي الثمن ؟ ألا يسأل المظلوم من سمح لظالمه بأن يحتقره و يمرغ كرامته في التراب؟ ألا يسأل هو نفسه من الذي أوقعه في هذه الورطة؟....
كانت تنتظر جوابا، أما هو فمن سؤالها تناسل ألف سؤال في رأسه، أسئلة تزحم بعضها فيكاد نطاق الجمجمة ينفجر، تنحنح كجندي يناغي ذاته في لحظة الفتك، حشرجة نخرت حنجرته كأن الدم يغلي فيها، نظر إليها بعمق، كان الصدق باديا على محياه التعب، والبرد ينفخ في وجهه نفخا:
+ لا أدري لماذا؟ هذا هو جوابي، لا أدري لماذا وكيف؟ لم أنتظر منك أن تخرجي إلى هنا خارج الورق، أنت لا تفهمين، أنا لست شيطانا، أنا لست ملاك الموت، أنا كاتب، أنا كاتب أنا كاتب .
كان يصرخ عاليا فيتطاير الزبد من شدقيه المفتوحين، حالة سعار لم يشعر بها يوما، أحس بأنه يفقد السيطرة على جسده، على وعيه، على خياله حتى، كأن يدا ما تسيره، يدا قاهرة تنطق باسمه، لربّما كان بطل قصّة ما هو الآخر، لربّما كاتب متهور يصنع مصيره ومصير (ح) أيضا ومصير الغيم و الأمطار و الريح.....
نظرت (ح) نحوه بأسف، عيناها اغرورقتا بالدمع، جرح بل جراح تم عقرها من جديد فسالت هديرا هديرا وبشّر الصابرين بشرهم كثيرا، لماذا أتت إلى سطح المبنى؟ ألأنها وحيدة أم لأنها أحبت زوجها وعائلتها ذات طفولة شقية؟ وماذا عن الطفل الصغير في أحشائها، ماذنبه هو؟ أليس له أن يسأل ما ذنبي أنا حتى أموت مصدوما في مشيمتي، أليس من حقي أن أجرب مرارة العالم وطغيان الكاتب الكبير الذي يشنق ويقتل؟ كانت (ح) في حالة حيرة، للحظة اختفى يقينها الحاسم في الانتحار، حين جاء هذا الرجل المجنون إلى هنا تغير كل شيء، هو خالق مصيرها، لكن هناك من خلق مصيره، وهذا الخالق يحب الدموع و يحب اللعب كثيرا، الطفل ما ذنبه؟ قالت له:
+ الطفل ما ذنبه؟ لن أقتله، سأنتظر حتى يولد ويكبر قليلا....
حين سيكبر قليلا لن تستطيع تركه حتى وإن أرادت الانتحار، لأن الكاتب الكبير جعل في قلبها شيئا عميقا وداغلا سمّاه الأمومة، ستظل حية إلى أن يدفنها الطفل الذي سيصبح رجلا، كأنه عوَضُها عن الزوج والعائلة المحروقة..
كان (ب) في حالة انذهال قصوى، توقف للحظات، مرّت (ح) بجانبه نازلة في الدرج فأفغم أنفه ريح القدر و القسوة، من ثوبها الأبيض لاحت رائحة حريق قوي لا يبقي ولا يذر، ولاحت من شعرها القصير رائحة دم ممزوج بالحناء، شيء كالدواء، رائحة المشيمة والسائل اللزج المنزلق، ستذهب حيث تعيش وتلد، ستلد الحياة من بطنها ضدّ اللامعنى، ضدّ التفاهة والتفال و الحكاية ....
حين انتصف الدرج سمعت (ح) ضحكة مدوية، صراخا مجنونا يثقب جدران المبنى، كان (ب) يصرخ ملء حلقه وشدقيه، كان يضحك ويبكي بصوت عال، ثم بدأ ينشد شيئا حزينا وقويا للغاية، شعر قديم ربما :
أيها المهرج الكبير
اثقب جسدي غربالا للمساء
لست سوى حبة رمل في الريح
لست سوى بصقة اللامعنى
مزقني أيها المهرج العظيم
مزق جسدي في المطر
هناك فوق السطح بقي كالمهرج يقفز ويقفز، قلبه يخفق عاليا، في حالة لاوعي تامة، انفلتث الأشياء والكلمات من بين براثينه، كرقصة إفريقية يفور الدم في شرايينه رغم الزمهرير، دار الرأس ودار ثم دار الراس ودار ولاشيء يلوح غير دخان عقيم، وضباب يغشى البصر والقلب، من رأسه المصدوع جاءت أصوات عميقة وعقيمة، رنين مهول يكاد يشق الصدغ ويفيض كالضوء خارجا، طنين وطنين هارب لا قرار له، كأن بئرا دموية انفتحت في جمجمته المريضة فصار غربان المدينة السّود يسقون منها عطشهم، صعد (ح) فوق المصطبة الإسمنتية الصغيرة التي تحف سطح المبنى، تنسم رائحة الأرض من على أمتار وأمتار، تحسس الكوعين و مفاصل الركب، مرر يديه على وجهه الملتحي، قبّل يديه و صدره، صرخ عاليا وصرخ، وعانق الريح باحثا عن الكاتب الكبير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق