الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أول يوم في الروضة

محمد الحداد

2012 / 8 / 20
كتابات ساخرة


صباح هذا اليوم أخذت ابني الصغير ذو السنتين والنصف ليلتحق بأول يوم له في الروضة، استقبلتنا معلمته السوداء البشرة بوجه مبتسم برغم أن ابني تفاجأ بلونها، ولم يعجبه تحيتها له، فالتف حول قدمي، وأمسك بسروالي لاجئاً ومعتصماً خوفاً منها، ولكنها وبخبرتها قالت أن السبب بشرتي السوداء، وبعد عدة محاولات منها بالتحدث معه مباشرة، واصطحابها له ليتعرف على باقي الأطفال بمجموعته، بدأ تخوفه منها يضمحل، ولكنه لم يتلاشى.
أخذته لإحدى الصالات التي تجمع بها عدة أطفال للعب بالترمبولينا، وبعضهم كان لا يقفز، بل ينام فوقها، وبكلماتها الرقيقة وحزمها الواضح، رضح لها كل الأطفال، ونزلوا عنها ليدعوا سدير، ابني الصغير للعب والقفز عليها.
فقلت للمعلمة بأنه يستطيع أن يلعب مع آخرين فوقها، قالت ولكنه سيقع أرضاً، فهي لا تتحمل إلا طفلاً واحداً كل مرة، ولذا فإنها ستعد له عشرة قفزات ثم يترك مكانه لطفل آخر.
ولكن ابني أبى أن يترك القفز، فقد أعجبه، ولم ينزل من فوق الترمبولينا، فأعطته دوراً آخر، ولكنه استمر، فحاولنا معه مراراً وتكراراً، ولكنه يأبى في كل مرة ترك اللعبة وإعطاء الدور لغيره، وهذا ليس حال ابني الصغير ذو السنتين ونصف فقط، بل حال كل ساسة العراق، في ماضيه وحاضره، فهم أطفال بعمر صغيري، فلا يغرنكم شكلهم، فعقولهم كعقل ابني، يتشبثون بلعبتهم، ولا يحبون أو يحترمون دورهم، وأنه انتهى من زمن ليس بالقصير.
بعدها تم رفع الترمبولينا، وشغلوا جهاز تسجيل، واستمعنا لأغاني جميلة، رقص الأطفال على أنغامها، ثم أجلسوهم جميعاً، وغنوا مع معلمتهم أغنية يذكرون بها الصباح الجميل، والجو اللطيف، وكنت قبلها قد أمسكني المطر بشلاله، وكان مازال يهطل بكثافة، فعن أي جو جميل يتحدثون، انه بالخيال فقط، ولكنهم يجب أن يتعلموا التفاؤل، وحب يومهم، حتى لو جاء بالطوفان، وليس كحال ابناء شعبنا، نبكي حظنا ليل نهار.
بعدها جاءت أغنية التعارف، حيث يبدؤون بذكر اسماء كل الأطفال، مع تصفيق ومديح لكل واحد منهم، وبعدها نادت بأسماء ثلاثة منهم للذهاب لغسل أيديهم للطعام، وبعدها ثلاثة أخرى، وهكذا.
جلس كل الأطفال حول طاولة مستديرة، ومعهم معلمتهم ومساعدتها، وبدأ توزيع الحليب عليهم، وأحضر كل طفل علبة طعامه وفتحها بنفسه، وبدأ يأكل، الكل بنظام وترتيب، يذكرني بترتيب لقاءاتنا وقت الأعراس أو مجالس الوفيات، حيث يكون الهرج والمرج هو الطاغي حين يحضر الطعام، خاصة لو كان اوبن بوفيه، وكأننا مجموعة من الجواميس أو الذئاب.
أكل جميع الأطفال، وشربوا حليبهم الموجود في أكواب صغيرة ملونة وبيضاء، ثم رفع الأطفال بأنفسهم باقي طعامهم، وأبلغتهم معلمتهم بضرورة لبس ملابس واقية من المطر لانهم سيخرجون للعب في الحديقة، بالرمال ومياه الأمطار، فنزلنا معهم لحجرة تغيير الملابس، وبعض الاطفال اعترض أن الجو ماطر، وانه بكثافة، قائلا الجو سيء، فقالت المعلمة، لا يوجد جو سيء، بل هناك فقط ملابس سيئة لا تصلح لهذا الجو.
وقالت لنا، أنا وطفلي، أن بإمكاننا المغادرة اليوم، وغدا سأمضي مع طفلي ساعتين وأتركه بعدها، وبعد غد لن أمضي معه بالروضة أي وقت، حيث سيتعلم أن يبقى لوحده.
لم يعجب ابني ان نغادر، فهو يريد أن يلعب، فبدأ يصرخ ويصرخ حتى أرضخ لمطالبه، وهذا بالضبط ما يفعله المتحاورون في أي برنامج سياسي أو ثقافي على الجزيرة أو العربية، فعندما لا يجد المحاور شيئاً ليقوله، يرتفع صراخه، وهو باعتقادي بقايا آثار ورثناها من أجدادنا القردة، أو أخوة القردة، حيث معروف جداً أنها أكثر الحيوانات تحب الصراخ لإثبات الذات، أو لإثبات أنه الذكر الأول المسؤول عن تلقيح أناث القطيع.
ولكن ابني رضح بعد لحظات لطلباتنا حينما حاورته المعلمة قليلاً بالرغم من أنها تتكلم لغة لا يفهم منها ابني حرفاً واحداً، ولكنه فهم أن ما يفعله خطأ، وعليه أن لا يعيده.
حيتنا المعلمة بابتسامتها المعهودة، وقالت بأن ابني سيتغير مع الوقت، وسيكون مطيعاً ولطيفاً، يعرف دوره، ويعرف حقه، وأهمها يعرف دور غيره، وحق غيره أيضاً.
فالحضارة لا تأتي بالصراخ والعويل وندب الحظ العاثر، الحضارة تأتي بالبناء والتعلم واحترام الآخر، وحقه بالوجود وحريته بالاعتقاد والتعبير، ليس بالصراخ، بل بالكلام اللطيف.
أكتب كلامي هذا وأنا أتذكر كم هو الفارق الحضاري بين مثقفينا وكتابنا، حتى بموقعنا الحوار المتمدن، أو على صفحات الفيسبوك، ( وأكبر دليل كم التعليقات والاتهامات المعيبة والمخجلة على أي مقال مثير للنقاش ) وبين معلمة ابني الغامقة اللون، القادمة من كينيا، والتي تتحدث السواحيلي، والتي تغيرت قيمها الحضارية، من قيم الصراخ والعويل ولطم الخدود الافريقية والشرق أوسطية، الى قيم حضارية اوربية اسكندنافية.
تحياتي وتحيات ابني ومعلمته لكل العقول التي تفهم وتعي.

محمد الحداد
20. 08. 2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
مجدى زكريا ( 2012 / 8 / 20 - 20:44 )
مقال رائع وجميل تستحق التهنئة عليه
ويدخل فى نطاق السهل الممتنع
شفت ياسى محمد ماخيبتش املى فيك
فبعد سقطة انا وصديقى الملحد والعم والبطيخ
رجعت لجمالك وذكائك وبساطتك
مالك انت بالايمان والالحاد ومواضيع التفريق بين البشر
وعقابا ليك انك حرمتنا من مقالاتك القيمة لتكتب تلك السلساة الرهيبة
ان تلخص الخمسين مقالة فى مقالة من صفحة واحدة
حتى نفهم انت قلت ايه بالظبط

اخر الافلام

.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق


.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس




.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي