الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلاغة التحديث في الخطاب السينمائي

احمد ثامر جهاد

2005 / 2 / 20
الادب والفن


1- شكسبير وريتشارد وحداثة الأسلوب :
يشكل المجال السينمائي اليوم حقلا خصبا ومرنا لتجريب تصورات فنية عدة ، واختبارا حقيقيا لجدارة واتساق المواقف الفكرية والجمالية المتباينة التي تقف جميعها على أرضية متقاربة يمثل وجودها صيغة التشكل اللانهائي للغة الفيلم ، حتى يغدو وبتعبير " يوري لوتمان " :- إن فهم لغة الفيلم هو خطوة أولى وحاسمة نحو فهم الوظيفة الفنية والأيديولوجية للسينما ..
ولرغبتنا استقراء طبيعة تلك الفروض التحليلية المعبرة عن السمات العامة للنظرية السينمائية بتصوراتها النقدية ، سنحاول التوقف قليلا عنـد فيلم " Looking For Richard " للممثل والمخرج " آل باشينو " 1996 وهو عمله الإخراجي المميز بجدارة واحتراف تنأيان به عن جملة أفلام أخرى قدمت " شكسبير " على الشاشة معتمدة في ذلك مجاورة عظمة العمل المسرحي الشكسبيري بعمـل سينمائـي منافس ( ربما يتذكر البعض فيلم " ريتشارد الثالث " الذي أخرجه في الثمانينات المخرج التشيلي الأصل " رؤول رويز " المعروف باهتماماته الأدبية المميزة ، والتي توجها أخيرا بمغامرته لاخراج نسخة سينمائية رائعة عن ملحمة مارسيل بروست ( الزمن الضائع ) لكن فيلم " ريتشارد الثالث " لآل باشينو مختلف تماما عن كل ما ألفناه سابقا من الأفلام الممسرحة ، سواء في بنائه السردي أو سياقه الجمالي أو فكرته . يمكن القول أن الفيلم ذكي في طموحه لتقديم " ريتشارد الثالث " مؤفلما يكاد يكون تجريبيا في أدائه ، وثائقيا في منحاه ، جماليا في مبناه العام .
ماذا تبقى لنا من " شكسبير " ؟ سيسال أحدهم .
قد نختلف في وجهة السؤال ، لكننا نجيب متسائلين : ما جدوى أن تقدم السينما " شكسبير " محاطا بذات الهالة التي عرفناها نحن قراؤه ؟
بالتأكيد إن للفيلم حرية كبيرة في اختيار ذاك الواقع واستخدامه حيا أو مكتوبا، وجعله مقلدا أو مبتكرا حينما تقاد حركته الدراماتيكية إلى حيز الشخصيات الضاجة والدراما المحبوكة ، وهي تنسج على الشاشة نظاما محكما من العلامات ، يبرز بشكل اكثر خصوصية ارتباطنا العميق بالصورة السينمائية .


2- بناء الفيلم أو البلاغة المواربة :
باستعارة القيمة النظرية لمنهج " جاك دريدا " التفكيكي في تحليل النصوص أو نقدها ، نرى أن نقطة البداية في الفيلم يمكن افتراضها كآلاتي : إن أي نص وخلال قراءته ، يدعو إلى البحث عن نقطة متنافرة أو عن نسيج لا متجانس في بنيته ، يكون بمثابة دليل إلى مركز توتر كامن ، يعمل بصفته دلالة جوهرية ذات أفضلية خاصة للبدء منها في افتراض عملية تفكيك بنائية النص التي تبدو أنها متماسكة .
قد يمثل هذا الإطار النظري تصورا دافعا ومشجعا للبدء في عمل سينمائي يوضع في سياق التحديث السردي للمضمون ( الأصل النصي ) ، ويكاد أثره ينسجم مع متلق طموح يفتش عن دلالة المعنى الموارب لشخصية عميقة ومعقدة بمواصفات شخصية " ريتشارد الثالث " .
جاء في الفيلم : إن ريتشارد سوف يتفكك ، سوف يتحلل ويزول ، ويترك همساته وراءه .. ومن هذه الإشارة الذكية والسريعة ، يأخذ مسار الفيلم اتجاها جديدا يفحص النص الشكسبيري ، يفككه ، يحلل مواقفه ، أحداثه وشخصياته في ضوء إحساسنا الحاضر بشكسبير .
وهنا يقول ( باشينو ) صانع الفيلم : لقد أردت أن اعبر عن مشاعري تجاه " شكسبير " وانقلهـا للنـاس ، لذا فاتحـت " فردريك كيمبل " – وهـو أديـب وسيناريست – واتفقنا أن نحلل رؤيتنا لشكسيبر ، لكي نوصله إلى العالم بالطريقة التي نشعر بها تجاهه .
إن إصرار المخرج على المغايرة جعل مجمل تلك التصورات الفيلمية متجاورة و مندغمة في اسلوب تجريبي يمزج بين الماضي والحاضر ، الواقع والأدب ، مجاورة النص وتجاوزه ، بشكل قلما نرى مثيلاته في أفلام أخرى تعاملت مع نصوص شكسبير . حيث جرت اللمسات الفنية للفيلم بطريقة مثيرة تقترب من ( التغريب البريختي ) الذي يوهمنا به الممثل ( آل باشينو ) عن قصد ، لدى ظهوره متوجها إلى المسرح ، ناظرا إلى الكاميرا وهو يقول : هذا صعودي إلى الخشبة ..
أمثال هذه الجمل هي ما يجعل المغايرة الأسلوبية تكمن في لغة الفيلم وتقنية السرد التي اعتمدها السيناريو ، والتي قسمت استمراريته إلى فصول وعناوين تتصل وتتكامل فيما بينها وفقا لسياقات سينمائية تتخطى تاريخية النص المسرحي . من جانب آخر حاول فريق العمل السينمائي استفتاء آراء عامة الناس ، في الشارع والجامعات والمتنزهات ، واستبيان آرائهم في " شكسبير و ريتشارد " وما الذي تمثله هذه الأسماء بالنسبة لهم ، بطريقة بدا أنها توثق للميول الذهنية والسلوكية الحاضرة على اختلاف مستوياتها . فنرى أحدهم يشير إلى ضرورة تقديم " شكسبير " في المسارح وصالات السينما لانه يعلمنا المشاعر، بل اكثر من ذلك يوجهنا نحو الأخلاق ، بدل الاستمرار في قتل بعضنا البعض . وفيما يحاول فريق العمل المسرحي/ السينمائي الاقتراب من مشاعر الناس وأفكارهم خلال استطلاع شبه صحفي ، يسأل (باشينو) مجموعة من الأشخاص العابرين : هل ستأتون إلى المسرحية؟
يرد أحدهم :- كم يكلف الدخول إلى العرض؟ يجيب (باشينو) – تعال مجانا…
وهنا نبدو (كمتلقين) أمام الواقع مباشرة بلا وسائط أو تحضيرات أو أوهام ممثلة ! وبالنظر إلى حركة المسار العام للفيلم ، نلمـس طموحه للوصـول إلى صورة جريئة عن عالم "شكسبير" لكن من وجهة نظر أميركية ، أو لنقل تقريرا صريحا للطريقة التي يفهم الأمريكيون بها "شكسبير" .
فثمة أناس – كما يرد في الفيلم – يكرهون اللهجة الإنكليزية المملة أو الأدبية المتعالية . فالهدف مثلما نراه هو تيسير "شكسبير" للمتلقين والقراء وجعله مفهوما اكثر . والمفارقة التي احتفظ بها الفيلم ، بعد انقضاء جولة طويلة ممتعة استطلعت آراء الناس ، تفيد أن لا أحد يعرف "ريتشارد الثالث" ولن يكترث أحد لذلك !

3- فضاء شكسبيري :
في مفتتح الشريط السينمائي يحاول (آل باشينو) انتقاء اكثر الجمل الشكسبيرية قدرة على الإيحاء والتأثير فيقول : " شتاء عدم رضانا ، يصنع الصيف المجيد…" وتقودنا المشاهد اللاحقة إلى المناخ التاريخي للمسرحية والذي يفيد ان حربا طويلة تدعى " حرب الزهور " نشبت بين عائلة "يورك" وعائلة "لانكستر" من اجل الفوز بالتاج الملكي ، وقد انتهت لصالح " آل يورك " الذين يتحدر " ريتشارد الثالث " منهم ، محاطا باخوة مبرزين هم : إدوارد الملك آنذاك، وكلارنس فارس المملكة النبيل . وبكل الأحوال يبقى " ريتشارد" الشخصية المحركة للأحداث والطموحة اكثر من غيرها في تغيير واقع الأشياء لغاية ما تبتغيه ، الأمر الذي يجعله لا يرضى بلعب دور اقل من دور الملك نفسه . وفي الرسم المسرحي الذي وضعه "شكسبير" لشخصية "ريتشارد" ما يبرر مسألة التركيز على هذا المحور الفاعل دراميا، على افتراض أن "ريتشارد" يملك اخطر موهبة سياسية بين مجايليه ، تضمن له تحقيق طموحاته الفردية .
فهو الذي يقول :" و الآن ، نحن ممتلئون بأعشاب النصر ، تخفق صدورنا لنصب تذكارية كانت قد حققت ما نريد .." وفي مكان آخر يقسو في تقريع نفسه بلهجة حادة صريحة :" أنا مخادع بطبيعتي ، أنا مشوه ، لدي ظهر معطوب ومشوه تماما .. لا أجد المتعة في هذا الوقت الذي يسوده السلام ولا ادري كيف لي أن اقطعه سوى بمراقبة ظلي في ضوء الشمس.."
التطورات اللاحقة تجعلنا نعتقد أن لا شيء بإمكانه أن يثني "ريتشارد" عن تحقيق أحلامه ، لا سيما سعيه الدؤوب إليها برغم الصعاب والمؤامرات والدسائس ، إلى درجة تفضي فيها مرارة تجربته مع الأشخاص والحياة ظلالا من الحكمة والدهاء على فكره السياسي ، وهو الذي يتفوه ببلاغة تليق بملك : " اسلك الطريق الذي لن تعود منه أبدا..".
بتلك السبل وبغيرها ينجح "ريتشارد" في استخدام الخوف العام لصالحه . وتعلق إحدى الشخصيات في الفيلم قائلة : " أن من يتمتعون بالسلطة يحتقرون وعودهم ، وكل ما تعهدوا به…" لكن الموت كان مصيره الأكيد .
ما نذكره هنا من سمات وملامح ذات جاذبية خاصة بوسعها ، في نهاية العرض ، دعوة المتلقي المهتم بمسرحيات " شكسبير " إلى اكتشاف القيمة المواربة في النص المسرحي ، واصطياد المعنى المبثوث في ثنايا الصورة السينمائية .
إنها صياغة أسلوبية حداثوية تلك التي استخدمها الفيلم السينمائي لاجل إظهار مواهبه في ارتياد ما وراء النص ، لا عن طريق الالتزام بحرفيته الأدبية أو نبذها ، إنما ببحثه الجاد عن البلاغة العميقة في النص الشكسبيري ، معتمدا تحليل وتفكيك شبكة معانيه ، مهتديا اكثر بالجمال الكامن فيه .
في نهاية الأمر سيبدو " ريتشارد الثالث" غريبا عن جسده وروحه ، أملا ضائعا لامتلاك السلطة ورؤية الشر ..
" ومثل الأبراج العالية والقصور الرائعة والمعابد الكئيبة ، وريح الجنوب ، بدت تلك الرؤية وكل ما ورثه ريتشارد .." .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع