الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضد التيار في تونس: قوة ثالثة جديدة صعبة و لكنها ممكنة ( رؤية يسارية ديمقراطية).

بيرم ناجي

2012 / 8 / 13
الثورات والانتفاضات الجماهيرية



-1-
يبدو الوضع السياسي في تونس و كأنه يعيش استقطابا ثنائيا بين حزبي النهضة من ناحية و" نداء تونس" من ناحية ثانية و ان أخطر ما في هذا الوضع كونه يبدو حتميا و نهائيا لكنه في نظرنا يصور هكذا عمدا من قبل الطرفين المستفيدين و يأسا أو طمعا من قبل الأطراف الضعيفة و أملا واهما من قبل بعض أنصار الفريقين في "خلاص" ما من الطرف المقابل.

ان اضفاء صفة النهائية و الحتمية يجعل هذا الاستقطاب يشبه "النبوءة المتحققة ذا تيا" لان الناس استسلموا لها مسبقا. كما ان ما يجعل هذه الثنائية تبدو حتمية و نهائية هو بدء وقوة اصطفاف القوى في الاتجاهين وضعف من يرفعون راية القوة الثالثة و نعني بهم اليسار الاشتراكي و القومي الذي يخلط بين القدرة السياسية على تحريك الشارع – القابل اصلا للانفجار- و القدرة المفقودة على التحول الى قوة انتخابية فعلية ،ناهيك عن التحول الى قوة ثورية، و هو يتوهم هذه القوة بسبب العلاقة بالاتحاد العام التونسي للشغل الذي يتجاهلون انه في النهاية منظمة نقابية تحوي الجميع و هو ليس شبكة تنظيمية قابلة للتحول الى ماكينة انتخابية أو تنظيما ثوريا لأي طرف كان الا اذا غامر بوحدته بل وبوجوده ربما.

-2-

ان الخطير في وضعية الاستقطاب الثنائي هذه هو تجميد القوى السياسية في اصطفافاتها الحالية مع رأسي الاستقطاب أو دفع من لم يصطف بعد الى القيام بذلك و كأنه لا يوجد خيار آخر لها و لا حل في البلاد سوى ذلك.
لكن الأخطر من ذلك على الاطلاق هو احتمال تحويل المعركة السياسية المقبلة و اختزالها في ما يشبه تصفية حساب تاريخي بين الدستوريين و الاسلاميين و هو الأمر الذي بدأت ملامحه تظهر منذ الآن بشعارات "اعادة الاسلاميين الى السجون" من ناحية و "تصفية ايتام بورقيبة " من ناحية ثانية.
ان هذا الاحتمال هو الكارثة المحدقة بالبلاد اذا تصاعدت وتيرة الاستقطاب و ان الشعب هو من سيدفع الثمن بفقدان مكتسباته و قبر آماله السياسية و الاجتماعية.


-3-

السؤال المطروح على التونسيين الآن هو : هل يمكن كسر هذه الثنائية القاتلة عبر خلق قوة ثالثة جديدة صعب تحقيقها و لكنها ممكنة على الأقل جزئيا؟
أولا، نريد التنبيه الى ان هذه القوة الثالثة ليست في راينا ما يتمنى اليسار الاشتراكي- القومي ان يمثلها لكنه سيكون جزءا منها اذا اراد ذلك بالتأكيد.
انها قوة ثالثة جديدة تعيد خلط و فرز التحالفات السياسية و الانتخابية من جديد تماما و هي بسبب صعوبة تحقيقها –مع الاسف- قد تكون الفرصة الاخيرة في المدى المنظور اذا اراد التونسيون الخروج بالبلاد من عنق الزجاجة التي توجد فيه الان.
ولكن لسائل ان يسأل :ماهي دعائم امكانية طرح مثل هذا و ماهي ملامحه؟

-4-

تمثل النهضة راس الاستقطاب الأول و هي عرفت تقدما نسبيا و تعيش الآن ارتباكا تاما لا يساعدها على الخروج منه في كل مرة سوى حلفاؤها في" الترويكا" الحاكمة.
ان أكبر نقاط ضعف النهضة – اضافة الى ضعف آدائها الحكومي- كونها تمثل تهديدا تدريجيا متسترا – وليس مباشرا وفضا مثل السلفية و حزب التحرير- ولكنه ملموس لأسلوب عيش التونسيين الحديث الذي يحياه الشعب حتى منذ ما قبل الاستقلال .
ان هذا التهديد يمهد لأسلوب حياة محافظ تقليدي و متزمت على كل المستويات و يقطع بالتالي مع الاسلوب العصري الحداثي المنفتح و المعتدل الذي يميز الشعب التونسي.
ان خطورة هذا التهديد تتمثل ليس فقط في التراجع عما كان موجودا بل وفي تحريف مسار التطلعات الشعبية التي صاحبت الانتفاضة منذ 17 ديسمبر 2010 وذلك باتجاه محافظ و تقليدي كما اسلفنا.
من ناحية اخرى تمثل علاقات النهضة الخارجية نقطة ضعف سياسية كبيرة بسبب علاقاتها المشبوهة و المفضوحة مع قطر و السعودية وتركيا و الولايات المتحدة،و حتى و ان كانت هذه العلاقات تسندها ماليا و دوليا فإنها تضعفها سياسيا و انتخابيا .


-5-

نقطة الضعف المهمة الأخرى بالنسبة للنهضة هي كونها تحكم في تحالف ثلاثي لم يكن في الأصل تحالفا سياسيا أو انتخابيا.
ان النظرة الحتمية النهائية حول الاستقطاب الثنائي تنسى التالي:
أولا: بن جعفر و المرزوقي و حزباهما شاركوا في الانتخابات الأخيرة للمجلس التأسيسي كمنافسين للنهضة.
ثانيا: كلاهما له توجهات فكرية و سياسية مختلفة فعليا عن فكر و برامج النهضة.
ثالثا: كلاهما يقاسي من تغول النهضة و يعاني من انسلاخات و انقسامات و احتجاجات داخلية بسبب العلاقة بالنهضة.
و بالتالي نحن نعتقد - في اطار التفكير في القوة الثالثة الجديدة- انه من المشروع التفكير في كسرالتحالف الثلاثي الحاكم الحالي كليا أو جزئيا والسعي لجذب حزبي المؤتمر و التكتل الى القوة الجديدة.
حسب رأينا لا توجد اية موانع مبدئية تحول دون حصول ذلك بل اننا نرى ان المعارضة الحالية للسلطة هي التي تخطأ نسبيا و تدفع الى تأبيد التحالف الحاكم الحالي عبر عدم تمييزها السياسي العقلاني بين اطراف الترويكا و سقوطها احيانا في لغة السب و القذف السياسي و تشخصن المسائل أحيانا مع اننا نعرف ان ذلك كله بسبب الهزال و الرداءة اللذان يميزان اداء الرئاسة و الحكومة و المجلس التأسيسي .


-6-

نداء تونس هو الرأس الثانية في الاستقطاب الثنائي و له ايضا نقاط ضعف كبيرة جدا و من الممكن استغلالها فعليا بشرط التفكير في المسألة بعقلانية و بمهارة سياسية هدفهما خدمة تونس الجديدة.
ان كاريزما الباجي قايد السبسي الحالية قوية جدا لكن عمره و تاريخه بهما ما يكفي من المشاكل لاحراجه فعليا.
لسنا نحن من يركز على مسألة العمر بل الباجي قائد السبسي نفسه، اذ في احدى اشهر خطبه عندما تولى رئاسة الحكومة قبل الحالية اعترف بأنه و راشد الغنوشي كلاهما من الماضي.
كما ان مسألة العمر ليست مهمة الا في جوانبها السياسية و الباجي يكرر خطأ بورقيبة الذي أحاطت به في نهاية عمره مجموعة استغلت تقدم شيخوخته لتوصل البلاد الى ما وصلت اليه.
و الباجي في جانب سياسي ايضا له نفس المنطق الفردي البورقيبي اذ يتذكر الجميع كيف كان يكرر : "لن اتقاسم السلطة مع احد" وكان يعني وقتها صيغة مجلس حماية الثورة و صفاته المطلوبة.
و عموما فهو كان جزءا من النظام السياسي السابق في مرحلتيه و حتى ان كان ترك بن علي باكرا – او تركه بن علي- فانه لم تعرف عنه معارضة فاعلة ما لحكم بن علي منذ حوالي عشرين سنة و ليس هو بالتأكيد من حلم الشعب التونسي به عندما بدأ ينتفض .
من ناحية أخرى هنالك شكوك احيانا و معلومات سلبية دقيقة و خطيرة معروفة عن الحلقة الأولى من المحيطين بالسبسي حتى و ان لم يكونوا تجمعيين ناشطين سابقين.
ان بعضهم ترك الحياة السياسية منذ عشرين سنة تقريبا و بعضهم الآخر له علاقات خطيرة بقطر نفسها و بالامريكييين و كل هذا يعرفه التونسيون وخاصة المناضلون السياسيون و النقابيون و الاعلاميون و الشبان و غيرهم و كذلك تعرفه النهضة بالتحديد لأن بركات قطر و أمريكا وسعت الجميع .و هذا ما قد يحضر مفاجآت سياسية و ربما انتخابية خطيرة في آخر لحظة.
ان" برنامج" نداء تونس السياسي المعوم حاليا يمكن تلخيصه في محاولة استرجاع "اسلوب الحياة التونسي" و لكن ذلك لن يحمي من النقد التالي: لقد ثار التونسيون ضد الذين كانوا يطحنونهم بحجة التصدي للاسلاميين دفاعا عن "الاعتدال التونسي" و السبسي لم يتمايز مع بورقيبة او بن علي من اجل هذا وليس له رصيد شعبي تاريخي في معارضته بل بالعكس فلقد نسيه الناس لعشرين سنة كاملة بينما كانوا يعرفون اللمناضلين الديمقراطيين و النقابيين .
من ناحية أخرى لا يختلف نداء تونس كثيرا في علاقاته الدولية.و رغم محاولة البعض الصاق صفة الفرنكفونية عليه في اطار الصراع الامريكي الفرنسي على المنطقة الا ان الجميع يدرك ان القوى الدولية مستعدة للعمل مع الشيطان للمحافظة على مصالحها و هي لا تبني سياساتها الخارجية على صديق واحد او حليف واحد ابدا.
الاهم من كل هذا كله ،وهو صعف نداء تونس القاتل، هو كونه ملجأ الدستوريين و التجمعيين الوحيد ووسيلتهم الوحيدة للعودة الى الحياة السياسية بل و الى السلطة و ليس "من الشباك" بل من باب عريض ربما .و يعرف التونسيون ان صقور التجمع السياسيين و الماليين و الأمنيين سيقفون مع نداء تونس ولو من وراء الستار كما يعرفون ان احتفاظ بعض الرموز القديمة بأحزاب خاصة بها ما هو الا اجراء للحماية من المحاسبة القانونية فنراهم يحتفظون بهذه الأحزاب و يقومون في أحسن الأحوال بنشاط رمزي حفاظا على الهيكل أو جهوي محض طمعا في منصب يقنن عدم المحاسبة.
ان خطورة عودة التجمع الى السلطة كليا او جزئيا- في وضعية الاستقطاب الثنائي- تتمثل اما في اعادة نظام ثار ضده التونسيون و وضع البلاد على حافة الجحيم الانتقامي او في تحقيق توازن اسلامي – دستوري اما سيعطل اجهزة الدولة في حالة الصراع او يدفع رأسي القطبين الى تقاسم الغنيمة بحيث لن يكون هنالك لا محاسبة و لا عدالة ولا انتقال ديمقراطي الا على مقياس الغولين السياسيين الجديدين اذا تصالحا.
-7-

ان نقطة الضعف الثانية في نداء تونس هي في كونه –مؤقتا- بدأ يعمل في تحالف ثلاثي مع الحزب الجمهوري- الشابي- و المسار الاجتماعي – ابراهيم- . يعتبر البعض عن حق – ولكن جزئيا- ان هذا الأمر علامة قوة في نداء تونس لكن في الواقع هذا يعكس صعفا فعليا فيه و في من التحق به على السواء اذ يدل على ان نداء تونس دون حلفاء يعني دستوريين و تجمعيين عراة مفضوحين لا تغطيهم ورقة توت و هذه الورقة هو ما يقدمه الشابي و ابراهيم- صاحبي الماضي النضالي الفعلي- مع الأسف الى نداء تونس.
ان الشابي و ابراهيم يعيدان تقريبا نفس خطأ التحاقهما المتسرع بحكومة الغنوشي – و يعيد الطيب البكوش نفس الخطأ ويظل هو الآخر شخصية محترمة – عوض النظر الى ما حولهما من حلفاء حقيقيين يتقاسمون معهم مشروعهم السياسي المعلن .
ان الحزب الجمهوري و المسار الاجتماعي يضلان اقرب الى الوسط و اليسار من المسافة التي تفصلهما عن نداء تونس لكن الخوف من اليمين الاسلامي يدفعهم الى اليمين الدستوري التجمعي عوض البحث عن مخرج سياسي ثالث مع الأسف.
لقد تقدم الجمهوري و المسار الى الانتخابات التأسيسية في قوائم مستقلة –وهذا من أخطائهما- و هما يظلان سياسيا أقرب الى المرزوقي- المؤتمر- وبن جعفر-التكتل- و لقد كانت هذه الأحزاب الأربعة من الأحزاب الديمقراطية المناضلة ضد بن علي و لم تكن مما كان يسمى "المعارصة الكرتونية" و اربعتهم جمعتهم نضالات مشتركة مع اليسار الاشتراكي و القومي و مع المناضلين النقابيين و الحقوقيين.
لهذه الأسباب نحن نصر على انه من الممكن دفع هذه الأحزاب للابتعاد عن النهضة و نداء تونس و للاقتراب من بعضها و من اليسار القومي و الاشتراكي في نفس الوقت.
انه مثلما يجب تجنب تحول ثلاثي الترويكا الحاكمة الى تحالف سياسي دائم يجب كسر التحالف الثلاثي بين نداء تونس و الجمهوري و المسار و جذب الأخيرين أيضا الى القوة الثالثة الجديدة و تجنب توصيف اجتهاداتهم و اخطائهم السياسية بلغة الخيانة و الثورة المضادة، ألخ.
-8-

يتبادل كل من ثنائي المؤتمر/التكتل من ناحية و الجمهوري/ المسار من ناحية ثانية النقد و المعارضة و يصل الأمر أحيانا الى ما هو أقسى و يساهمان بذلك في اضعاف بعضهما البعض لصالح النهضة من ناحية و نداء تونس من ناحية ثانية .
ان الخاسر الأكبر في هذا هو الوسط و اليسار التونسيين الذين ينتمي اليهما او يقترب منهما مجمل الأحزاب الأربعة المذكورة.
ان برامج هذه الأحزاب متقاربة جدا و قادتها و مناضلوها جمعتهم سنوات الجمر الأخيرة عندما كان الاسلاميون يحتمون بهم ولم يكن "نداء تونس" حتى مجرد فكرة تتكون في رحم التجمع الايل الى الفناء.
من ناحية أخرى تلعب النهضة و نداء تونس الآن دورا في اذكاء نار الفرقة بين المكونات المحتملة الجديدة للقوة الثالثة الجديدة كما تساهم أخطاء الاحزاب الأربعة المذكورة في الأمر و يغذي كل ذلك الاعلام و الشبكات الاجتماعية و الشباب المتمرد غير المسيس جيدا وغيرهم .
لكن قوة سياسية هامة تقوم هي الأخرى بعرقلة تفكيك تحالفي النهضة و نداء تونس رغم انها صاحبة السبق في المطالبة بضرورة و جود قوة ثالثة.ان هذه القوة هي اليسار الاشتراكي و القوميون.
ان اليسار الاشتراكي و القومي يخطأ كثيرا في تقييمه للمرحلة السياسية الراهنة و ذلك برفع سقف شعاراته و توهم امكانية تحويل الحراك السياسي الى ثورة وطنية-ديمقراطية (اليسار) او يحلم بالنموذجين الناصري او البعثي في الحكم.
و يخطأ هؤلاء أكثر عندما يعلنون ان جبهتهم، التي هي بصدد التشكل، لها هي الأخرى هدف السلطة على جدول اعمالها.ان اليسار و القوميين لا يمثلون في الواقع الموضوعي لا قوة انتخابية وازنة و لا قوة ثورية قادرة على قلب موازين القوى ثوريا اذ يكفي تذكيرهم بما جمعوه من مقاعد في المجلس التأسيسي ( انتخابيا) و بغياب اي تأثير لهم في الجيش و الأمن و الادارة (ثورياّاااا).
ان الطاقات النضالية لهذه القوة اليسارية –القومية لا يشك فيها احد بل هي القوة الأساسية تقريبا التي صاحبت و اطرت الشباب الثائر منذ 17 ديسمبر2010 داخل اتحاد الشغل و في الشارع لكن – كما قلنا سابقا- ان القدرة على تحريك الشارع شيء و القدرة الانتخابية او الثورية شيء آخر تماما.
ان أكبر خدمة يقدمها اليسار و القوميون الآن لتونس هي استفاقتهم السياسية من أحلام الرومنسية الثورية وادراكهم لحجمهم من ناحية و للواقع السياسي من ناحية ثانية.ان عليهم المراوحة بين سياسة المبادئ الثورية وا لسياسة بوصفها فن الممكن في نفس الوقت.لو ادركوا هذا لجمعوا بين المبدئية و النجاعة السياسية اما خلاف ذلك فاما سقوط في اصلاحية مقيتة او في فوضوية و انعزالية أمقت.
ان اليسار القومي و الاشتراكي عليه ان يتبنى الدعوة الى جبهة جمهورية ديمقراطية مدنية واسعة مع الأحزاب الأربعة المذكورة سابقا و مع أحزاب اخرى وسطية نذكر منها بالخصوص "حزب الاصلاح و التنمية" وريث حركة الاسلاميين التقدميين الذي يعد برنامجه و مناضلوه أقرب الى الديمقراطية الجمهورية .
ان على اليساريين و القوميين الاستفاقة من الحلم الثوري و الوعي بالواقع السياسي الحالي واعتماد المرونة السياسية لسد الطريق امام عودة الحكام السابقين و تغول الحكام الجدد و لن يقوموا بذلك الا على قاعدة عقلانية سياسية يتجاوزون بها الخطاب الطلابي الثمانيني ويؤسسون لخطاب و ممارسة جديدين حفاظا على انفسهم من الانقراض و على جذوة المطالب العمالية و الشعبية و القومية المشروعة بالتأكيد.عليهم الاستفادة من دروس العراق وسوريا المريرة و دروس امريكا اللاتينية و يسارها الجديد .
كما على اليسار و القوميين الانتباه للوهم السياسي – و ليس النقابي المهني و الاجتماعي- الذي يحملونه عن الاتحاد العام التونسي للشغل حتى يساهموا في حماية وجوده ووحدته و نضاليته النقابية و لا يدفعون به الى المجهول بمحاولة تحميله الدورالسياسي الذي يفشلون هم في تحقيقه بوصفهم قوى سياسية.

-9-

ما دمنا حددنا القوى السياسية المعنية بتشكيل القوة الثالثة الجديدة يبقى أمر على غاية من الأهمية لا بد من توضيحه.
هل هذا يعني دفع التكتل /المؤتمر لترك الترويكا الحاكمة الآن؟
و هل هذا يعني دفع الجمهوري/المسار لعدم النقاش تماما مع نداء تونس؟
و هل يعني هذا عدم تأسيس جبهة اليسار /القوميين الآن؟
عن كل هذه الأسئلة نجيب : قطعا لآ.
أولا:من مصلحة البلاد وجود سلطة قائمة –ولكنها انتقالية-على شرط دفع ثنائي التكتل/المؤتمر الى المزيد من الاستقلال عن النهضة و الاقتراب من الخيارات الجمهورية الديمقراطية المدنية.لكن القطع بلا لا يعني عدم التفكير أصلا في المسألة مهما كان ما سيحصل في الأشهر القادمة. فاذا تغولت النهضة و ووقعت تبدلات كبرى في تركيبة الكتل النيابة في المجلس بشكل يمكن من الحصول على أغلبية نيابية تأسيسية جديدة فتصبح النهضة أقلية يمكن – نظريا- التفكير في الأمر.
ثانيا:ان الحوار بين الجمهوري/المسار مع نداء تونس قد لا يضر بل ينفع القوة الثالثة الجديدة على شرط عدم الهرولة السريعة و "الاحتماء" بنداء تونس لأن هذا الوهم هو في الواقع مثل من "يستجير من الرمضاء بالنار".
ان نداء تونس هو بصدد التشكل و قد ينفع الحوار معه لفرض خيارات عليه سواء على مستوى البرامج او على مستوى سد الباب امام صقور التجمع،الخ.
اذن،و بعيدا عن التشنج السياسي و عن الهرولة في نفس الوقت، لو فكر الجميع بروية و عقلانية سياسية لوجدوا ان ما يوحد التكتل/المؤتمر/الجمهوري/المسار/اليسار القومي –الاشتراكي اكبر مما يفرقهم و مما يقربهم من النهضة او من نداء تونس.
ثالثا:ان التأسيس الفعلي لجبهة اليسار-القوميين أمر ضروري و محبذ على شرط ان لا تولد هذه الجبهة منغلقة على نفسها برنامجيا و هيكليا .انها فرصة للنضج السياسي و العمل المشترك و لكن على هذه الجبهة ان تتجنب التصورات الطهرانية في السياسة –بحجة المبدئية- مع المحافظة على البوصلة الجمهورية الديمقراطية المدنية و التقدمية الممكنة فعليا من اجل ان لا تدمر المبادئ الممكنات و ان لا يعرقل الممكن المتاح مواصلة النضال و التقدم.
-10-

ان نجاح هذه القوة الثالثة الجديدة يبدو صعبا جدا في الوقت الحاضر لأول وهلة.ان ما نراه هو هرولة سريعة باتجاه "نداء تونس" بحجة الدفاع عن الحداثة و التقدم و هرولة مضادة باتجاه النهضة بحجة الدفاع عن الهوية و الأصالة.
ان هذه الهرولة تصحبهااحيانا نوايا صادقة و في الغالب تقديرات سياسية خاطئة و طموحات شخصية في المناصب الادارية و المقاعد البرلمانية و الحقائب الوزارية،كل حسب حجمه.
ولتجنب التخندق المتسرع و الخطير وراء أحد رأسي القطبين على المثقفين و المناضلين السياسيين و النقابيين الشرفاء في كل هذه القوى و على الشبان المتمردين لعب دور هام في هذا المجهود للتدليل على ان الثنائية القاتلة التي هي بصدد التشكل ليست قدرا سياسيا مفروضا على تونس التي يمكن لشعبها ان يختار غير الاسلاميين وغير الدستوريين في نفس الوقت.
ان اللحظة التاريخية ليست لتقاسم الغنائم بل للبحث عن مشروع مجتمعي مستقبلي جمهوري ديمقراطي و مدني يفتح باب الأمل فعليا أمام الشعب التونسي.و لو ان القوة الثالثة الجديدة بدأت تتشكل لأصبح بالامكان تحريك قطاعات و اسعة من المثقفين و المبدعين و المنظمات و الجمعيات و كسب عدد هام من المستقلين و خاصة الاطارات الادارية و الشبان و لبدأ ت كتلة انتخابية جديدة في التشكل تقطع الطريق امام تغول رأسي القطبين.
ان أشخاصا (و احزابهم) يتحملون مسؤولية كبرى في هذه اللحظة السياسية لتجنيب البلاد الاستقطاب الثنائي الذي قد يصبح قاتلا في المستقبل .ان زعماء الأحزاب الاربعة المذكورة و قادة اليسار و القوميين يتحملون مسؤولية تاريخية لأنهم اقرب الى بعضهم من اية قوة سياسية اخرى و على مناضلي الصفوف الأخرى في هذه الأحزاب و التنظيمات دفع قادتهم لتجنب التسرع و الهرولة في التخندق لأن المهم هو وحدة البرامج و المشاريع السياسية و المجتمعية أولا وان لم يحصل ذلك فان انشقاقات جديدة قادمة في الافق تعزز من سبق و انسلخ مثل التيار الاصلاحي الديمقراطي التقدمي -الحامدي- و مجموعة عبدالرؤوف العيادي ،الخ.
انه أمر صعب و معقد و قد يكون مفاجئا للغالبية الساحقة من المناضلين و المواطنين الذين يكادون يستسلمون لثنائية نداء تونس/النهضة.
يقال انه "عندما تتملك الحمى بجسد جماعة ما يصعب على البراهين و الكلمات ان تسكنها" و لذلك سيتعامل البعض مع هذا المقترح على انه "حلم يقظة" او ضرب من"الخيمياء" السياسية غير الواقعية تماما بسبب ما تعرفه الحياة السياسية التونسية اليوم.غير اننا ندعو الجميع بالتحديد الى الهدوء و التروي و اعمال العقل و النظر في البرامج المتشابهة و تذكر النضالات المشتركة والمكاسب المشتركة التي لا بد من المحافظة عليها و تعميقها و تطويرها من أجل تونس الجديدة.
نحن نعرف ان هذا المقترح "سيتعب" الجميع لأنه يطلب من الكل تفكيرا جديدا غير منتظر منهم و لكنه يخدمهم جميعا لأنه يشير الى قواسم مشتركة فعلية بينهم و هم جميعا أقرب الى الفئات المتوسطة و الفقيرة من الشعب و أقرب الى المشروع الجمهوري الديمقراطي المدني و التقدمي و لكل ذلك فان هذا المقترح ليس مستحيلا عليهم. و حتى ان كان كذلك نقول لهم:
" فلنكن واقعيين ولنطلب المستحيل" فما يبدو اليوم مستحيلا قد يصبح واقعيا غدا ،ولو جزئيا، و ما يبدو اليوم واقعيا وسهلا قد يستحيل تحقيقه غدا أو قد يتحقق ولكن ككابوس سياسي يأتي على الأخضر و اليابس في تونس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المصير المجهول
عبدالله القوبي ( 2012 / 8 / 13 - 02:00 )
إن الاحزاب والأشخاص الذين ذكرتهم في مقالك هذا سيدي العزيز هم في الحقيقة جزء من منظومة سياسية حكمت وتحكم وستحكم البلاد فكل الاشخاص شاركوا في ما آلت اليه البلاد في عهد كل من بورقيبة وبن علي هم اشخاص يتميزون بشخصياتهم المزدوجة فلهم على الأقل وجهان إن لم نقل أكثر لا يملكون مبادئ ولا أفكار بل لهم مصالح شخصية يتبعونها اينما كانت ومع من كانت ، زد على ذلك أن بعض القوى والأطراف الخارجية تلعب دورا في تشتيت الصفوف وتسعى لأن تعم الفوضى وعدم الإستقرار . ذلك لأننا نقف امام شعب غير واعي ولا مسؤل سياسيا وأخلاقيا لا يمتلك إرادة لحسم مصيره وتحديد مستقبله .فنسبة كبيرة من الشعب التونسي تربت وترعرت على البحث عن المصلحة الشخصية ،لا تهتم بغيرها وهذه الفئة من الناس قادرة على تغير -مبادئها- كما تغير ملابسها وهي دائما مستعدة للقفز من السفينة التي تغرق في أسرع وقت للالتحاق بسيفينة اخرى . فلا النهضة ولا نداء تونس ولا التكتل ولا اي فصيل سياسي او ايديولوجي يسعى لمصلحة البلاد والعباد ناهيك انهم ظلوا عقودا طويلة يتفرجون في من يحكم ويتملقون للحاكم لضمان وجودهم ،واليوم سنحت الفرصة لهم للحكم ولا احد منهم يريد التفريط


2 - الطريق الثالث هو الحل
زهير الخويلدي ( 2012 / 8 / 13 - 06:20 )
مقال مميز ومقترحات معقولة جاءت بعد تشخيص عميق ونظرة استراتيجية جدية، مشكور على هذه الجرعة النقدية وأتمنى أن يعمل به السياسيون كي لا يعيدوا ارتكاب الحماقات.

اخر الافلام

.. كلمات أحمد الزفزافي و محمد الساسي وسميرة بوحية في المهرجان ا


.. محمد القوليجة عضو المكتب المحلي لحزب النهج الديمقراطي العمال




.. تصريحات عمالية خلال مسيرة الاتحاد الإقليمي للاتحاد المغربي ل


.. موجة سخرية واسعة من عرض حوثي للطلاب المتظاهرين في أميركا وأو




.. فرنسا: تزايد أعداد الطلاب المتظاهرين المؤيدين للقضية الفلسطي