الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زبيغنيو بريجانسكي و الماكيندرية الجديدة

جلال خشيب

2012 / 8 / 16
السياسة والعلاقات الدولية


مع نهاية القرن العشرين جاء زبيغنيو بريجانسكي المستشار الأسبق للأمن القومي الأمريكي، بنظرية جديدة يعيد فيها حيوية الأفكار التي جاءت بها نظرية "قلب العالم" في مؤلفه الشهير "رقعة الشطرنج الكبرى".
والافتراض الذي ينطلق منه بريجانسكي مفاده أن السيطرة العالمية للو.م.أ "الزعيمة الحالية للتلاسوكراتيا"، تبقى مفتوحة وغير مكتملة ما لم تعززها بالسيطرة على منطقة أوراسيا التي هي بمثابة الفراغ الجيواستراتيجي المتمم لسيطرتها العالمية، إذا ما توافرت شروط إملاء هذا الفراغ وتتلخص نظرية بريجانسكي بالأفكار التالية:
يقول بريجانسكي: "إن أوراسيا هي الجائزة الجيوبوليتيكية الرئيسية فأوراسيا هي القارة الأكبر في العالم وهي المحور في مجال الجيوبليتيكا تسيطر القوة التي تتحكم في أوراسيا على اثنين من مناطق العالم الثلاث الأكثر تقدما والأوفر في مجال الإنتاجية الاقتصادية، تكفي نظرة واحدة إلى الخارطة إلى اكتشاف أن بسط السيطرة على أوروبا يستتبعه أوتوماتيكيا إخضاع إفريقيا، الأمر الذي يجعل نصف العالم الغربي وأوشيانا بمثابة المحيط الخارجي للقارة المركزية من الناحية الجيوبوليتيكية".
يعيش في أوراسيا حوالي 75% من شعوب العالم، وفيها أيضا توجد معضم ثروات العالم سواء كانت مخبوءة تحت ترابها أو ظاهرة في مشاريعها وأعمالها تنتج أوراسيا حوالي 60% من إجمالي الناتج القومي العالمي وتوجد فيها حوالي ثلاثة أرباع مصادر الطاقة المعروفة في العالم.
كما أن أوراسيا أيضا، موطن الدول الأقدر سياسيا والأكثر ديناميكية في العالم فالدول الست التي تلي الو.م.أ في ضخامة الاقتصاد وحجم الإنفاق العسكري تقع في أوراسيا، وفي أوراسيا أيضا توجد جميع الدول النووية المعلنة في العالم باستثناء واحدة،كما توجد فيها أيضا جميع الدول النووية السرية باستثناء واحدة، وإلى أوراسيا تنتسب الدولتان الأكثر سكانا في العالم، والدولتان الأكثر تطلعا إلى الهيمنة الإقليمية والنفوذ العالمي… وهكذا فإن أوراسيا هي رقعة الشطرنج التي يتواصل فوقها الصراع من أجل السيادة العالمية… ويتابع بريجانسكي قائلا" إن رقعة الشطرنج الأوراسية بيضوية الشكل لا تشغل لاعبين اثنين بل عدة لاعبين يمتلك كل لاعب منهم كميات متباينة من القوة، يستقر اللاعبون الرئيسيون في الغرب، والشرق والمركز والجنوب تحتوي النهايتان الغربية والشرقية للرقعة على مناطق كثيفة السكان، جيدة التنظيم ومزدوجة بعدد من الدول القوية، ما بين النهايتين الغربية والشرقية تمتد مساحة وسيطة واسعة قليلة السكان وتعاني حاليا من حالة سيولة سياسية وتشظ تنظيمي، وقد كانت هذه المساحة محتلة من قبل قوة منافسة كبرى، إلى الجنوب من تلك السهوب الأوراسية المركزية الواسعة تقع منطقة تجمع بين الفوضى السياسية ومصادر الطاقة الغنية تمتلك أهمية عظمى بالنسبة لدولة أوراسيا الغربية والشرقية معا، وتضم المنطقة الجنوبية الأدنى دولة كثيفة السكان تتطلع إلى الهيمنة الإقليمية.
رقعة الشطرنج الأوراسية هذه ذات المساحة الواسعة والشكل الغريب، والتي تمتد من لشبونة إلى فلاديفوستوك توفر الأرضية التي تدور عليها اللعبة.
فإذا كان بإمكان "القوة العالمية العظمى اليوم" سحب المساحة الوسطية إلى داخل الفلك الغربي المتوسع –حيث تسود هذه القوة- وإذا لم تخضع المنطقة الجنوبية لسيادة لاعب واحد وإذا لم يتواجد الشرق بطريقة تتيح طرد هذه القوة العظمى من قواعدها الموجودة على سواحله يمكن عندها القول بأن السيادة قد تحققت لهذه القوة أما إذا رفضت المساحة الوسطى الغرب، وتحولت إلى كيان موحد ذي شأن وتحقق لها واحد من أمرين، إما السيادة على الجنوب أو عقد تحالف مع اللاعب الرئيسي في الشرق، فإن سيادة هذه القوة على أوراسيا تتقلص بشكل درامي ويصح القول نفسه إذا ما توحد اللاعبان الشرقيان الرئيسيان بأي شكل من الأشكال، وأخيرا فإن أية إزاحة للقوة العظمى من موقعها على الطرف الغربي من قبل شركائها الغربيين يعني أوتوماتيكيا، نهاية مشاركة هذه القوة في لعبة الشطرنج الأوراسية.
وانطلاقا من أهم الأفكار الواردة ضمن هذا العنصر، نخلص إلى الأهمية البالغة التي أولاها الباحثون أو القادة السياسيون والعسكريون لدور إقليم أو أقاليم محددة، -بما تتمتع به من ميزات فريدة- في جذب أنظار القوى الكبرى الطامحة إلى الهيمنة العالمية والتي تبني إستراتيجيتها في تحقيق هذه الهيمنة انطلاقا من الارتكاز على هذا الإقليم –أو الأقاليم- دون غيره، مما يجعل هذا الإقليم وخلال فترة زمنية معينة، سببا كامنًا وراء تفجير نزاع حاد لا يمكن التنبؤ بنتائجه وانعكاساته الدولية.
ولعل الشيء اللافت للانتباه في هذه النظريات، أنه وبالرغم من انطلاقها من مسلمات نظرية واحدة، تعطي أهمية لدور الإقليم في تحقيق السيطرة العالمية أو تفجير النزاعات الكبرى، إلا أنها اختلفت في تحديد إقليم بعينه، يكون منطلقا للارتكاز لتحقيق هذه السيطرة أو تفجير هذا النزاع، والذي قد يعتبره البعض ضربا لمصداقية هذه النظريات وتشكيكا في قدرتها على إيجاد نسق موحد لتفسير جيواستراتيجي متكامل لظاهرة النزاع الدولي، إلا أن هذا الاختلاف يمكن إرجاعه إلى مسألتين أساسيتين ترتبط أولاهما بذات الباحثين أو المنظرين، وولاءاتهم الإستراتيجية والقومية، فهذه النظريات تعبر في واقع الأمر عن رؤى جيوبوليتيكية وإستراتيجية محددة يطمح أصحابها إلى تفعيلها عبر مؤسسات دولهم المعنية، فبعد دراسات جادة يحل كل باحث من هؤلاء –حسب انتمائه القومي- إلى أن الإقليم الفلاني هو الأنسب لدولته في تحقيق الهيمنة العالمية من جهة كما أن تكاليف السيطرة عليه ومنع القوى الأخرى من الوصول إليه تتماشى وإمكانيات وموارد هذه الدولة من جهة أخرى، فكما يقول روبرت كوكس في مقولته الشهيرة" أن النظريات تكتب من أجل هدف ما ولشخص ما"
أما المسألة الثانية فترتبط بديناميكية السياسة الدولية والتفاعلات الدولية، ذلك أن مركز الإقليم في إطار السياسة الدولية لا يتوقف من الناحية الجيوبوليتيكية على موقعه الجغرافي الثابت، وإنما يعتمد أيضا وإلى حد بعيد على علاقة هذا الموقع بمراكز القوى المؤثرة في السياسة الدولية، ولما كانت مراكز القوى هذه في حالة تغير لأسباب عديدة، فإن قيمة الموقع الجغرافي للإقليم هو الآخر يتغير، ليس من الناحية الجغرافية، وإنما من حيث طبيعة التفاعلات السياسية، بعبارة أخرى فإن التفاعلات السياسية وتغير مراكز القوى الدولية تؤثر على القيمة السياسية للموقع الجغرافي.
وأخيرا، وبالرغم من الانتقادات الحادة التي وجهت للنظريات الجيوبوليتيكية والجيواستراتيجية عموما، خاصة تلك المرتبطة بإهمالها لعنصر التقدم التكنولوجي والتطور الحاصل في ترسانات الدول العسكرية والأخص ما فرضته الأسلحة النووية والصواريخ العابرة للقارات، والأقمار الصناعية "عسكرة الفضاء"، من قيود على فاعلية هذه النظريات فإن المنافسة على الأرض مازالت تسيطر على الشؤون الدولية، حتى وإن أصبحت اليوم تتخذ أشكالا أكثر تمدنا كما يذهب إلى ذلك مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبيغنيو بريجانسكي، والذي يضيف أنه: "وفي إطار هذه المنافسة لا يزال الموقع الجغرافي يشكل نقطة الانطلاق في تحديد الأولويات الخارجية للدول القومية، كما يظل حجم الرقعة الوطنية واحدا من أهم المعايير المكانة والقوة".

يونيو 2009

جلال خشيب باحث مهتم بالدراسات الدولية و الإستراتيجية ، الجيوبوليتيكا و الفلسفة السياسية ، جامعة منتوري قسنطينة / الجزائر .

المراجع المعتمدة :
1- بريجنسكي زبيغنيو، رقعة الشطرنج الكبرى، الأولية الأمريكية و متطلباتها الجيواستراتيجية ترجمة: أمال الشرقي، الأهلية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 2007، عمان-الأردن.
2- دوغين ألكسندر، أسس الجيوبوليتيكا، مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة: عماد حاتم، دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الأولى 2004 ، بيروت-لبنان .
3- الذيب محمد محمود إبراهيم، الجغرافية السياسية، منظور معاصر، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة السادسة 2005، القاهرة-مصر.
4- فهمي عبد القادر محمد، المدخل إلى دراسة الإستراتيجية، دار مجدلاوي، الطبعة الأولى 2006، عمان-الأردن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن في الرياض.. إلى أين وصل مسار التطبيع بين إسرائيل والس


.. طلاب مؤيدون للفلسطينيين يرفضون إخلاء خيمهم في جامعة كولومبيا




.. واشنطن تحذر من -مذبحة- وشيكة في مدينة الفاشر السودانية


.. مصر: -خليها تعفن-.. حملة لمقاطعة شراء الأسماك في بور سعيد




.. مصر متفائلة وتنتظر الرد على النسخة المعدلة لاقتراح الهدنة في