الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا وُجدنا ؟ أسئلة الإستخلاف و رسالة المثقف المسلم في الحياة .

جلال خشيب

2012 / 8 / 25
مواضيع وابحاث سياسية




سأستعمل مصطلح "الوعي الوجودي" لأعبّر به عن جوهر الرسالة الأزلية للمثقف المسلم في الحياة استنادا لقوله تعالى : "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " الذاريات ( 56 ) و قوله أيضا : " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً " البقرة (30) و قوله جل في علاه : " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } النور (23) .

تحمل الآيات القرآنية السابقة إجابة مباشرة عن سؤال ما ورائي شغل التفكير الفلسفي منذ القدم ، قد يتسائل أحدهم و ما وجه الصلة بين مصطلحكم هذا "الوعي الوجودي" و بين رسالة المثقف المسلم ؟
إنّ الفهم العميق لهذا المصطلح استنادا إلى الآيات الكريمة يجعلنا نعيد التفكير في كثير من المصطلحات المستخدمة في خطاباتنا الثقافية اليومية و الأكاديمية أيضا ، فالمصطلحات تحمل في جوهرها المعاني و الدلالات المختلفة ، و إطلاق مصطلح ما كتعريف إجرائي لظاهرة ما يجعل من الظاهرة حبيسة المصطلح في دلالاته و معانيه بشكل قد يحدّ مع الزمن و يحدّد سياجات المدلول بشكل غير قابل للتأوييل أو المراجعة فيقف حاجزا –بفعل رواج المصطلح و ترسخ دلالته في أذهان البشر- أمام أي محاولة لمناقشة المصطلح من جديد لفرزه و إعطائه دلالات أخرى غير تلك التي اكتسبها مع الزمن بفعل هذا الرواج و تلك السياجات الصارمة التي فرضها دال المصطلح .
إنّ راهن الساحة السياسية ، الثقافية و المجتمعية اليوم لعالمنا العربي جعل كثيرا من مثقفيها يستعينون بأنماط فلسفية غربية معينة دون غيرها بمصطلحاتها و مضامينها الفلسفية و التي نشأت هناك في سياقات مجتمعية قد تكون متماثلة في أوجه ما و لكنها لا تحظى بنفس التماثل الما ورائي الغائي ، فقد يكون الاستبداد السياسي نمطا تماثليا بين الضفتين ، فكما عاشت أوروبا استبداد ملوكها نعيش نحن أيضا استبدادا تماثليا ، و كما حظيت سلطة هؤلاء الملوك الزمنية في أوقات ما بشرعية الكهنوت فقد حظيت بعض الأنطمة السياسية عندنا بغطاء علماء السلطة و فقهاء البلاط ، وبالتالي فكثير من الصيغ الفلسفية و الاصطلاحات المعرفية التّي انتجتها الفلسفة الغربية ستكون ناجعة إلى حدّ بعيد في تشخيص و تفسير ظاهرة الاستبداد السياسي و ما جاورها من ظواهر في عالمنا العربي ، منها مثلا غياب أو حضور الديمقراطية ، المجتمع المدني ، الحكم العقلاني أو الراشد .. و هي اصطلاحات غدت ذات دلالات إنسانية كونية كأقصى ما توّصل إليه الفكر البشري السياسي و التنظيم الإنساني للمجتمعات .. في المقابل هناك اصطلاحات تحاول أن ترقى إلى هذا المستوى الكوني أو بعبارة أدّق يتّم الترويج لها لتكون كذلك من حيث دلالاتها المعرفية الغائية ، في حين لا تعدو أن تكون سوى نابعة عن مركزية غربية أوروبية خاصة ، ثقافيا لا إنسانيا ، بمعنى أنّها تتسم بصفة الخصوصية من حيث الجوهر و تسعى لأن ترتقي إلى الكونية الإنسانية من حيث الدال و من حيث المدلول أيضا ، و منها مصطلح المثقف ، فمن هو المثقف و متى يكون الإنسان المسلم مثقفا ؟
قد يحمل مصطلح المثقف دلالات عدّة تبعا للموضع و السياق الذي يأتي فيه ، فالمثقف هو ذلك الشخص الذي يمتلك قدرا لا بأس به من التعليم يجعله متباينا في معارفه عن العامة من الناس ، و المثقف هو ذلك الإنسان الذي يتميز عقله بوعي حر يسمح له بتحصيل المعارف و تمحيص صوابها من خطأها ، وعي اكتسبه بفعل التنشئة الاجتماعية التّي تعرّض لها منذ الطفولة فكونّت بنية عقله ، و المثقف هو ذلك المتعلم الذي يسعى لأن يتجاوز مرحلة التلقي و الاستهلاك المعرفي فيوّظفها و يسخرها فينتقل بذاته من الفهم و التفسير إلى البناء و الإنتاج بعدما كان مستهلكا مفعولا يرتقي ليتحوّل إلى منتج فاعل ، فيسعى جاهدا لإحداث نقلة -مشابهة لنقلة ذاته- لمجتمعه ليجعله مجتمعا واعيا فاهما أولا ثم مجتمعا فاعلا في مستوى ثاني ، حتى ينتقل المجتمع بذاته من وضع الانحطاط و السلبية إلى وضع النهضة و الإيجابية .
فلنأتي إلى المثقف المهتم بالشأن العام السياسي ، " إنّ مهمة المثقف الرئيسية والوحيدة هى إزعاج السلطة " هكذا عبّر سارتر يوما ما عن مهمة المثقف المركزية حتّى غدى تعريفه هذا في خطاباتنا اليومية مفهوما رديفا لمدلول للمثقف ، فمن هو المثقف ؟ إنّه ذلك الإنسان المخوّل بإزعاج السلطة ، حتّى صارت هذه المهمة غاية نهائية لرسالة المثقف العربي المسلم كما كانت غاية نهاية في العرف السارتري و بعض الفلاسفة الغربيين ، و هذا هو جوهر مقالنا ، الغاية النهائية لرسالة المثقف ، و هنا نرجع لنوضح مقصدنا أعلاه حينما تحدثنا عن السياقات اللاتماثلية النشأة و الغاية النهائية لبعض الفلسفات و الاصطلاحات المعرفية التي يستعين بها المثقف عندنا فتصبح في دلالاتها مقصدا بحدّ ذاته ، فالمثقف الغربي بالمفهوم السارتري هو ذلك الذّي يحول بين جور النظم الحاكمة و بين حرية الإنسان الغربي باعتبار الحرية هي المكسب النهائي الأقصى لدى المواطن الغربي التي تمنحه سعادة العيش الدنيوي و رغده كغاية نهائية ، و هنا الشاهد من القول ، فهل هذه هي وظيفة المثقف العربي المسلم في غاياتها النهائية ؟
من المؤكد أنّ مهمة الاستخلاف في الأرض بكل ما يحمله معنى الاستخلاف من معاني ، هي مهمة ثقيلة يضطلع بها الإنسان المسلم في الحياة الدنيا تزداد ثقلا كلما زاد علمه و وعيه ليس كغاية في حدّ ذاتها و إنّما كوسيلة لتحقيق غاية ما ورائية أسمى و هي "إخلاص و إفراد العبادة لله جلّ في علاه " الموضحة في قوله تعالى : "إيّاك نعبد و إيّاك نستعين" الفاتحة الآية 5 ..و هذا هو مربط الفرس كما يُقال ، فإذا كانت غاية المثقف الغربي تحسين ظروف الحرية في وطنه محاربة لكافة اوجه الاستبداد السياسي و الرجعية الفكرية لضمان الإبداع الحر المتدفق الذي يحفظ و يحافظ على استمرارية مدنيته على الأرض كغاية نهائية ، فإنّه من الواجب على المثقف المسلم أن يتحرر من هكذا غايات نهائية دنيوية في مسيرته الإصلاحية على الأرض ، فيكون ازعاجه للسلطة القامعة لمكسب الحرية البشري –مصدر كل نهضة و إصلاح دنيوي- مرتبطا في صلة وثيقة بغاية الاستخلاف على الأرض التي لا تنفصل بدورها عن غاية عبادة الله و إفراده بالعبادة ، فتكون كلمته في وجه السلطان الجائر كلمة من وحي الله ، و كلمةُ عبادة غايتها الأولى وجه الله فيتحرّر و يحرّر ذاته قبل كل شيء من أي مصلحة دنيوية ، إذ كثيرا ما ترتبط المعرفة بالسلطة و الكلمة بالمصلحة ، كما تكتسب روح كلماته وهجا ربانيا خالصا كلما اخلص النية و لن تكون هذه الكلمة سليمة كل السلامة ما لم تكن مضبوطة بإطار الشرع و مقصده ، فقه الأولويات و فقه الموازنة بين المصلحة و المفسدة المتأتية من وراء كلمة الحق هذه في ظل السياقات الظرفية الزمانية التي تجري فيها هذه الكلمة ، فجرأة الكلمة لا تعني التهوّر و ما يترتب عليه من إهلاك للذات و المجتمع قبل كل شيء ، فتكون بذلك الغاية ربّانية و الوسيلة إسلامية بالدرجة الأولى .. و كلّ ذلك مرتبط بفهم المثقف المسلم و اجتهاده و تقديره للأمور .. لذا فمصطلح "الوعي الوجودي" للمثقف المسلم كما بلورناه هنا هو مصطلح يكسر السياجات الدنيوية الغائية لمفهوم المثقف في المخيال الغربي و يحمل في المقابل في طياته معنى ووعي المتعلم و حسن فهمه ، فاعلية المتعلم و عدم ركونه للاستهلاك و السلبية كما يحمل أيضا المعاني الدنيوية لفكرة الإصلاح و النهضة و المعنى الما ورائي لمفهوم الاستخلاف كإصلاح على الأرض مقصده توحيد الله بالعبادة فهما و اعتقادا ، سلوكا و عملا .. و الله أعلم .

جلال خشيب باحث مهتم بالدراسات الدولية و الاستراتيجية ، الجيوبوليتيكا و الفلسفة السياسية ، جامعة منتوري قسنطينة / الجزائر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. باريس تسلم -بري- الورقة الفرنسية المتعلقة بوقف إطلاق النار ب


.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن| #أميركا_ال




.. الخارجية الأميركية: 5 وحدات في الجيش الإسرائيلي ارتكبت انتها


.. تراكم جثامين الشهداء في ساحة مستشفى أبو يوسف النجار برفح جنو




.. بلينكن: في غياب خطة لعدم إلحاق الأذى بالمدنيين لا يمكننا دعم