الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


امريكا:مجتمع المُلكية ينقلب على دولة الرفاه

يعقوب بن افرات

2005 / 2 / 20
الادارة و الاقتصاد


بدأت الولاية الثانية للرئيس بوش بزوبعة من النقاش الداخلي الحاد، حول اقتراحه تعديل برنامج التأمين الوطني الخاص بالتقاعد ومخصصات الشيخوخة. الاقتراح هو تحويل جزء منها لاستثمارها في البورصة، وذلك بادعاء ان جهاز التأمين الوطني سيعلن افلاسه في غضون 40 عاما، لانه لن يكون بوسعه دفع المخصصات. غير ان هذا الادعاء لا يلقى اجماعا بين الساسة والاقتصاديين، لانه من الصعب جدا معرفة وضع الاقتصاد الامريكي وحجم القوى العاملة بعد 40 عاما.
يدور الحديث عن برنامج التأمين الوطني الذي بادر اليه الرئيس الديمقراطي، فرانكلين روزفيلت، في الثلاثينات لحماية العمال والمسنين، الذين وجد الملايين منهم نفسه في الشارع بعد فقدان اماكن العمل ومصادر الرزق على خلفية الازمة الاقتصادية العميقة التي ضربت الولايات المتحدة عام 1929.
وشكّل برنامج التأمين الوطني ركنا رئيسيا في دولة الرفاه التي اسسها روزفيلت، واحتذى بها معظم دول العالم المتطور. فقد كانت مؤسسة على رؤية اجتماعية ترى في الدولة وسيلة لخدمة المجتمع ككل، ومسؤولة عن رفاهية الانسان. جاء هذا خلافا للنظام السابق الذي انتهى الى كارثة كما ذكرنا، اذ اعفى الدولة من اية مسؤولية وربط مصير المواطن بادائه الشخصي - فإن كان محظوظا، حصل على عمل ثابت وضمن مستقبله، والا فالبؤس مصيره.
وتنص قوانين التأمين الوطني على ان يدفع كل عامل ضريبة قيمتها 6% من معاشه، وان يدفع صاحب العمل مبلغا شبيها يتم توفيرها في صندوق التأمين الوطني. وتتحول هذه المبالغ الى مخصصات ثابتة يتقاضاها العامل لدى احالته للتقاعد. وتتراوح قيمة مخصصات التقاعد لمن يتقاضى اجرا متوسطا، بين 1000-1500 دولار شهريا. ويعتبر هذا مبلغا زهيدا، ولكنه حد ادنى تضاف اليه مخصصات اخرى، مثل الرعاية الصحية المجانية وبرامج اعانة مختلفة حسب الوضع الاقتصادي للمواطن.
غير ان اصحاب الرساميل الامريكان الذين اتُّهموا بالمسؤولية المباشرة عن الكارثة الاجتماعية التي اصابت الولايات المتحدة في الثلاثينات، لم يرضوا عن البرامج الاجتماعية الجديدة. فقد كان عليهم تمويل جزء كبير منها، من خلال الضرائب المرتفعة التي جبتها منهم السلطات. ولم تكن برامج الرفاه وحدها مصدر استياء رجال الاعمال، بل دعم الحكومة لحقوق العمال مثل حد الادنى للاجور، والاعتراف بحقهم في التمثيل النقابي، بالاضافة لحقوق اجتماعية اخرى رفعت مستوى معيشة العمال ولكنها كلّفت الشركات مبالغ طائلة.
ولم يهدأ بال الشركات الكبرى حتى وصل الرئيس الجمهوري رونالد ريغان للحكم عام 1980 وقاد انقلابه على دولة الرفاه. وتجلى هذا في تقليص تدريجي، ولكن ثابت، لكل الانجازات التي حققتها الطبقة العاملة الامريكية، وبالمقابل تم كسر النقابات، فتراجع نفوذها لدرجة لم تعد تمثل اليوم سوى 13% من القوة العاملة الامريكية. في ظل غياب جهاز كفاحي فعال يمكنه الدفاع عن الانجازات الاساسية للعمال، يصبح قانون التأمين الوطني عرضة للخطر، بعد ان كان حقا مقدسا لم يستطع اي زعيم، ولا حتى ريغان نفسه، المساس به.
هذا التحدي تولاه جورج دابليو بوش، فهو يقترح تحويل جزء من الضريبة (4%) الى حسابات منفصلة خاصة بكل عامل، على ان تعتبر توفيرا اضافيا لمخصصات التقاعد. ويتم استثمارها في اوراق مالية، الامر الذي يعني ضخ مبالغ هائلة الى البورصة.
ويثير الاقتراح حفيظة الحزب الديموقراطي والكثير من الاقتصاديين، ولهم في ذلك ادعاءان: الاول، نتائج الاستثمارات في الاسهم غير مضمونة، فقيمتها ترتفع وتنخفض حسب العرض والطلب في البورصة، وليس حسب مشيئة احد، الامر الذي يعني تعريض توفيرات التقاعد للمخاطرة. الثاني، ان الجدوى من الاستثمار في البورصة ليست مغرية، فنسبة الفائدة في البورصة لن تتجاوز على المدى البعيد ال3% سنويا، وهي النسبة التي يحققها جهاز التأمين الوطني للعامل من استثمار توفيراته في اوراق الاعتماد التي تصدرها الخزانة الامريكية.
ولا يبدو ان هذه الادعاءات "الثقيلة" تقنع الرئيس الامريكي، كما لا تقنعه معارضة كثيرين في حزبه للاقتراح الذي يخشون ان يكلفهم مقاعدهم في الانتخابات النيابية المزمع عقدها بعد عامين. بوش ماضٍ في خطته، ويعتزم طرح القانون على الكونغرس، فما سر الاصرار؟
الطاقم المحيط ببوش يريد إحداث تغيير جذري في السياسة الامريكية، ليضمن هيمنة الحزب الجمهوري على الساحة السياسة لسنوات طويلة قادمة. وكما علّق احد اعضاء الحزب الجمهوري في مقابلة لصحيفة "نيويورك تايمز" (15/1): "فكرة "مجتمع المُلكية" (Ownership society) ستكرّس نفوذ الحزب الجمهوري، تماما كما كانت فكرة روزفيلت حول دولة الرفاه (الوفاق الجديد – "نيو ديل") وفكرة ليندون جونسون حول "المجتمع العظيم"، اساسا لفوز الحزب الديمقراطي بالاغلبية على مدى اجيال".
كيف سيضمن "مجتمع المُلكية" الاغلبية للجمهوريين؟ تعتمد النظرية على ان مستقبل العامل لن يعود مرهونا بعطايا دولة الرفاه، بل باداء البورصة والشركات المستثمرة فيها. وعلى نحو غريب سيكون من "مصلحة" العامل ان تزيد الشركة ارباحها من خلال الامعان في استغلاله والحصول على اعفاءات ضريبية من الحكومة، لان هذا سيرفع قيمة اسهمها في البورصة، بما فيها مخصصات التقاعد.
والآن، بما ان الحزب الجمهوري هو حزب البورصة والشركات الكبرى، فسيكون من الطبيعي ان تربط الطبقة العاملة مصيرها به وبرأس المال، وليس بالنقابات وبالحزب الديموقراطي الذي اسس برامج الرفاه لعدم ثقته بحسن نوايا الشركات الرأسمالية.
الغريب ان ادارة بوش تتصرف بمعزل عن الواقع، فهي تصر على تطبيق خطتها الايديولوجية، رغم المعطيات السلبية حول اداء الاقتصاد الامريكي. فامريكا تواجه تراجعا تاريخيا مستمرا منذ 30 عاما دون توقف. اما البورصة الامريكية التي سيكون على المواطن الامريكي العادي ان يعلق مستقبله بها، فتراوح مكانها، وتعجز عن الخروج من ازمة الثقة التي اصابتها منذ عام 2000 عندما انهارت عقب الفساد الكبير الذي انكشف في معظم شركاتها الرئيسية. ولا تزال المحاكم متواصلة ضد مدراء الكثير من هذه الشركات المتهمة بالتلاعب في اموال الجمهور، والتسبب بضياع توفيرات التقاعد لملايين المواطنين.
الى هذا تضاف معضلات اساسية، وعلى رأسها: الميزان التجاري السلبي الذي ادى لتراجع قيمة الدولار امام العملات الاجنبية؛ العجز المتراكم في ميزانية الدولة؛ النفقات الطائلة في احتلال العراق. وتنذر هذه المعضلات بازمات اقتصادية مستقبلية، وليس بمقدور الادارة الحالية اخراج الاقتصاد الامريكي من مأزقه. اقتراحها تحويل جزء من مبالغ التأمين الوطني للبورصة انما يزيد الطين بلة، اذ يهدد مستقبل ملايين المواطنين الموشكين على سن التقاعد.
ويبقى السؤال الكبير ماذا سيكون مصير العمال اذا وقعت امريكا في ما يشبه ازمة الثلاثينات؟ اين ستكون شبكة الامان؟ وماذا ستكون الابعاد السياسية لمثل هذه الازمة؟
العمل اساسا هو حاجة اجتماعية، ولكنه في النظام الرأسمالي مصدر لجني الارباح لصالح اقلية قليلة من المجتمع على حساب الاغلبية الساحقة. بالنسبة لبوش ليست هناك امكانية لحدوث كارثة اقتصادية، كما انه لا يعرف حدودا للتضحية التي يمكن انتزاعها من ملايين البشر لصالح رأس المال. ولكن لهؤلاء البشر طموحاتهم وحقوقهم التي تتعارض مع رغبة بوش وامثاله، مما سيعيق امكانية بوش اخضاع التأمين الوطني للبورصة، كما انه من المستحيل تحقيق خططه في العراق وفرض رؤيته العقيمة على العالم.

مجلة الصبّار، شباط 2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية في باريس: ما التغيرات في سوق العقارات الفر


.. عيار 21 الآن وسعر الذهب اليوم الإثنين 1 يوليو 2024 بالصاغة




.. -مشهد اتعودنا عليه من حياة كريمة-حفل تسليم أجهزة كهربائية لـ


.. تقديرات تظهر بأن مدى صواريخ حزب الله يهدد بتعطل إنتاج نحو 90




.. كيف تطورت مؤشرات الاقتصاد المصري بعد ثورة 30 يونيو؟