الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في بلاد الحرمين (1)

نافذ الشاعر

2012 / 9 / 1
سيرة ذاتية


كنت أشعر بالإرهاق الشديد في هذه الليلة من كثرة الزيارات والاتصالات، ونمت متأخرا واستيقظت مبكرا كعادة المسافرين، وكنت أخشى أن تستيقظ طفلتنا الصغيرة المدللة التي تتعلق بأمها بشكل جنوني، ووصلنا إلى مكان تجمع المسافرين، ولم يكن قد تجمع هناك الكثير، وجاء الأتوبيس بعد قليل وركبنا فيه وانطلق بنا نحو المطار..
وصار الأتوبيس وبعد سير طويل نزلنا في استراحة على الطريق تقدم السمك والدجاج، وانهال المسافرون على الاستراحة الصغيرة التي لا تستوعب أمثال هذا العدد من الناس، فلما شققت طريقي بين الزحام ووصلت إلى المطبخ كان السمك والخبز قد نفذ تماما، فاضطررت إلى تناول وجبة من الكفتة والكباب ونحن نشك في مصدر هذه اللحوم المفرومة، فتناولنا الوجبة أنا والزوجة وامرأة ترافقنا في السفر، ثم شربنا الشاي والمثلجات وعاودنا المسير..

وصلنا إلى مطار القاهرة الدولي في غسق الليل، وتم حشرنا في ممر طويل، احتلت أغلب مقاعده، فافترشنا البلاط المثلج، وبعد ثرثرة قصيرة مع الزوجة نمت واستيقظت على آذان الفجر فصليت في مسجد المطار الصغير، ثم نمت حوالي ساعة في المسجد لكني استيقظت منهكا بسبب التكييف البارد، ثم ذهبت إلى حيث تجلس الزوجة فناولتني قطعة خبز محشوة بالجبن، مع كأس شاي مصنوع بواسطة (مسخن الماء).
وحان موعد صلاة الجمعة ونحن لا نزال محشورين في هذا الممر البارد الطويل، فذهبنا للصلاة في مسجد المطار، وكان الخطيب شابا يرتدي جلبابا ريفيا بسيطا، تحدث بلغة بسيطة عن سلامة القلب والضمير، وكنت اشعر بالنعاس الشديد الذي يحول بيني وبين متابعة الخطبة..
وبعد الصلاة تجولنا في مطار القاهرة الذي يمتلأ بالمحلات التجارية والمطاعم وكأنه سوق مركزية، وكان أكبر هذه المعارض دكان كبير يمتلأ بشتى أنواع الخمور، وسألنا عن أسعار المأكولات، دون أي نية في شراء شيء، فكان كاس الشاي بـ 18 جنيه والساندويتش بـ100 جنيه، وزجاجة الخمر بـ 20 دولار..
وجاءت إلينا فتاة مصرية سمراء، عاملة في المطار، ذات ملامح جادة، فجمعت منا 12 جنية ثمن وجبة صغيرة من الأرز مع بعض شرائح لحم الدجاج، أحضرتها لنا من خارج المطار.. وعند العصر أحضرنا أمتعتنا ووقفنا في صف طويل استعدادا لوزن الحقائب والانتظار في صالة المغادرة، وفي الساعة الثامنة بدأنا في الدخول إلى الطائرة من خلال نفق يصل إلى باب الطائرة مباشرة، وبدأت المحركات تدور، وبدأنا نستمع إلى التعليمات الواجب إتباعها عندما يدلهم الخطب ويحدق الخطر، ومنها قناع الأكسجين عندما ترتفع الطائرة أو تقابلها ظروف تقلل من نسبة الأكسجين فيشعر المسافر بالاختناق، عندها ستنفتح تلقائيا من سقف الطائرة فتحة يسقط منها قناع عليك أن تجذبه وتضعه على أنفك وتستنشق منه الأكسجين، ليخلصك مما أنت فيه من كرب وبلاء.. ونظرت فوقي لعلي أجد مكانا ينزل منه هذا القناع فلم أجد!
ثم جاءت التعليمات عن سترة النجاة عندما يحم القضاء وينزل البلاء، تقول يجب أن تتطوق بسترة النجاة، ثم تجذب طرفا منها فتمتلئ بالهواء، وإن حدث ما لا تحمد عقباه، فتعسر امتلاء السترة تلقائيا بالهواء، فإنك لواجد بها فتحة عليك أن تضعها في فمك وتنفخ وتنفخ حتى تمتلئ السترة بالهواء، ثم توكل على الله وألقي بنفسك حيثما تكون!..
ووضعت يدي تحت المقعد أتحسس سترة النجاة لأطمئن على وجودها، ثم قلت في نفسي كم سمعنا عن حوادث الطائرات، وهلاك الركاب وتبعثر الأشلاء، لكننا ما سمعنا يوما عن شخص أغنت عنه سترته أو طوق نجاته من الهلاك شيئا..! ورحت أفكر في الأمر أكثر وأكثر فأقول ماذا لو حدث المقدر والمكتوب، وخافت الزوجة أن تلقي بنفسها من هذا البعد السحيق، وراحت تتشبث بي باستماتة، فهل أدفعها بعيدا عني، وألوذ بالفرار، وأقول يا روح ما بعدك روح؟
ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم!..

وتحركت الطائرة وبعد حوالي خمس دقائق كانت قد ارتفعت عن الأرض، وغاب مطار القاهرة في غسق الليل.. وحينما ارتفعت الطائرة عن الأرض أحسست كأنني فوق بلون مملوء بالهواء على ظهر الماء، وبدأت الطائرة تتسلق الهواء، كما تتسلق السفينة موجة عاتية في خضم البحر، وكان النظر من الطائرة يشعر بالخوف والفزع من هذا البعد السحيق، وخصوصا عندما كنت أتابع على شاشة الكمبيوتر أمامي أننا على ارتفاع 44 ألف قدم عن سطح الأرض، ورحت أتخيل حدوث خلل في محركات الطائرة، وشعرت بضغط شديد على أذني كأن فتيلا دخل فيها، وشعرت كأنها ملئت بالماء، مع أنني ركبت الطائرة طفل مرتين أو ثلاثة، لكني لم أشعر بمثل هذا الخوف الذي شعرت به الآن..
وكنت أتابع على شاشة الكمبيوتر صورة الطائرة وهي تجتاز البحر الأحمر، وكان الأمر يبدو على التلفزيون سهلا عندما يظهر البحر الأحمر وكأنه ذراع إنسان، وتظهر الطائرة كأنها حمامة صغيرة، ولا تبوح هذه الإشارات الرمزية بفداحة الخطر الذي يحدق براكب هذا الطائر الميمون.. وكم تبدو فداحة النكبات غير متخيلة وهي مدونة كرموز على الورق، كما لا تبوح رموز القنبلة الذرية بحجم الكوارث التي تخلفها وهي مكتوبة في صورة معادلات رياضية..
ورحت أفكر في هذا الطائر الميمون الذي يرتفع ويرتفع ويحاكي الطائر في تحليقه، لكنه يفوقه في قوته وجبروته، وكيف كان الإنسان منذ القدم يحلم بهذا الطائر الذي يطير، وينقله على جناحيه من مكان إلى مكان، ويقطع به البحار والبلدان، وهل كانت الأحلام القديمة إرهاصا وظلا لميلاد هذه الطائرات النفاثة، فلما حان ميلاد هذه الطائرات وخرجت من حيز الإمكان إلى حيز الوجود، كف الخيال عن تخيل الطائر أو الحصان الذي يمتطي صهوته السندباد ويطير به إلى مدينة الرؤى والأحلام!..

وقطعت هذه الأفكار المضيفة الجميلة التي مرت بطاولة العشاء وهي تخيرنا بين السمك والدجاج، واخترت السمك، ثم عادت مرة أخرى ببراد الشاي والقهوة والجرائد المصرية التي تتحدث عن محاكمة مبارك وزوجته سوزان..
وما أن انتهينا من تناول وجبة الطعام حتى سمعت رنين صفارة موسيقية تعلن وصولنا إلى مطار جدة، فنزلنا من الطائرة إلى المطار، وكان الجو شديد الحرارة، وكان مطار جدة غير مرتب كمطار القاهرة، أما القائمون على الأختام فهم شباب صغار السن يمتازون بالنشاط الدءوب، والحركة السريعة، وسرعة الانجاز أكثر من المصريين..
ولما استلمنا حقائبنا وخرجنا كانت ثلاث أتوبيسات تنتظرنا، وكان المطلوب منا أن نحشر أنفسنا فيها كيفما كان، ثم ننطلق في رحلة شاقة تزيد عن 500 كيلو متر من جدة إلى المدينة المنورة..
ولم نجد سوى كرسيين فارغين أحدهما تجلس عليه امرأة والآخر يجلس عليه رجل، وجلست الزوجة بجانب المرأة وجلست بجانب الرجل، الذي أفسد علي النوم والتأمل لضخامته وعلو شخيره..

انطلقت بنا الحافلة بين الجبال في طريق صحراوي معتم خالي من أعمدة الكهرباء، وأمضينا طوال ذلك الليل مبحرين في صحراء مقفرة موحشة، فلما اقتربنا من المدينة المنورة، لاحت أنوار البيوت المبنية في أحضان الجبال، ولكني لم استطع متابعة هذه المناظر الجميلة بسبب النعاس الشديد..
وانبلج الصباح مشرقا وصافيا ومنعشا حين وصلنا إلى المدينة المنورة في حوالي الساعة 8:30 صباحا، وبمجرد وقوف الحافلة أمام الفندق، حل محل السكون والفراغ والنعاس، نشاط محموم وبلبلة شديدة.. وتسابق الناعسون في إنزال حقائبهم ودخول الفندق والتجمع في الصالة لاستلام مفاتيح الغرف..
وكانت الغرفة التي نزلنا فيها مريحة وواسعة ومكيفة، وتطل على مفترق طرق رئيسي في المدينة المنورة، فألقيت نفسي على السرير ورحت أغط في نوم عميق لم أذقه منذ ثلاثة أيام، واستيقظت قبيل غروب الشمس بقليل، فذهبت إلى المسجد النبوي الذي كان يغص بأجناس متنوعة من الرجال والنساء، من عرب، وفرس، وزنوج، وهنود، وأتراك، وأجناس مختلفة من أبناء العم سام، إلا أن الملاحظ أن العرب أقل هذه الأجناس وجودا، وحيثما وليت وجهك استمعت إلى رطانة لا تفهمها، وزحام متنوع غريب من بلبلة الألسن.. وبرغم الازدحام الشديد، كان الشعور بالسكينة أقوى وأشد من كل زحام..

يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا: السجن 42 عاما بحق الزعيم الكردي والمرشح السابق لانتخا


.. جنوب أفريقيا تقول لمحكمة العدل الدولية إن -الإبادة- الإسرائي




.. تكثيف العمليات البرية في رفح: هل هي بداية الهجوم الإسرائيلي


.. وول ستريت جورنال: عملية رفح تعرض حياة الجنود الإسرائيليين لل




.. كيف تدير فصائل المقاومة المعركة ضد قوات الاحتلال في جباليا؟