الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدينة الرمل الأحمر المتجمد

نرمين خفاجي

2012 / 8 / 19
الادب والفن


نزل المساء منذ أكثر من ساعة، كان الكورنيش غارقا في ضوء أعمدة الكهرباء، ورائحة البحر موحية، والموج يضرب صخور الشط في حوار أبدي لا يفهمه سوى عشاق المدينة العتيقة.
تقبع قلعتها على مرمى البصر، وكأنها شاهد قبر الفنار الذي كان منتصبا في نفس المكان وكان واحداً من عجائب الدنيا السبع، لم ينقش على القلعة الجمل المعتادة على الشواهد تذكيرا بالفنار " ولد في 270 قبل الميلاد وانتقل إلى عالم آخر في 1323 إثر زلزال مدمر".
تتوالى الصور والأحداث والعصور، بينما اصطف المصلون على الكورنيش وتتعالى الهمهمات ويصدح الإمام في مكبر الصوت بقراءة القرآن في أحد أيام العشر الآواخر من رمضان والذي يوافق ذكرى انتحار كليوباترا في 10 أغسطس من عام 30 ق.م بلدغة الكوبرا أحد آلهة مصر الرابضة فوق تاج الملوك وخادمة رع إله الشمس والتي تمنح لدغتها الخلود والألوهية.
أمام المسجد ذو المئذنة الطويلة الرشيقة، والذي بنى في 1948 عام النكبة، وقام بتصميمة المعماري الإيطالي ماريو روسي.
اصطف المصلين والسيارات في صفوف لا نهائية، في مشهد جلل، تظاهرة صلاة التراويح.
اكتظاظ المصلين، تمركز السيارات، صوت الإمام، همهمة المصلين، مزاحمة المارة، كلاكسات العربات التي تبتهل من أجل العبور، تأتي سرينة عربة الإسعاف لتتصدر هذا الصراع المروري الكثيف، كان بعض المصلين قد اعتلى أسطح أحد المباني المنخفضة واصطفوا فوقه، ولم يخرج الباعة الجائلين من المشهد.
"لقد تحول الشط من شط الهوى الى شط التهجد وصراع المرور"
خلف هذا المشهد جلس شابان أسفل سور الكورنيش تتصاعد من سيجارتهما أبخرة الحشيش ويتحدثان في أساطير قديمة لآلهة اندثرت وغرقت تماثيلها في بحر المدينة الهائج الذي ظلت أمواجه تنحت في صخور الشاطيء ملاحم عن المدينة الغارقة بميادينها وشوارعها الفسيحة وأعمدتها الرخامية القديمة قدم تلك المدينة، رآيا من مجلسيهما "الموسيون "أو المجمع العلمي والمكتبة الشهيرة وجميع الأماكن الغارقة التي سار وعاش فيها علماء في الفيزياء والفلك والجغرافيا والهندسة والرياضيات والطب والفلسفة والادب. "إقليدس" عالم الهندسة "أبولونيوس ""هيروفيلوس" في الطب والتشريح "إراسيستراتوس" في الجراحة "جالينوس" في الصيدلة "إريستاكوس "في الفلك "إراتوستينس " في الجغرافيا "ثيوفراستوس" في النبات "كليماكوس" "ثيوكريتوس "في الشعر والأدب "فيلون"و"أفلاطون" في الفلسفة وعشرات غيرهم كانت عصارتهم ترياقا لعقل الإنسان.
وبينما هما يتسامران حول الآلهة القديمة، كان المصلين ساجدين في خشوع تتهادى همهماتهم تظللها صوت سرينة عربة الإسعاف الحائرة، والتي لم تستطع التحرك وسط كل هذا الجو المتكثف من الإيمان وصفوف سيارات المصلين المركونة بنهر الطريق، سوى بضعة أمتار، ربما كانت فاصلا بين الحياة والموت، اختلطت كل هذه الأصوات بصوت الموج الذي انشق فجأة محدثا دويا عاتيا، انشق عن طاقة نور تجلى من وراءها بوسيدون إله البحر، الذي وهب الحصان لبني البشر عندما نازع أثينا على امتلاك مدينة أثينا و حسم الآلهة الأمر بأن تمنح المدينة لمن يستطع أن يهب البشر أعظم فائدة، فضرب بوسيدون صخرة برمحه ذي الثلاث شعب ، فظهر حصان في الحال. ولكنه في هذه المرة شهق فانصهرت السيارات وافترش معدنها الشارع الفسيح أسفل جباه المصلين الساجدين، وعندما ضرب صخر الشاطئ برمحه ذي الثلاث شعب، وهو يقرأ قوله تعالى "وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون"
تحول الساجدين في لمح البصر إلى تماثيل من الحجر الرملي الأحمر المشع من شدة الإيمان على قاعدة من المعدن اللامع.
تحول المشهد بكامله إلى متحفا للإيمان، أصبح هناك متحفان أحدهما يعيش تحت الماء منذ القرن الثامن الميلادي، حين سقطت المدينة العتيقة في ماء البحر. كانت تقف على الشاطئ لترى نفسها مختالة في صفحة الماء فغاصت بها الأرض التي تحولت إلى عجينة لدنة عندما داعبها فيضان النيل، فانزلقت إلى البحر ثم لم تلبث ان ابتلعتها الامواج بشوارعها وقصورها ومعابدها وتماثيلها ومجدها الغابر، وحوادثها الدامية، وصراعات ملوكها وكهنتها وآلهتهم أجمعين فاستطوطنتها الأسماك وكللت رؤوس تماثيلها أعشاب البحر وذابت اصوات المدينة العريقة في صوت الموج. والآخر على الشاطئ يجسد حالة من الإيمان الإستعراضي النادر، انه حقا متحف الإيمان الحديث.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال


.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب




.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي


.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء




.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان