الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طيب يا حلمى

سهير المصادفة

2012 / 8 / 10
الادب والفن


طيب يا حلمى
إلى "حلمى سالم"
لعلكَ تتذكر الآنَ على مهلٍ يا حلمى حفنة ساعاتٍ فى بداية التسعينيات، حين كنا نقابل بعضنا البعض نحن الذين ندهتنا نداهة الكتابة مصادفة في شارع عبد الخالق ثروت فنبتسم ونعرف على الفور أننا متجهون إليكَ، كنتُ قد قررتُ وقتها بشكلٍ لا رجعة فيه أن الصحافة ليست طريقى، وكنتُ أهز رأسى بحماس حمامة خرقاء تحاول أن تتعلم الطيران وأنا أردد في سحائب دخان سجائركَ: لا. لا. الصحافة مش حلمى. فتتساءل أنتَ مازحاً: ليه بس؟ ده حلمى كويس وشاعر وابن حلال.
أكثر من عشرين عاماً تفصل بينى وبين مكاتب جريدة الأهالى الضيقة المزدحمة، وعشرات الهزائم والانتصارات الصغيرة وطعم خيبات وددتُ لو وصفتها لكَ، وعشرات الشخوص التى تتحلى بقدرٍ لا بأس به من الشر المجانى والسماجة حالتْ بين أن نجلس طويلاً على طاولة واحدة، ودولة عظمى سعيت إليها وأنا أردد أفكاركَ فانهارت أمام عينى ببطء انهيار عمارة صعقها زلزال ولم يتبق منها إلا بضع عبارات نناقشها على المقاهى أوشلالات من كلماتى الأولى المتلعثمة والحائرة والغاضبة والمارقة لتوها من الركام والطامحة مع ذلك إلى حصار كل ألق العالم وبؤسه دفعة واحدة، كنتُ أرسلها لكَ يا حلمى من موسكو في أظرفٍ بيضاء مزرقشة بإطارٍ أزرق × أحمر ومكتوب عليها بخط كبير "شكراً لساعى البريد" كانت الجملة أكبر من اسمك ومن اسم الأستاذة "فريدة النقاش" والله فقط خوفاً من أن تضيع رسائلى وهى تعبر من تلال الثلج والوحدة إلى دفء الأصدقاء.
كنتُ آنذاك كما تعرف ما زلت أتعلم كيف يكون الألم سكندرياً وكنتُ غارقةٌ في "الأبيض المتوسط" و"سيرة بيروت"، لا أدرى لماذا أتذكركَ الآنَ خلف مكتبكَ الصغير وأمامكَ مئات النصوص، تستقبل أحد الضيوف بأدبٍ جمٍ وتقرأ لنا بعد أن يمضى مجردَ مسخٍ لأبياتِ أمل دنقل أو نزار قبانى فتعتذر له بصعوبة وخجل عن النشر، وتتحمل سبابه الذى يتناهى إلى مسامعنا من الخارج واتهامه لكَ بأنكَ مجرد حجرعثرة كبير بين الجماهير وبينه هو الذى سيكون المتنبى! وهأنا قد تعلمتُ منكَ الصبر ومحبة العالم حتى برداءته وأكثر من ذلك التسامح مع مفرداته.
لا شىء جديد بعدُ يا حلمى في البلاد، ما زال الواقع يفرز سيناريوهات تدعو كلها للرثاء، وما زال الفصيلان ــ اللذان يسيطران على الشارع السياسى منذ عقود ــ يتناطحانِ وما زلنا نحن نضع أيدينا على قلوبنا مخافة أن يقضى على الأخضر واليابس ومجد البلاد صراعُ العسكر والإخوان.
لا شىء جديد بعدُ يا حلمى، فلقد شهدنا على كل حال ذروة عسلٍ في تاريخ مصر توارى بعدها الثوار النبلاء وكعادة فترة ما بعد الثورات خرجت زرافات من الضفادع تنقنق في الفضائيات.
لعلكَ لديكَ الآن وقتٌ لتتأملَ روعة ما خطته يداكَ وأنتَ المتواضع الذى قدمته منذ عام وقبل مرضكَ الأخير في إحدى الأمسيات الشعرية بعشر جملٍ فقط لا غير فطبطبتَ على كتفى قائلاً للجمهور: هذا والله من فائض كرم صديقتى.
ولعلكَ تتذكر الآنَ الاحتفالية المقامة لكَ والتى احتضننا فيها قلب "ميسون صقر" المخملى، في هذه الليلة بكيتَ من فرطِ محبتِنا لكَ وأبكيتنا، ولن أسمى لكَ مَنْ كانوا هناك من أصدقائنا الشعراء فأنتَ أدرى منى يا حلمى على كل حالٍ بالأسماء، فلقد لاحظتَ بنفسكَ بل فرحتَ بأن جميع الحضورأصغر منكَ وأنهم ــ منذ سنوات طالت أم قصرت ــ قد مروا عليك بمحبةٍ أو بمشاكسةٍ تؤدى ــ لا محالة ــ إلى المحبة، فى هذه الليلة قلتُ لكَ حين حان دورى: لقد كتبَ الشاعر الصديق "أحمد يمانى".. ستنجو هذه المرة أيضاً. فأعجبتنى كلماته كثيراً إلى حدِّ التوقف عن الكتابةِ لكَ أثناء مرضكَ في عزَ الكتابة، وهأنتَ تخذل أحمد وتخذلنى، أم تُراكَ بالفعل قد نجوت؟!

طيب يا حلمى انطلق الآنَ بسلامٍ، فليس بوسعكَ على كل حالٍ أن تفعل أكثر، فقد كتبتَ ما لو أخذوا به لكانوا أكثر تسامحاً، ولقد سامحتَ قبل رحيلك كل مَنْ تطاولَ عليكَ من الجهلاء وأرباع الموهوبين، ولقد ابتسمتَ كثيراً في وجوه مَنْ طعنوكَ من الخلفِ، ولقد نثرتَ في الكونِ أبياتاً رائعة سيستغرقون الكثير من الوقتِ لكى يدخلوها ويتكئوا على أعمدتها ويستريحوا من كراهيتهم في أروقتها، ولقد فتحتَ للكثيرين آفاقاً تكفى لكى ينطلقوا نحو شموسٍ لا حصر لها.
طيب يا حلمى ونحن الذين فرحنا بهبوطِكَ كملاكٍ على الفضاءِ الإلكترونى بحسابك الجديد على الفيس بوك، أظن أنكَ لم تلحق أن تضيف الصديق رقم مائة، وأظن أنكَ لم يكن لكَ ــ على كل حالٍ ــ أن تحتملَ ما يُكتبُ على جدرانه من مدى خِفته الآنَ.
طيب يا حلمى سنلتقى بعد حين ــ هذا مما لا شك فيه ــ وربما نُطل من "شرفة ليلى مراد" بعد أن يختفى من الوجود ضيقو الأفق المتربصون، وربما نسير معاً على ممرٍ مشمسٍ يشبه كثيراً ذلكَ الممر الذى وصفه "بولجاكوف" في رائعته "المُعلمُ ومارجريتا" وقد نتحدثُ آنذاكَ عن وعورةِ الكتابةِ، وعن خيباتِ قلبكَ الكبير، وعن كيف يكون الغرام مسلحاً وعن انكسارات الضوء على حَجركَ الكريم وعن العميان الذين ما زالوا يتكاثرونَ هنا، وقد أسرُّ لكَ آنذاكَ بأن مصر التى أحببتها كثيراً أصبحت على ما يرام وأنها هشّتْ عن طرقاتها كلَّ مَنْ حاول تدمير هويتها وجمالها، وقد أختتم حديثى معكَ بأنه على الرغم من ذلكَ فإن الحياة بعد حين تكون يا أخى الأكبر غير سائغة المذاق.
ولكن وحتى نلتقى ثانية يا حلمى سنواصل الثناء معكَ على ضعفنا، وسنسير على دربِكَ ممتدحينَ أيةَ جلطةٍ في المخِ أو في القلبِ تنتابنا وقد نستغرق فى الأثناء في "فقه اللذة".
طيب يا حلمى انطلق كما تشاء سالماً الآنَ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حب
د.السيد الحداد ( 2012 / 8 / 19 - 22:10 )
أرق ما قرأت من رسائل الحب بين الأصدقاء.. فيض دافق من مشاعر راقية .. قلمي عاجز عن اضافة كلمات

اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة