الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عْريوة و الجلباب الغْروطي ( الشديد السواد)

المصطفى المغربي

2012 / 8 / 26
الادب والفن



نهض عريوة الخمّاس ذلك الصباح الباكر نشيطا و مزهوا بنفسه، إنه يوم السوق الأسبوعي ، وعليه أن يجهز حاله لمرافقة سيده الحاج ولد العورة ،مالك الأراضي الواسعة ،المحيطة بحقول أهل البلدة الصغيرة الضيقة المصفوفة جنب النهر، و مالك حتى أهل البلدة، فأغلبهم لا تكفيهم حقولهم الصغيرة لإطعام قطيع من الأطفال في الغالب، فيشتغلون خمّاسته و خدامه.
بهمة عالية أدخل عريوة جسده في الجلباب الغروطي الجديد و قصد نزل سيده، سيسوق به العربة إلى السوق كعادته ،بعد أن يقدم له تحية الصباح و يقبل يديه ،و يأخذ إذنه في ربط العربة المزركشة إلى البغلة الصفراء أم الحصان الأدهم، و يجمع فيها السلال و القفف و الأواني و الأكياس التي ستملأ من السوق بما لذ و طاب،دون أن ينس مظلة السيد ليحملها جنبه لما يتجول في السوق ،فالسيد لا يمشي تحت حر أو مطر ، عليه أيضا أن لاينس علافة الدابة و فراش السيد الوتير. هو بكل الأحوال يعرف كل الخدمات ،المطلوبة والغير المطلوبة ،و يؤديها على أكمل وجه، و عندما تصبح العربة جاهزة و ملمّعة ، والدابة قد تناولت ما يكفي من علفها، يخرج ولد العورة من قُبّته ( الصالة الكبيرة في النزل) وكعادته كالسلطان، يتبختر في سلاهيمه و قفاطينه المزركشة التي تتجرجر في الأرض، فيهرع إليه عريوة خاشعا ،يمد له يده و يساعده في ركوب مدرج العربة و الجلوس فيها، ويكفكف ما شاط من لباسه المنتشر كبطشه ،و بعد أن يستو الحاج في جلسته و يعطي آخر أوامره لخدم العزيب(العزبة)، يأمر صاحبنا بالانطلاق. تبتعد العربة قليلا عن البيت و تستو الطريق فيصبح على الخماس أن يبدد على سيده وحشة الطريق، و يؤنسه. كأن يبدأ له حديثا عن ثمن الحبوب المرتفع هذه الأيام لازدياد طلب الفرنسيس عليها، أو أن يذكر له بعض أسرار الدوار، أو يطمئنه على البغل الذي بدأ يتعافى حافرقدمه ،أو يعْلمه بضائقة ولد الأقرع و التي قد تدفعه لبيع مزيد مما تبقى من أرضه ، أو يذكرله أي شيء يراه قد يثير اهتمامه و رضاه و يفتح سريرته وربما يسيل لعابه. الحاج الأعور يثق كثيرا في صاحبنا المطيع جدا ، و شغوف بسماع أخبار نساء البلدة منه، بل و تروج أخبار كثيرة هنا و هناك على أن قضيبه اخترق ظلام أكثر من بيت أذلّه الخصاص، لذلك هو غالبا ما يجعل من حديث الخمس كلمترات مع خماسه المدلّل و المذَلول، فرصة لمعرفة خفايا البلدة ، و طرائفها و قصصها السرية التي تنسج في ظلام الليل، بجانب النهر أو في البساتين ،أووراء صفوف الصبار و أكوام التبن،و ما أكثرها، فالبلدة لا تكف عن نسج القصص ، الحقيقية و المتخيلة ،بها تعيش و تقتل الوقت و التعب، وكثيرا ما استدرجه لأحاديث جعله في نهايتها رسول عشق، أو قوّادا بتعبير أهلي. كثيرا أيضا ما بعث عن طريقه رسائل عتاب أو غضب وتهديد لمن يعصي أوامره،أو يتمرد على بطشه، صاحبنا الخماس كان تقريبا هو الناطق الإعلامي باسم سيده و مجمّع معلومات استخباراته، ، بل إن بعضهم يقول أن زوجة عريوة تخونه مع الأعور كإذلال و عقاب له على قبوله عيشة الذل، ربما فكرت أنها أجدر منه بخدمة الحاج، و باحترافية عالية واحترام أكثر،وربما بمردود أحسن .
ليست مرافقة عريوة لسيده يوم السوق فقط هي ما تجعله مزهوا ومغتبطا و يبدي حيوية زائدة ،فذاك عمل روتيني اعتاد عليه لسنوات ، بل شيء آخر ، إنه يوم سوق غير عاد، إنه أول سوق يلبس فيه الجلباب الصوفي الجديد الغروطي، الذي أخاطه مؤخرا عند فقيه البلدة، و الذي روى لسيده قصة نسجه في الطريق، بعد أن أبدى السيد تدمرا من تلك الأحاديث المألوفة ،ورغب في سماع قصة الجلباب ، استغرق جمع صوفه و نسجه و خياطته أربع سنوات بالتمام و الكمال.نسجته له أمه. أربع سنوات و هو ينتظر هذه اللحظة، كل عيد أضحى و كل موسم جز صوف الغنم تنشط أمه في التجوال بين أكواخ البلدة و البلدات المجاورة ، بحتا عمن يمنحها صوفا أسودا فائضا عن الحاجة، الأسود قليل جدا و غالبا ما يكون بقعا صغيرة في صوف الشاة، و قليلا ما يوجد كبش أو شاة سوداء بالكامل في غنم المنطقة. هكذا روى لسيده القصة كاملة مع ما يرافق ذلك في حضرة السيد، من ضحكات مجاملة و حركات احترام ، و استرسال غير ممل تتخلله مستملحات و طرائف، و هاهو أخيرا يغطي جسمه بالكامل، و بجلباب جديد، بعد أن كان يضع عليه قطعا متنافرة من أثواب بالية ،لا يعلم هو نفسه كيف اجتمعت فوق جسده بهذا الشكل ،مشدودة بخياطة بدائية، وتترك مناطق مختلفة مكشوفة من جسده ،حتى الحساسة منها.هاهو يلبس جلبابا دون حاجة لشيء آخر ،إنه كرجال البلدة، أغلبهم يلبسون الجلباب وحده، دون حاجة لسروال أو ملابس داخلية ، السراويل غالية الثمن ولا يلبسها إلا الأغنياء و خصوصا المتفرنسون في هويتهم كما يقول الفقيه ذو الجلاليب الكثيرة. لم تكن السراويل قد دخلت في نظام لباس الفقراء بعد، فبالأحرى التفكير في ملابس داخلية، كما لم يكن الغرب قد زادت ألبسته المستعملة عن حاجته ليبعثها لهم، كان الرجل يخرج من فراشه ليدخل مباشرة في جلبابه ،و يقفز خارج الكوخ،بل غالبا ما كان الجلباب هو الفراش و الغطاء إضافة لكونه لباسا.
في السوق ظل الخماس يسير وراء سيده مزهوا بجلبابه الجديد الغروطي، رأى نفسه جديرا بشيء من الاحترام هذه المرة، فصار يرسل إلى المارين من معارفه سلامات و تلويحات متوجة بابتسامات الاغتباط و الزهو، دون أن ينس مد قامته قليلا، لكنه حين يتذكر تلك السلال و القفف و الأكياس التي عليه أن يملأها و يحملها كالحمار إلى العربة المركونة خارج السوق، أوحين يسمع أمرا من تلك الأوامر الخشنة الجارحة التي يتلقاها كل حين من الحاج، يخرج من جلباب أحلامه ، و يقول في خاطره:
-من حسن حظي أن الجو لطيف، وراق للسيد أن يمشي في السوق بدون مظلة.
طاف وراء سيده كل رحبات السوق، ثم توجها أخيرا إلى رحبة اللحوم، بها تختتم المشاوير في السوق.
هناك أمام بسط الجزار وقف ولد العورة يختار، و يشير بعينيه لأجزاء اللحم التي تعجبه، و الجزار يقطع و يزن ، بينما وقف صاحبنا بجلبابه الجديد جنب سيده ، ينتظر دوره كحمّال، زبناء كثيرون ينتظرون أيضا، ظهر عريوة بينهم كأي زبون مهم، فالجزار يكاد يكون هو بورصة قيم القبيلة، كل من يقف أمامه فهو ميسور الحال و مهم و محترم، خصوصا لما يلبس جلبابا جديدا شديد السواد، أعجبته الفكرة فراح يتلذذها في خياله ، فجأة أحس بشيء يتململ في إحدى فتحتي الجلباب الجانبيتين، انتبه بتؤدة و حذر، كأنه يريد الإمساك بشيء خلسة، ربما ظنها حشرة. عرف أنها يد لص محترف، يقف جانبه و يحاول سرقته بإدخال يده من فتحة الجلباب، ظنا منه أن بعدها جيب مملوء لمعطف أو سروال كعادة الرجال المهمين، بسرعة تذكر عريوة أنه لا يملك شيئا،بل و لا يلبس شيئا تحت الجلباب ، فسارع بلؤم الرعاة إلى إدخال يده من فتحة الجانب الآخر دون إثارة الانتباه ،و دفع بقضيبه المتحرر ناحية يد اللص القادمة من الفتحة المعاكسة ،و انحنى بمهل شديد يهمس في أذنه: خده هو لم ينفعني بشيء.
شعر اللص بحرارة الشيء ، فذعر أمام الجميع ،و قفز مبتعدا و هو يضحك بهستيريا و يلوح بيده لصاحبنا و يبتعد.
و عندما تساءل الحاضرون عما جرى قال عريوة مداريا الجميع:أعجبه جلبابي.
ثم انخرط في الضحك و تبعه الآخرون إلا السيد ،فقد عالجه توا بلكزة من مرفقه و أسكته. لم يعرف عريوة سبب غضبة سيده غير أنه انتظر العاقبة.
في طريق العودة ، فضل السيد أن يصمت ويسلو و العربة تسير، غالبا ما يفعلها لكثرة مشاويره في السوق و لكثرة ما يأكل في يومه، يفطر بالفواكه الجافة ،لوز و جوز و تمر و تين مجفف وزبيب، مع الخبز و الشاي المنعنع، ثم يتغدى بشواء لحم الكبش و الفواكه ، وذلك مع أصدقائه من الفلاحين الكبار و رجال المخزن الصغار، في مقاهي الشواء المنتشرة في السوق، لحظات الأكل تلك هي وقت عريوة الحر في السوق ،حيت يجالس معارفه في مقاهي الشاي الفقيرة، و يتفرج قليلا على الحلاقي ،و يقتني بعض أغراضه الصغيرة إن كان معه ثمنها ،ثم ينتظر بجانب العربة مستعدا للانطلاق ،إلى أن يفرغ سيده من مجلسه .
عندما عاد عريوة بسيده من السوق إلى العزيب في ذلك اليوم، و بعد أن قام بكل الواجب على أكمل وجه ،و تناول قفتة الصغيرة التالفة بين قفف و سلال السيد - السيد هو من أدى ثمن محتوياتها البسيطة من أجرة الخماس المؤجلة حتىجمع المحصول في آخر العام- واستأذن ، و همّ بالذهاب أخيرا إلى كوخه ،ناداه السيد و قال له بصوت غاضب:
-اسمع يا ابن العريان،
من اليوم ،لا تلبس هذا الجلباب و أنت معي في السوق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07