الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلمتين لعمال مصر

يوسف يوسف المصري

2012 / 8 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


حين نتحدث عن العاملين في بلادنا – كل من لا يملكون ادوات الانتاج والمؤسسات التي يعملون بها – فاننا نتحدث عن آلام لا حصر لها. يقف العامل – اي من لا يملك ويعمل هنا – في طريق الحياة تائها. فمهمته في الحياة اختصرت الى مطاردة السلعة التي انتجها هو نفسه كي يحصل على قدر منها ليعيش هو وعائلته. واذا اخذنا عامل المصنع نموذجا فسوف نجد ان المفارقة هنا تفتح هوة كاملة في العقل.
من يعمل هو الذي ينتج كل شئ له قيمة من حولنا. فهو يأخذ من الطبيعة لبنا ويصنع جبنا. ويأخذ ترابا ويصنع حديدا وصلبا. ويأخذ قمحا ويصنع خبزا. هؤلاء العاملون ينتجون كل شئ..كل شئ. فمالهم محرومون ايضا من كل شئ؟.
يقولون انه بدون "راس المال" لما امكن اقامة المصنع من الاصل. ولكن راس المال هذه هو في حقيقته تراكم لعمل الآخرين. الفلوس كلفلوس هي مجرد وسيط للتبادل. ان الجنيه الورق لا قيمة له الا قيمة الورقة التي طبع عليها. فبوسع العامل مثلا ان ينتج سلعة وان يبادلها بدلا من الفلوس بكمية من اللبن او من القمح او من اي منتج آخر. ولكن مع تنوع المنتجات وتعقد تقسيم العمل تحتم تطوير اداة تصلح للتعبير رمزيا عن قيمة ما له قيمة اي السلعة او اللبن والقمح والصلب والطوب وكل المنتجات الاخرى.
الفلوس اذن هي مجرد اداة اصطلح الناس على ان تعبر عن قيمة ما ينتجون. ولكن كيف تراكمت هذه الفلوس مع اشخاص لا يعملون لتجعلهم قادرين على شراء ادوات الانتاج سواء كانت حقلا او مزرعة ابقار حلوب او مصنعا او اكثر من مصنع؟.
في بداية قصة هذا المجتمع الرأسمالي كان اول من تمكن من ان يراكم قدرا ضئيلا من هذه الفلوس قادرا على ان يشتري نولين للغزل بالاضافة الى النول الذي يمتلكه والذي كان يغزل به احتياجات اسرته. ولكن ينبغي ان يستأجر صاحب الانوال الثلاثة شخصين آخرين للعمل عليها. ولن يكن هناك فائدة من ذلك الا لو باع انتاجهما بقدر يقل قليلا عما دفعه هو سواء على هيئة اجر او على هيئة مادة خام اي الصوف مثلا (الذي انتجه منتج آخر في القرية). واذا لم يضف صاحب الانوال الثلاثة قدرا من الفلوس على قيمة ما ينتجه العاملين فلماذا قام بشراء النولين الاضافيين من الاصل؟
وبعد قليل تراكم لدى صاحب الانوال الثلاثة ما يكفي لشراء نول رابع ثم خامس ثم سادس. ولكن من اين اتى بالفلوس لشراء كل تلك الانوال؟ انها من الانوال التي انتجها عمال آخرين ومن الصوف الذي انتجه عمال آخرين ومن عرق الاثنين اللذين استأجرهما.
المهم. اخذ صاحب الانوال الثلاثة يكبر وتمكن من تحويل انواله الى معمل صغير ثم معمل كبير ثم اكبر. ومع مرور الوقت فكر عامل آخر في ان يصل عدة انوال بعضها ببعض بحيث ان من يدير نولا واحدا يدير اثنين آخرين معه فزاد الانتاج وزاد الربح وبقي الاجر على ما هو عليه او قريبا مما كان عليه. وبعد فترة اخرى اخترع عامل آخر الماكينة البخارية ثم الماكينات الحديثة وتطورت الامور الى ما نراه.
رأس المال اذن يأتي من تراكم عرق العاملين. ان مالك ادوات الانتاج لم يجده "تحت المخده" ذات صباح ولم يعثر عليه على شجرة. من هنا فان انتاج كل شئ بما ذلك رأس المال نفسه هو نتيجة لعمل من يعملون في تفاعلهم مع مواد اولية قدمتها لنا الطبيعة من حولنا.
وما يحدث الآن هو امر يوضح مدى "الانصاف" الذي يقدمه مجتمع من يملكون. يخرج العامل من مصنعه كل يوم وهو يفكر في شراء اللبن للاطفال وشراء الملابس لهم في العيد وشراء رغيف الخبز. ولكن الم يكن هو نفسه الذي انتج كل ذلك؟ لماذا كتب عليه اذن ان يطارد ما انتج طوال عمره ليحصل منه على قدر ضئيل يعينه بالكاد على ان يعيش؟ السبب هو ان قسمة نتيجة العامل ليست عادلة. وحتى تصبح تلك القيمة عادلة ينبغي على العامل لا ان يحصل على مرتب اكبر فقط ولكن ان يتمكن من التحكم في نتاج عمله بالكامل. ليس من حق احد ان يحرم من ينتجون مما ينتجون بحجة ان لراس المال حصة. حين ننظر كل يوم الى جنيه ورقي علينا ان نتذكر انه يخفي عرق عامل لا نراه في داخله. الا انه ينتهي عادة الى جيب من لا يعمل. الى جيب من يملك. وذلك رغم ان من يملك لم يكن ليملك دون ان يقتطع حصة من عرق العامل.
فضلا عن ذلك فان العامل يفني عمره امام ماكينة او في عمل مكرر لا معنى له ولو كان في مكتب. انه يخسر يومه في امر لا يجعله يفكر او يبدع او يبتكر اي شئ. ان هذا الايقاع اللا انساني يجعل العامل شبيها بالآلة. ثم ان العامل يخرج من المصنع منهكا في آخر اليوم ليجد الآلاف ممن لا يعملون يستمتعون بوقتهم بتلذذ. وليس في الامر حسد والعياذ بالله ولكنه امر عقل. فكيف يمكن ان يحصل من لا يعملون على هذه الحياة ان كان الاصل في كل ثروة هو عمل من يعملون؟
ان علاقات التوزيع التي تضع العامل في اسفل السلم الاجتماعي وتضع اي منتج لا يملك تحت ارجل الجميع تصيغ المجتمع بأكمله على اساس من امر واحد..الفلوس. الزواج فلوس والاخوة اصبحت فلوس والقرابة فلوس وكل شئ اصبح فلوس. انها غربة شديدة لهذا العامل في مجتمع يعتبره بلده ووسط ناس يعتبرهم ناسه. علاقات توزيع الثورة ونتاج العمل هي علاقات غير منصفة لمن انتج الاثنين. والمجتمع الذي تأسس عليها ليس منصفا لملايين من يعملون.
سكان العشوائيات والفلاحين الاجراء والفقراء جميعا يعملون على نحو او آخر ليعيشوا. ساكن العشوائيات يبحث عن اي شئ "يأكل منه لقمة عيش". حمال او شيال او خادم او سائق ..يوم يعمل وعشرة لا يجد عملا. ولكنه في النهاية واحدا من ولئك الذي ينتجون بقدر ضئيل او بقدر ما تسمح لهم علاقات الانتاج الرأسمالية التي لا تتيح له حتى فرصة ان يجد من يستغل عرقه طوال الوقت بسبب عجز الرأسماليين عن تطوير مجتمعنا.
ويقف العامل حائرا في عالم لا قلب له. انه عالم يحرمه مما انتج بل ويجعله يجري خلف ما انتجه هو نفسه ليحصل منه على قدر ليعيش. ان السلعة التي انتجها العامل نفسه تصبح خصما له. فهو يفكر في عدد الارغفة وعدد البيجامات وعدد القمصان الذي سيكفي الاولاد. انها غربة موحشة في عالم بناه هو نفسه.
لقد آن لذلك كله ان ينتهي. من يتاجرون بالدين لا ينبغي النظر اليهم من زاوية دينية. فصاحب المصنع الملتحي وصاحب المصنع الحليق وصاحب المصنع المسلم وصاحب المصنع المسيحي يجب ان يكون تعريفهم الوحيد انهم اصحاب مصانع يعيشون دون عمل. واذا كانوا يعملون في اليوم 8 ساعات فان بالامكان ان يتقاضوا مرتبا مثل غيرهم من العمال. اما حكاية الحصول على ارباح بسبب امتلاكهم راس المال فقد عرفنا توا ان راس المال هذا هو نفسه من انتاج عمال آخرين سبقونا كما انه من انتاجنا نحن ايضا.
لسنا ضد الاخوان ولا مع الاخوان ولا ضد العسكر ولا مع العسكر. نحن فقط ضد من يحرمون العامل من حقه باستخدام الدين او باستخدام الامن المركزي ومع من يعرقون كل يوم ليجدوا الفتات في نهاية اليوم. هل هو حقد والعياذ بالله؟ انه ليس حقدا. انه حق. ليس لدى العامل في مصر ما يخسره الا الهموم التي تطارده من الميلاد وحتى القبر. بل ان كل فقراء مصر لا امل لهم الا ان في ان يقفوا وراء عمال مصر ليحرروا بلادنا من كل هذه المظالم التي تحكم على الناس بحياة لا طعم فيها للحياة. ان من يملكون ليس لديهم قضية الا الدفاع عن هذا المجتمع بالقانون والشرطة والامن وبتجارة الدين وبكل الاسلحة المتاحة. وهذا طبيعي. فهو مجتمعهم الذي يتيح لهم الاستمرار في اقتطاع حصة كبيرة من عرق العامل.
صاحب العمل المتدين لا ينظر الى غربة العامل في هذا المجتمع من نفس الزاوية. انه متدين حقا ولا يمثل. ولكنه يرى الدين من زاوية محددة هي تأويله لكي يحافظ على هذه الامتيازات الاجتماعية التي تأسست على سرقة عمل العامل. انه لا يشعر بتلك الغربة عن المجتمع من الاصل. بينما العامل المتدين يخشى ربه ويتقن عمله ولا يجد شيئا في نهاية المطاف الا الهم والفقر والامن المركزي وعبارات تخدم الراسمالي من نوع ان الخالق عز وجل خلقنا طبقات..ليس في الفهم والعقل او القوة..ولكن في الفلوس فقط. ولكن لماذا تختارون التفسير الذي يلائمكم انتم؟.
امام عمال مصر مهمة تحرير انفسهم من كل تلك الهموم وتحرير فقراء مصر الذين سيتبعونهم طالما انهم يدافعون عن مجتمع جديد بلا استغلال ولا قهر لا باسم الدين ولا بهرواة الامن المركزي.
البعض يقولون ان العمال غير قادرين على فهم الشرح المعقد للنظريات الاقتصادية والاجتماعية. وهذا طبعا كلام فارغ لا لشئ الا لان اي نظرية اقتصادية او اجتماعية تتعرض لما يحدث في حياتهم هم فانه يستطيعون فهمها "على الطاير" كما يقولون افضل من مثقفين كثيرين. انهم يعيشونها كل يوم.
ويذكرني ذلك بالقول ان العمال لا يصلحون للديمقراطية او الحكم او تلك القضايا المعقدة التي ينبغي تركها للافنديه والمثقفين. وهذا كلام افرغ من سابقه. فليس المطلوب من الفقراء جميعا في اي ديمقراطية حقيقية الا التعبير عما يعانون منه في حياتهم اليومية. ان الحكم والديمقراطية لا معنى لهما بعيدا عن العناية بالمجاري والكهرباء والمياه النظيفة ومدارس الاولاد وجعل السلع في متناول الناس الذين ينتجونها سواء كانوا فلاحين او عمالا. انهما ليسا خطبا بليغة ولا تجارة بالدين وترديد لاحاديث وآيات. انها حياة كل يوم. وحياة كل يوم هي مرار كل يوم كما يعرف فقراء مصر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Brigands : حين تتزعم فاتنة ايطالية عصابات قطاع الطرق


.. الطلاب المعتصمون في جامعة كولومبيا أيام ينتمون لخلفيات عرقية




.. خلاف بين نتنياهو وحلفائه.. مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث ملف ال


.. تواصل فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب بمشاركة 25 دولة| #مراس




.. السيول تجتاح عدة مناطق في اليمن بسبب الأمطار الغزيرة| #مراسل