الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورات العربية.. تقدير موقف

مصطفى مجدي الجمال

2012 / 8 / 23
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


في شهور قليلة أصبحت الثورة واقعًا في مجتمعات عربية كثيرة، وأصبحت حديث كل بيت في الوطن العربي وسط مشاعر مختلطة من الابتهاج والقلق والشغف بشأن المستقبل، القريب منه قبل البعيد.
ولعل أهم ما أنجزته الثورات العربية: تلك الملايين والملايين التي دخلت المجال العام مؤخرًا بعد عقود طويلة من الكبت والتهميش، ومن الخوف والاستبعاد. كما أكدت الثورات العربية المتزامنة والمتتابعة حقيقة وحدة الوجدان بين الشعوب العربية، فضلاً عن وحدة القهر والنهب والاستغلال. كما كشفت عن حقيقة أكثر سطوعًا تتمثل في تلك العلاقة الوجدانية المتجسدة في التفاعل والتضامن والمحاكاة والتعلم المتبادل.
غير أن شهورًا من الثورات العربية قد كشفت عن مجموعة من الحقائق لا بد من أن نعيها ونناقشها ونبدع في مواجهتها:-
أولاً : لا يجوز أن تتوقف الثورة عند محطة إسقاط الحكومات وخلع الحكام، فالثورة لا تنضج ولا تكتمل إلا بإسقاط كامل النظام بمؤسساته وعلاقاته و"قيمه".. وبالأحرى لا تكتمل الثورة- والاكتمال هنا معنى مجازي بالطبع- إلا بإقامة النظام البديل والقابل للاستدامة.
ثانيًا : أدت الطبيعة الدكتاتورية الخاصة للنظم العربية المقبورة والمنتظر دحرها.. إلى ترسيخ درجة مرتفعة من التوحد والتماهي بين النظام الحاكم والدولة، مع تهميش كامل للأغلبية الساحقة. بل الانحدار إلى الحكم الشخصي والأسري الذي يمكن أن يقامر بسلام المجتمع وبقائه من أجل البقاء في كراسي الحكم.. ومن ثم كانت المقاومة الوحشية للثورات، والتآمر عليها بعد وقوع "النقطة الانقلابية".. أي الانتصار الرمزي للشعوب بإزاحة هذا الحاكم أو تلك الحكومة.
ثالثًا : تسببت الطبيعة الاستبدادية لنظم الحكم المذكورة في اتساع جبهة الساعين لإسقاطها.. لتشمل حتى فئات من الصفوة الطبقية الحاكمة نفسها والتي تسلحت بأيديولوجيات رجعية وظلامية.. ونتج عن هذا أن انتعشت وتفاقمت مشروعات جديدة للحكم الشمولي، ولا نقول الفاشي، تبحث في الماضي السحيق عن حلول وهمية للحاضر، ومستفيدة من تفاهمات ودعم وإمكانيات مهولة من الخارج، ومستفيدة أيضًا من ضعف وتفتت وضبابية رؤى القوى الاجتماعية والسياسية المنوط بها- فرضًا- استكمال الفعل الثوري إلى مداه..
رابعًا : لا يمكن للثورة أن تتقدم دون أن يتحقق لدى قياداتها ومناضليها العضويين فهم تكاملي لا يفصل بين محاور النضال المختلفة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية (الديمقراطية والوطنية) والثقافية.. بما يعني عدم اختزال الثورة في الانتخابات والدستور، رغم أهميتهما القصوى بالطبع. كذلك لعل الغياب الملحوظ لحركة تنوير قوية وسط الجماهير (أي الخروج من صالونات ومنتديات المثقفين والنشطاء) من أهم أسباب استيلاء قوى غير ديمقراطية على ثمار الديمقراطية، في ظل التردي الفادح للثقافة السياسية- ناهيك عن الثقافة الثورية- في الريف والأحياء الفقيرة بالمدن.. بل وحتى وسط المتعلمين والأكاديميين أنفسهم.
خامسًا : من أهم الآليات التي تفرزها القوى المضادة للثورات: تعميق النزعات والنزاعات الطائفية والعرقية والجهوية..، بالمؤامرات وباختراق الوعي، غير أن الأخطر من هذا هو سعي القوى الكبرى للتدخل بشتى الوسائل الإعلامية والاستخبارية والحربية لحرف الثورات عن مسارها والاكتفاء بتغيير الواجهات وتلطيف الممارسات.. دون تغيير الجوهر الاستغلالي والتابع وحتى المستبد لتلك النظم.. الأمر الذي ابتلى الثورات بأخطار التمزق والحركات الانفصالية والحروب الأهلية، بما ينتج عن هذا كله من دمار وهدر وإزهاق للأرواح واستعداء على الثورة.
سادسًا : من هنا لا يصح اختصار الفعل الثوري في الفعاليات الميدانية وإهمال توعية الجمهور الثوري وتنظيمه في مواقع العمل والسكن.. وربط النضال من أجل المطالب الجزئية والمباشرة بالنضال السياسي العام. وإذا كانت الطبيعة الفضفاضة للحركات الاحتجاجية قد أسهمت بقسط كبير في حشد القوى لإنجاح وحماية الثورة عند هذه النقطة المفصلية أو تلك، فإن هذه الطبيعة الفضفاضة نفسها قد تتسبب في متاعب كبيرة ما لم يتم ربطها ربطًا قويًا بجبهة سياسية حول برنامج ثوري متماسك ومرن في آنٍ واحد.
سابعًا : إن النقاء الثوري لا يعني الجمود على الأهداف الاستراتيجية فقط، بل يتطلب من الثوريين أن يتصفوا بأعلى درجات الحنكة (المسماة بالتكتيك) وألا يغلقوا هوامش المناورة المبدئية، خاصة إذا وجدوا أنفسهم أمام عدوين متناحرين، أو يتفاوضان فيما بينهما بطرق خشنة (مثلما هو الحال بين المجلس العسكري وقوى "الإسلام السياسي" في مصر، وكلاهما خطر حالّ على مشروع الدولة المدنية).
ثامنًا : إنه لا جدال في أن الاشتراكية تمثل "الحل النهائي" لمشكلات مجتمعاتنا.. لكن الطريق إليها مازال طويلاً، ويتوقف على العديد من العوامل الذاتية والموضوعية، غير أن أهمها يتمثل في قدرة القوى الاشتراكية على الإبداع الوطني.. ومن ثم فإن شعار "العدالة الاجتماعية" مناسب جدًا في الظروف الحالية، شرط ترجمته إلى نقاط برنامجية ومطلبية ملموسة ومفصلة.. بما يؤدي إلى الحد من الاستغلال الرأسمالي، واشتراك الجماهير في انتزاع هذه المكاسب بنفسها مستفيدة من الآليات الديمقراطية والثورية المتاحة.
تاسعًا : لقد بات من قبيل التكرار المزعج الحديث عن نقاط الضعف الموضوعية والذاتية التي تعاني منها القوى اليسارية في مجتمعاتنا.. ولعل أفضل الحلول العاجلة تتمثل في الشروع فورًا في إقامة جبهات يسارية ذات طابع ديمقراطي ثوري، تتسع للأحزاب والحركات والحلقات والأفراد، وبحيث تصبح هذه الجبهة اليسارية أداة موحدة لليسار في إطار الجبهات الأوسع. وهناك حل ثانٍ لا بد من الشروع فيه سريعًا، ألا وهو أن تنشئ قوى ليسار وسائل إعلامية موحدة حتى تتمكن من التصدي للتشويه الهائل للوعي الذي تقوم به الفضائيات والصحف المتآمرة على الثورة.
عاشرًا وليس أخيرًا : لا بد من التصدي لمحاولات توسيع الفجوات بين "الأجيال" الثورية.. ولن يكون هذا بالشعارات والدعوات الرومانسية.. وإنما بإجراءات عملية عاجلة تسمح للشباب الثوري بأن يجد مكانه في المواقع القيادية.. وأن تتاح الفرصة والإمكانيات الضرورية كي يطبق الشباب ما يرون من أساليب نضال تتفق مع العصر.
في النهاية نقول إن الثورة لا يمكن أن تتم بضربة واحدة، ولا يجوز تصور أنها سلسلة من الانتصارات المتتالية التي لا تعرف الانكسارات والارتدادات.. المهم أن نعرف الأسباب وراء كل عثرة، وأن نصوغ وننفذ الخطط اللازمة للنهوض من جديد.. وإنها لثورة حتى النصر!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مفهوم الثورة
رفيق عبد الكريم الخطابي ( 2012 / 8 / 23 - 16:01 )
مع تحياتي للكاتب صاحب المقال بداية ..أعتقد أن مجمل الأفكار المعبر عنها في المقال دعوات مشروعة أو مهام عملية تنتظر إنجازها ..إلا ان المقال يعتبر أن الثورات أنجزت أو أنها سلكت طريقها ومازالت تتلمس ذلك الطريق المتعرج بفعل الصراع مع قوى الثورة المضادة ...تساؤلي المحوري هو كيف يحدد الكاتب مفهومه للثورة ؟ وما هو تحديده للوضع الثوري؟ باعتقادي باستثناء الوضع الموضوعي أي التناقض بين علاقات الانتاج والقوى المنتجة فلا وجود لأي عنصر يوحي بضرورة حل هذا التناقض ثوريا ..فلا الشرط الذاتي موجود أي قدرة القوى الاجتماعية على حسم الصراع لصالحها ولا التنظيم الممثل لتلك الطبقات والأداة القيادية لحركتها ولا البرنامج الثوري موجود..لكل هذه العوامل وغيرها لا يمكن بنظرنا توصيف الحراك في كل البلدان العربية إلا بانتفاضات شعبية كان من الممكن أن تنفتح على آفاق ثورية لو كانت العوامل الذاتية متوفرة ..ومع ذلك تحية للكاتب على مجهوده


2 - أستاذ مصطفى أحييك على هذا الطرح الناضج
سامي بن بلعيد ( 2012 / 8 / 24 - 04:16 )
لقد شرحت وحللت وفصّلت ووضعت الحقيقة كما هي
والثورات هي بداية عصر جديد أتى ليحل محل عصر طويل من القهر والتخلُّف والإستبداد
وعصر الثورات طويل ومهامه جسام ولكنه حتماً سينتصر
كل الاحترام لطرحك المنهجي الهادف


3 - الكاتب مصطفى مجدي الجمال المحترم
مريم نجمه ( 2012 / 8 / 24 - 09:41 )
شكراً للأستاذ على المحطات الإستنتاجية التي أبرزتها في تقييمك للثورات
ونتائجها الإيجابية حتى الاّن . إن الإنتفاضات و الثورات الشعبية التي حصلت هي نتاج الظروف والمعطيات والتطورات العالمية والمحلية , هذا الإنفجار الشعبي الذي حصل في منطقتنا قد كسّر قواعد الثورات الطبقية التقليدية وهو بنفس الوقت إبنها ووليدها لكن بثوب عصري جديد , يكفي أنها داست وخلعت وكسّرت جدران الخوف وعرّت هذه الأنظمة المتاّكلة الرثة التي لم تعد ملائمة لعصرنا الجديد ..إنها خطوة في طريق التغيير , على الأجيال الجديدة التقدمية توجيهها وقيادتها نحو خطوات أكثر ثورية لتحرر شعوبها من كل ما يحرف ويجهض الهدف .. مع التحية والمحبة

اخر الافلام

.. مواجهات بين الشرطة والمتظاهرين في تل أبيب وسط مطالبات بإسقاط


.. نقاش | كيف تنظر الفصائل الفلسطينية للمقترح الذي عرضه بايدن؟




.. نبيل بنعبد الله: انتخابات 2026 ستكون كارثية إذا لم يتم إصلاح


.. بالركل والسحل.. الشرطة تلاحق متظاهرين مع فلسطين في ألمانيا




.. بنعبد الله يدعو لمواجهة الازدواجية والانفصام في المجتمع المغ