الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليونانُ.. هنا تعيشُ الآلهة

سهير المصادفة

2012 / 8 / 8
الادب والفن



اليونانُ.. هنا تعيشُ الآلهة

فى حضرة" كزنتزاكس"*

إلى أى مدى يمكننى تصديق أن بلداً ما ببحاره وجباله وأنهاره ووديانه وحكاياته ومساءاته وأغنياته وصباحاته وحكمته يسكن "قلب مبدع واحد" ثم يرفض ربما لعقود أن يقلع عنه لينزل منازل أخرى؟! أو ليس هذا هو السبب الذى يجعلنى إذا ما سمعت اسم انجلترا أتذكر على الفور "شكسبير" أو روسيا فأتذكر على الفور"دستوفسكى"أو اليونان فأتذكر"كزنتزاكس" لأردد معه وأنا أخلص نفسى من زحام القاهرة.. " نحن البشر تعساء.. عديمو القلب.. ضئيلون..عدميون .. لكن فى داخلنا يكمن جوهر أسمى منا يدفعنا بلا رحمة نحو الأعالى "*.

أقف أمام حشد من الأعمدة الرخامية التى يرجع تاريخها إلى أربعة قرون قبل الميلاد وأحاول أن أحاصر تلك الرائحة.. هواء مثقل بأنفاس آلهة وأنصاف آلهة ترفرف بأجنحة تسوم المعاصرين كل ألوان الارتباك.. أسوار حافلة بنقوش معجزة تستهين بالحاضر، فتجعل المرء يعتقد أنه كان هنا منذ آلاف السنين وإنه بدون شك شارك فى رسمها وليس مطلوباً منه الآن أكثرمن ذلك.. حكايات أسطورية تفيض عن حدود العقل فتجد الناس يلوحون بأيديهم يأساً معرضين عن حكاياهم، زاهدين فى أن يكونوا هم أنفسهم أبطالاً جدداً. أليس هو الهواء نفسه الذى أشمه فى معبد الكرنك مثلاً؟ أليست هى الرائحة ذاتها؟!

شىءٌ ما غامضٌ يربط بين المدن التى مرت بها حضارات قديمة، مهما اختلفت ألوانها ومهما تفاوتت الآن درجات تحضّرها، شىءٌ ما يوحّد زهو سكانها الأجوف بأنفسهم وغضبهم الذى يليق بكائنات تعتقد أنها نتيجة زواج بعض الآلهة ببعض البشر، وإصرارهم الأعمى على امتلاك اليقين، وحزنهم الخاص الذى وصل إلى اصطياده وسبر عمقه الكاتب التركى"أورهان باموق" الحائز على جائزة نوبل 2006 فى رائعته "اسطنبول.. الذكريات والمدينة".

أحاولُ التحايل على هذا الحزن وأنا أقول لنفسى.. سأزور"قبر كزنتزاكس"* وسأضع عليه وردة ما وسأقرأ جملته الأثيرة المنقوشة هناك.." لا أطمعُ فى شىءٍ.. لا أخاف من شىءٍ.. أنا حر."*4

وسأتساءلُ بعد ذلك دونما شك.. هل ما زال يرددها مع ذلك الهندى؟! حيث يُحكى أن هندياً كان يقود قاربه مقاوماً تيار النهر الجارف الذى يدفعه نحو شلالٍ صخرىٍ، وبعد أن استنفد الهندى طاقته فى مقاومة التيار ترك مجدافيه وبدأ يغنى .. آه.. فلتكن هذه الأغنية حياتى.. أنا لا أطمع فى شىءٍ.. لا أخاف من شىءٍ..أنا حر.
هذه أثينا إذاً التى كانت من أقوى مدن العالم وأعظمها حضارة منذ أواخر القرن الرابع قبل الميلاد.. هنا دار صراعٍ عارمٍ بين أثينا إلهة الحكمة والحرب والعلوم والفنون عند الإغريق والإله بوساديون لإطلاق اسم أحدهما على تلك المدينة وصارت الآلهة الأثنا عشر الكبار محكمين للفصل فى هذا النزاع، فقرروا أن من يقدم من الاثنين.. أثينا وبوساديون أفيد شىء للمدينة يطلق اسمه عليها، ضرب بوساديون الأرض بحربته فأخرج منها جواداً، أما أثينا فإنها ضربت الأرض بحربتها فأخرجت منها شجرة زيتون فسميت المدينة باسمها.

أتأمل عناوين الكتب المعروضة على أرفف معرض سالونيك الرابع للكتاب ( تشبه سالونيك الإسكندرية كثيراً وهى أيضاً ثانى مدن اليونان ) وأدرك منذ اللحظة الأولى فقر المكتبة اليونانية بشكلٍ عامٍ مما ترجم من اللغة العربية أو من لغات أخرى إلى اليونانية فيما عدا بعض الكلاسيكيات المشهورة، وتسر لى المبدعة والمترجمة اليونانية – من جذور مصرية والتى قضت نصف حياتها فى القاهرة.. بأن اليونان تشبه مصر كثيراً.. فنحن نقيم المعارض ونترجم أحياناً بعض الكتب من اللغات الأخرى ونعلن عن بعض الجوائز حتى نرتدى أفضل ما عندنا من ثياب فرنسية وإيطالية، وحتى نلتقط بعض الصور الجميلة.
أصدقها وأنا أشعر بصراع المبدعين الخفى نفسه ونفى بعضهم للآخر، واستهانتهم بما حصد الآخرون من جوائز وبما ترجم من أعمالهم إلى لغات أخرى، وتنافس الناشرين الذى لا يصب إلا فى جيوبهم بصرف النظر عن مصير الإبداع اليونانى.
أخرج من قاعة "كزنتزاكس" فأتأمل الوجوه المتوردة الضاحكة وكأنها هى نفسها الخارجة من مهرجانات ومعارض مشابهة فى بلدى.
أهرب بعينى إلى الجبال التى يصل ارتفاعها إلى أربعمائة متر والتى تطوق أثينا والتى بدون شك سكبت شموخها وصفاءها وقوتها واتساع مداها وتردد الأساطير الإغريقية الخالدة فى جنباتها فى صوت "ماريا كالاس"*.

أسير فى الشوارع فيباغتنى الإحساس ذاته الذى ينتابنى عندما أسير فى شوارع القاهرة.. اليونان بلد يستريح من العمل الآن بعد أن أعطى العالم أساطيره التى كانت بمثابة بذور نشأة الأدب العالمى، ورصع الكلاسيكيات فى كل مكان بمرجعيات من حكاياه، لا ألمح من يجلس فى حديقة عامة أو فى إحدى وسائل النقل وبين يديه كتابٌ مفتوحٌ كما اعتدنا أن نرى فى دول أوربا الأخرى، فالغالبية العظمى فى الشوارع من الشباب تراهم جالسين على مقاهى البحر الأبيض المتوسط أو راقصين فى بارات مفتوحة أو سائرين بلا هدف وبكسل فى الميادين الفسيحة يتأملون بأعينٍ ساهمةٍ تماثيل آلهتهم القديمة.
أمرُّ إلى جوار العديد من أسماء المبدعين المصريين المهمة وهى قابعة على الأرفف بحروفها العربية كقارات لم تكتشف بعد، وأحاول أن أتذكر الأعمال التى ترجمت إلى اللغة العربية بعد "كزنتزاكس" و"كفافيس" ابن الإسكندرية المصرية و"سيفريس" و"إليتس".
وأتابع رصدى لعشرات الأسماء لمبدعين يونانين معاصرين مغلقة على عالمها مثلها مثل الأدب السلوفاكى والأرمنى والجنوب إفريقى والروسى المعاصر -على سبيل المثال لا الحصر- وأتمنى لو أستطيع التخمين؛ ترى أى من هذه الكتب سنفقد الكثير إذا لم نقرأها الآن؟
تقريباً وياللعجب هو السؤال الذى طرحه "حسن الزيات" فى مجلة الرسالة مطالباً بتأسيس بيت للترجمة منذ أكثر من نصف قرن، وما زال الوضع كما هو عليه، برغم كل المحاولات العشوائية المؤسسية وغير المؤسسية.
أمر أمام الفتارين الزجاجية الغارقة فى البضائع الصينية والألمانية واليابانية، وكما أبحث فى مصر عن كلمة.. صنع فى مصر. أبحث بصعوبة عن كلمة.. صنع فى اليونان، فلا أجدها إلا على زجاجات زيت الزيتون والأوزو، والآلهة المصنوعة من جبس والتى ستنكسر أعناقها فى حقيبة سفرى، وكروت البوستال السياحية التى كتب فى فضاء كل منها بفخر منقطع النظير.. اليونان.. هنا تعيش الآلهة.

* نيكوس كزنتزاكس ( 1883-1958)
* تصوف لــــ " نيكوس كزنتزاكس" ترجمة: سيد أحمد على بلال
* قبر كزنتزاكس فى هراكليون عاصمة كريت.
* أخذ كازنتزاكس جملته الأثيرة عن القصة الهندية وضمنها روايته "تودارابا"
* ماريا كالاس (1923-1977) أعظم مغنية أوبرا فى القرن العشرين.. يونانية الأصل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل