الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النهر

رحمن خضير عباس

2012 / 8 / 14
الادب والفن



كان صيف ذالك العام حارا كاالعادة . ولكن بوادر افوله قد لاحت قليلا .. بعد ان انتهى ( آب اللهّاب ) كما يصفه ابناء المدينة . لسعات البرد الخريفية عند أذان الفجر , وانكماش النهار بعد ان كان طويلا . والشمس التي طالما صهرتنا بفيض حرارتها اصبحت تغمر المدينة بدفيء مستحب ثم تنسحب برشاقة لتختفي في افق ملون بالغيوم . لم نكن نحب الصيف يوما ولم نستسغه , لكن متعة السباحة في الشط , والأنغمار الطفولي بين رشاش الماء , والتزحاق من الجرف الى الماء عن طريق المسنايات التي نصنعها من طين الجرف ورمله . نتراكض بين الأشجار في اطراف البلدة , ثم نقذف اجسادنا التي لوحتها الشمس في لجة النهر الذي لم يتوقف يوما عن الجريان .كان اسم مدينتنا (سويج الدجة ) ولكنهم غيرواإسمها تيمنا بالنهر . فأصبحت تدعى ( ناحية الغرّاف ) . لم نشعر بفحوى التغيير . فقد كان النهر يستغرق الناس جميعا , ويشكل جزءا كبيرا من حياتهم . النسوة يغسلن الأواني وما اتسخ من الملابس على حافته , والشباب يرمون شباكهم لصيد السمك بينما البعض الآخر يجعله مجالا للترويح عن النفس بالتسكع على ضفتيه . لكننا كنا نملأ البلدة ضجيجا ومرحا . نحن اطفال سويج دجة , ندك الدروب بالعابنا .التي نصنعها بأيدينا ( الطرام والسيمة ) ونجري محلقين في فرح , حيث تنتهي ألأزقة عند حافة النهر .وحالما نصطدم بجرفه الرملي حتى نتسرب ونذوب فيه . كان اهلنا يحذروننا من سمكة سامة اطلقوا عليها ( دودة الزعيم ) ورغم انها لم تلدغ احدا منّا . لكننا كنا ننسج قصصا عنها لاتخلوا من بطولات كاذبة . وحينما نشبع من النهر, نركض باتجاه الكورة , وحالما نرى غبار سيارة قادمة من بعيد حتى نتوقف عن ركضنا . ننتظر مرورها بقربنا ثم ننطلق في سباق معها . ننغمر في موجة غبارها .لكنها تبتعد عنّا مسرعة فنضطر ان نعترف بهزيمتنا ولكن بطريقة لاتخلو من الكبرياء " ان طراماتنا غير قادرة على السبق لسائق مجنون مثل سبتر خان " هذا ما نعزي به نفسنا ونحن نرتاح قليلا من الركض المتواصل . وسبترخان هو سائق قديم من اصل هندي , يمتلك سيارة خشبية لنقل الركاب بين الناصرية والشطرة عبر الغراف , مشهور بسرعته ومهارته . لاحظنا انّ النهر ينحسر كل يوم ويتضائل , حتى استطعنا ان نعبره مشيا . وفي مساء خريفي طافح بالملل راينا نهرنا يابسا لاماء فيه . زاغت محاجرنا خوفا . ولذنا بامهاتنا نشكو لهنّ حال النهر . وكيف انحسرت مياههه . انتشر الخبر بين الناس . وعلل البعض السبب في امور لها علاقة بالري وسدة البدعة . لكن توالي الأيام جعل المدينة عطشى . وكانت الأحاديث تتمحور عن هذا الجفاف المفاجيء . لذالك بادر البعض بحفر الآبار في النهر . حمادي المؤذّن اعلنها قبيل صلاة المغرب في الجامع الوحيد . وعاشور ابو البريد ظل ينقلها وهو يوزع الرسائل , حتى انتشرت هذه الأبار واصبح لكل عائلة بئر , تتزود فيه بالماء الذي كان خابطا ومحملا بالرمل . وحينما فتحت المدارس ابوابها لعام جديد كدنا ننسى النهر . وننشغل بالدروس . ورحنا نشبع فضولنا في نشيد الأصطفاف الصباحي , والمعلمين الجدد , وكنا نهمس لبعضنا عن الدروس الجديدة والتلميذات الخجولات اللواتي يشاركننا في الصفوف . كنا نتحدث بحذر عن الأتجاهات الفكرية للمعلمين . نحكي لبعضنا في الأستراحة ما بين الدروس :( يمكن استاذ امجد شيوعي ..شلون عرفت ؟.. لأنه يذكر اسماء اجنبية . اما استاذ حسين فهو قومي .. شلون عرفت ؟ لأنه يتكلم عن الوحدة العربية .. ) وهكذا جعلنا من انفسنا خبراء في السياسة . ولم نكتف بذالك بل تحزبنا وصرنا نرطن بكلمات جديدة , عفلق ماركس. الأستعمار, الرجعية .. كان لدينا استعداد طبيعي لأن نتحزب ونتحارب , بينما تمتد اسوار المدرسة لتعصرنا بين صفوفها . كنا نتلقن ايات قرآنية وقصائد وكلمات جديدة . بينما كانت الساحة المتطاولة للمدرسة فضاءا هائلا لخطواتنا المشاكسة . لكن المدرسة لم تنسينا ما ألمّ بنهرنا الصغير .
لماذا نشف ؟ اين مياهه اللاهثة التي ترتطم على ضفتيه ؟ كنا نتذكر الشموع التي تتراقص على مويجاته . شموع مضيئة يفترشن لوحة خشبية معطرة بالياس .تحملها صبية تتلو نذرها وامنياتها , وبرفق يصل الى حد الخشوع تتنساب هذه الشموع لتؤنس المياه الجارية وتصافح المويجات التي تتوهج في ليل مخضل بالندى والدعاء . لم يعتقد احد منا بان النهر سيتحول الى ركام رملي تملؤه ابار كالندوب . كم ساورتنا ذكريات وافكار عن ماضيه القريب , حينما كان في عنفوانه ينساب بين البساتين كثعبان خرافي , يسقي الزرع ويشبع الضرع . كان نهرنا حيوانا اليفا يعانقنا برفق , ولكنه حينما يغضب يتحول الى وحش كاسر .يحذر الأهل ابنائهم من السباحة قرب الجسر , حيث النقّارة , وهي مساحة عريضة تدور فيها المياه بشكل لولبي . حيث يعيش هناك كلب النهر , الذي يختار ضحاياه بعناية .كما تقول لنا امهاتنا . ورغم اننا لانصدق مثل هذه الأشاعات عن كلب البحر لكن قصة احمد جعلت فرائصنا ترتعد واجبرتنا ان نرفض التحدي للنقارة وكلبها الرابض في جوفها السحيق . واحمد سائق حافلة لنقل الركاب . كان مسرعا في الطريق الترابي القادم من الناصرية , وقبيل ان يصل الى الغراف انقلبت سيارته الخشبية فمات بعض ركابها وجرح اخرون . اما احمد الذي خرج سالما من الحادث فقد اودع التوقيف في سيراي المدينة . في اليوم الثاني للحادث , كان الجو حارا فطلب احمد من حارسه ان يستحم. حيث النهر في عنفوانه والنقارة المقابلة للسيراي تطفح بالماء وكأنها نافورة من الأمواج المتوثبة . دخل احمد السائق بهدوء الى النهر . غمر جسده المتعب , غطس مرة واخرى , ثم تلاشى في الماء . كادت عيون الحارس تغادر محجريها من الفزع .صرخ طالبا النجدة , غير ان صراخه ذهب سدى . بعد يوم كامل من البحث بمساعدة غوّاص محترف لم تظهر الجثة . مما جعلنا نصدق قصة امهاتنا عن كلب النهر . في اليوم الثالث وقفت امّ الغريق على حافة الجسر , ممسكة اناءا من اللبن , وبيد مرتعشة قذفت بالأناء على صفحة الماء وهي تصرخ " احمد .. يمه احمد .." كان صوتها صهيلا جامحا هز المدينة من اقصاها الى اقصاها .حتى كأن الزمن قد تجمد تحت لهاثها المكتوم . كان الجمع الغفير من الناس يرقبون هذا المشهد بعيون زائغة من الفزع . لعل كلب الماء سيطلق احمد حيا طليقا .. وفجأة انفجر الصمت عن بروز جثة منتفخة طفت على سطح الماء .

رويدا رويدا بدأت ملامح العطش تبدو على ملامح المدينة . تجلت من خلال التصحر الذي احاط بها , وهبوب رياح محملة بالغبار . الحقول التي كانت مكتنزة بالخصوبة تشققت قشرتها وبدت واهنة , حتى الجواميس التي تتخذ من النهر ملاذا لأطفاء لهيب الحرارة . اصابها الهزال وشح حليبها . كان الباعة واصحاب الحوانيت والموظفين الصغار يذهبون الى مركز المديرية , لعلهم يحصلون على اية معلومة لعودة المياه . لذا انعكس الأمر على امزجة الناس فاصبحوا يتشاجرون لأتفه الأسباب .حتى المقاهي التي كانت تضج بروادها اصبحت خاوية , واذا صادف ان ذهب احد من اهل المدينة هناك فيشرب شايه بصمت , ثم ينسحب الى بيته بعد ان يطل على الجسر , لكن اصحاب الحوانيت كان لهم راي آخر . فقد وقف حجي اسماعيل في وسط السوق , وصاح باعلى صوت : ياجماعة الخير . اذا بقينا هكذا فسنموت جوعا وعطشا ثم اضاف وهو يحدق بالوجوه الحائرة التي احاطت به . مأمور المركز ومدير الناحية وكل زناكين البلد يأتيهم الماء الصافي الى بيوتهم , وكذالك الخضرة والحليب واللحم . لذالك لايكتروثون لعطشنا او جوعنا . كان حجي اسماعيل هائجا حتى انه بكى وشتم ورمى عقاله على الأرض . كانت وجوه الحشد التي تجمعت في وسط السوق تبدو غاضبة ومتعاطفة , ولكنها انسحبت الى بيوتها . بل أنّ البعض انتقد حجي اسماعيل هامسا لزوجته " الحجي بطران .. ما يخاف من الحكومة " وهمس شخص آخر وهويستشهد بمثل شعبي " يردس حيل الما شايفهة , والشايفهة يشد عمامة ",اما الآخرون فاكتفوا بالدعاء ان ياتي النهر مرة اخرى محملا بالخير وان يهدم كل الآبار الآسنة التي استقرت في قعره .
اوتاوة / كندا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأرض والماء جذور الأنتماء الأبدي
د. أكرم مطلك صويح ( 2012 / 8 / 15 - 10:07 )
كنت رائعا في وصفك ذو الأحساس الأنساني الذي لايمكن ان يضعف انتمائنا او عودتنا لجذورنا التي بقيت ندية رغم الغربة الطويلة والبعد الجغرافي الكبير , حقا . في كتابتك لهذة الذكرى ارجعتني الى عالم الطفولة الذي عشنا اجواءه المشتركة


2 - الجذور
رحمن خضير عباس ( 2012 / 8 / 15 - 19:02 )
شكرا عزيزي اكرم .. لنا جذور مشتركة من الصعب ان ننقطع عنها ..ان هاجس الوطن يلح علينا . يطرق ابوابنا بعنف . احيانا اشعر ان ايام طفولتنا التي عشناها معا في الشطرة ونواحيها وقراها هي اجمل واثرى مرحلة في حياتنا .. تحياتي

اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى