الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غياب

سلمى مأمون

2012 / 8 / 29
الادب والفن



الساعة الواحدة فجراً، و لم يرخي اعصابي نعاس لكنني امتثلت لواجب الراحة فاغمضت جفوني بقوة وقد احال الارهاق و التوتر بدني الى كتلة مجوفة طافية في مجرى سيل، لم تنقذني منه سوى نغمة المنبّه الصاخبة عند الثامنة صباحاً....عبَر النوم خاطفاً و كأنني وضعت رأسي على الوسادة ثم رفعته فوراً. فقد انتهت مهلتة و لم يتفتت تعبي!...تجولت ببصري في الغرفة، و لاول مرة منذ زمن بعيد كان كل شيء على حاله، بالضبط كما تركته قبل ان يغيبني النوم...شعور صادم! احسست بالغربة و الكمد. فهذا ترتيب ميت لا اريده و لم اختاره..ثم ما أعجب المرء! في ذات اللحظة تذكرت ضجيجي المستمر من تخريبهم المستمرلمجهوداتي لتنظيف و ترتيب المكان...لكن في ذلك الصباح كانت فوضاهم اول مطالبي لميلاد الصباح بل و لاكتمال معنى الحياة. كيف مر الليل بدونهم؟؟؟ لقد اشتهيت تجولهم بداخل غرف البيت خلال الليل، فانا آوي للنوم قبلهم بساعات، فيأتون لاحقاً و يعيدوا تشكيل المكان على هواهم؛ مستعينين بضوء الموبايل، فاسمع سمفونيات مختلفة الايقاع: ذاك الصوت المتكرر لفتح و اغلاق باب الثلاجة و طرقعة مفتاح شعلة البوتجاز و ضجيج كيس الرغيف البلاستيكي يُحل و يُربط و صوت طلمبة السايفون وصخب انسكاب الماء من الدش... وقد كان اول ما يصدم بصري صباح كل يوم حجم الجهد التخريبي الذي ارتكبوه اثناء نومي: لطعات طين على حواف (الشاور) و فوضى ثيابهم و احذيتهم و بقايا السندوتشات و اكواب ملوثة ببقايا عصير الكركدي و منظر اللابتوب المغبرالملقى خارج (جرابه) و حوله مصارين التوصيلات و الاسلاك و السماعات و مساند الكنبة مبعثرة و فتات الطعام على الارض و أواني حفظ الماء بالثلاجة ملقاة فارغة على المنضدة امام التلفزيون....و تذكرت كيف كنت اثورعندئذ حتى اوقظهم من النوم مذعورين!!! افتقدت تلك الفوضى التي ظللت اعتبرها مزعجة و تحسرت على فقدها: بالفعل افتقدتها، و كيف لا افتقدها و لن يكتمل وجودهم حولي بدونها. أي ترتيب بليد يمكنه ان يغنيني عنهم؟ اللعنة على الترتيب و النظام ان كان الثمن غيابهم! ها هي ليلة واحدة بدونهم استطاعت ان ترعبني الى هذا الحد؟...و لكن ماذا ان طال الامد و تدهور الحال اكثر؟ ماذا لو سقطوا في ايدي الاشرار؟؟ كيف سيبدو المكان و بأي طاقة سيخفق قلبي؟...
غادرت السرير بصعوبة و اطفأت مكيف الهواء و لأول مرة دون ان يتذمر أحد، و ازحت الستائر عن النوافذ و لم ينكمش احد و يستدير الى الجهة الأخرى ليتجنب سطوع ضوء النهار أو يجذب الغطاء فوق وجهه باستياء...كم هي عزيزة هذه التفاصيل و عميقة المعنى في هذا الصباح الموحش!! بدا الطقس منذ ذلك الحين مكتوم الانفاس على عكس الايام القليلة المنقضية، مبشراً بنهار ملتهب و يالها من ظروف ملتهبة على اكثر من صعيد...فتحت التلفزيون لاكسر الصمت فعثرت على برنامج حواري حول الاوضاع الراهنة فتعمدت ترك الصوت عاليا ليُغرِق سكون المكان. لم اهتم بتناول الشاي كالمعتاد و اخذت اكوي بلوزة قطنية زرقاء كانت الأخف لونا و خامة لمواجهة الطقس. و لكن من سيناولني الخبز و الفول من الدكان قبل ذهابي للعمل؟ بقايا الخبزالذي بالثلاجة قديم، مجعد و قد مضى عليه يومان فكيف اشقه لاحشوه؟ يئست و تركته ملقى بداخل الثلاجة، و بسرعة لففت قطعة جبن و القيت بها بداخل حقيبتي اليدوية، و قلت ساتدبر امر الرغيف لاحقاً....
سابقت الدقائق و خرجت الى (قفص الطيور) فملأت وعاء الحبوب وغيرت الماء بوعاء الخزف لتنعم الطيور بالشرب و المرح حتى اعود، و نثرت الماء فوقهم فضجوا بالزقزقة، و رششت الماء على الفناء و انعشت هامات الشجيرات في المزهريات و مررت على نبتة (البوتس) في حافة النافذة جوار دولاب ملابسهم المنبعج و سقيتها. كان بصري زائغاً، و حركتي دائرية...توقفت و تلمست اصابعي بشكيرا و قطعتي ملابس رياضية كانت آخر ما خلعه احدهم قبل ان يبدل ثيابه و يخرج. رفعتها برفق و شمممتها و رتبتها فوق احد المقاعد و ربتت عليها بدلا من أن اربت على رؤسهم أو أوصيهم بانجاز بعض الامور قبل عودتي من العمل...و حاصرني الدمع فتنهدت بحرقة.. كم اشتاقهم!!! ثم زجرت نفسي و ذكّرتها أن هذا قد يكون تدبيراً مؤقتاً!!! من يدري....و واصلت استعدادي للخروج. تركت (اللابتوب) امام سريري حيث قضى الليل يطوف بي الانحاء لرصد الاخبار و التطورات و يشحن روحي بالتساؤلات و المخاوف ...و قررت انني لن احمله اليوم معي....هكذا..دون ان يترجاني أحد منهم و يرشوني بقبلة و كلمات ناعمة، و دون أن أخشى عليه عطلاً مفاجئاً في غيابي...تحممت بسرعة و خالفتُ روتيني اكثر و تركت بشكيري الرطب مفرودا فوق طرف سريري تحسبا لهبوب الغبار خلال ساعات غيابي، فلو كانوا بالبيت لما احتجت لهكذا تحوط. ساويت الملاءة و تذكرت تحذيري الثابت قبل خروجي: (حذار ان يرقد أحدكم على سريري) و تعجبت كيف فقد ذاك التحذير الهام معناه اليوم! و ادركت بوضوح قيمة الرد الثابت الذي كان يردده ابني الأصغر: (مستحيل، فانا احب رائحتك).
المكان قفر و لن يدخله احد في غيابي - لا احد سواي هنا الآن، اليوم و ربما لايام اخرى قادمة، و سيظل كالمتحف بانتظاري!!!...أرعبتني قسوة الفكرة و بسرعة غير عادية لا تشبه في شيء صباحاتي المتلكئة، اسدلت الستائر ثم وضعت القفل على الباب الخارجي و غادرت كالمطارَد...ابتعدَت بي المركبة و بي رغبة الا انظر ورائي. و أن أزيل كل ما رأته عيوني هذا الصباح و امنعه عن سكنى ذاكرتي. كان قلبي لا يشبه قلبي اليومي، كأنه تحول الى كتلة صماء تخضها بعنف اصداء الهواجس.
سلمى مامون
27/7/2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جائزة العين الذهبية بمهرجان -كان- تذهب لأول مرة لفيلم مصري ?


.. بالطبل والزغاريد??.. الاستوديو اتملى بهجة وفرحة لأبطال فيلم




.. الفنان #علي_جاسم ضيف حلقة الليلة من #المجهول مع الاعلامي #رو


.. غير محظوظ لو شاهدت واحدا من هذه الأفلام #الصباح_مع_مها




.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف