الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجالس المتقاعدين / لغو أم عبث

محمد التهامي بنيس

2012 / 9 / 2
الادب والفن


مجالس المتقاعدين / لغو أم عبث

لم يعد ذلك الإنسان المنتج , فأصبح يرى وجوده عبثا , واظب في بداية أيام عطالته على النهوض في نفس الموعد ليستغرق نفس الوقت واقفا أو لا يكف عن اللف في مكانه يتجنب النظر إلى المرآة يخاف أن تحمل إليه وجها للتقاعد وهو لما يصدقه , يعتني بهندامه وشعيرات رأسه , ويرش عطرا خفيفا من ماء الورد والعنبر ليظهر نظيفا أكثر من العادة وكأنه يطهر نفسه من معاناة 42 سنة من عمله غير المجدي وخيبات أمله ويحمل أدوات عمله ملقيا نظرة على ساعة الحائط وهو يتجرع ما بقي بكأس الشاي ويضعه على عجل فوق مائدة الفطور
- هل ستذهب إلى حفل التكريم الجماعي ؟ قالت زوجته , وعلى عجل كمن كان ينتظر السؤال . رد
- أرفض التكريم بأية صيغة لأنه مجرد مواساة وعزاء وحتى امتنان يزيد فقط من عمق آلام الوداع
ثم يغادر البيت لا يلوي على شيء وما أن تلفح وجهه نسمة الصباح وسط الزقاق , حتى يلتفت يمنة ويسرة باحثا عن حافلة نقل الموظفين متسائلا مع نفسه . ما بال العربي تأخر . كم كنت أضبط على حضوره موعد الساعة , اللهم اجعله خيرا ؟
يطول الانتظار وتزيد حيرته إلى أن يتجه صوب مخدع الهاتف ويركب الرقم متلهفا , ومع أول رنة يسأل . أين العربي ؟ أنا لازلت في الانتظار وقد مرت ساعة على موعده . هل هو بخير ؟ هل المركبة بخير ؟ هل الإدارة بخير ؟ هلا زالت الطريق محفرة وغير آمنة يمكن أن تكون سببا في تأخره ..؟ تسمر في وضعه ساكتا وهو يتلقى جوابا يقول بحدة , تذكر أنه نفس الجواب الذي تلقاه في اليومين السابقين . ألم تقتنع أنك تقاعدت عن العمل والمركبة نسيت طريقك وأنك أصبحت نكرة . كف عن إزعاجنا كل صباح , سقطت السماعة من يده وتسمر في باب المخدع منهكا كما لو أنها المرة الأولى التي يشعر بهذا الانهيار على الرغم من أنه عاش نفس الإحساس يوم توصل بإشعار نهاية الخدمة مع رسالة شكر على ما أسداه لعمله من خدمات وشعر بأنه ستنتهي كل علاقته بها طوعا أو كرها , ولم يكن الرد في الهاتف مجسدا لهذا الإكراه , بل هو الجفاء الذي سيجعله يغير من سلوكه بما يتلاءم وحقيقة الوضع وسنة الحياة
كان اليوم الموالي أول أيام الاستيقاظ المتأخر وقد أخر رنات المنبه إلى الساعة التاسعة صباحا ليجد مائدة الفطور معدة , وسيدة البيت قد غادرت لعملها ولا أحد غيره في الدار , تظاهر أنه لا يبالي . تناول طعامه وشعل غليونه واسترخى يتأمل أنه ليس الوحيد في دفعة المتقاعدين فكم غيره من الأطر والموظفين والأساتذة والمفتشين والأطباء وحتى رجال شرطة أصبحوا في نفس الوضعية وكم من المهملين لعملهم يعيشون كالمتقاعد ولا يحصون في عداد المتقاعدين , يستمتعون بلذة الانتماء لسوق العمل وهم في حالة سراح منه ويقولون عنهم ( أشباح ) وكم هم الذين باعوا قدرات الإنتاج والتحقوا بصفوف المتقاعدين طواعية , فلا بد أن يبحث عن بعضهم ليؤانس كل منهم الآخر تذكر أن هناك على الورق جمعية للمتقاعدين فبحث أول الأمر عن فضاء خاص عن ناد للمتقاعدين وسأل واستفسر فلم يعثر على شيء , وكان البديل أن جعل وجهته مقهى الحي حيث يتوافد متقاعدون تباعا , يدخل الملتحق في مجريات الحوار الدائر عن وعي أو بدون مقدمات ما لم يأخذ صحيفته اليومية المفضلة لينهمك في التصفح حتى إذا عثر على موضوع يستحق المناقشة أو إبداء الرأي بسطه على الحضور , فإن كان له سبق الإثارة وجد الأذان الصاغية وإلا صده تعليق بسيط : لا جديد في الموضوع فقد استهلك , وكم هي المرات التي تسفر المناقشة عن مواضيع فرعية تأخذ الوقت الطويل بين الجدية والاستهتار . وكانت قليلة هي المرات التي يثار فيها موضوع يحظى بالاهتمام المشترك كما هو تفسير وتأويل قانون المالية الجديد أو جدول استفادة المتقاعد من خفض نقط الضريبة العامة على الدخل ومقارنته بوضعيات كل متقاعد مع مقاربته بغلاء الأسعار سيما وأن الأخبار تتحدث عن عجز وشيك لصندوق التقاعد . وعدم تخفيض أسعار الطاقة رغم انخفاض التسعيرة على المستوى العالمي , وكما هو نقاش حدث الساعة , حدث الاعتداء الصهيوني على الفلسطينيين العزل بعد الحصار المميت وصمت العرب المشجع على التمادي والقذف بملايين الأطنان من الأسلحة المحرمة دوليا ونتائج الربيع الشعبي , حيث كل طرف يدلي برأيه مقاطعا الطرف الآخر ويهيمن أحدهم ممن اشتهر بقول كلمة لا باستمرار كمدخل لإبداء رأيه بتحليل علمي أو تحليل سياسي , ما أن يكون مصيبا ومقنعا مرة حتى يجانب الصواب مع التشبث باعتقاد الصواب مرات , في ثرثرة من يعاني من القمع في بيته , الثرثرة التي تدفع بالبعض إلى الانصراف الذكي عن المشاركة أو الإصغاء , إما بمحاولة تغيير الموضوع أو الانهماك في فك ألغاز الكلمات المسهمة والمتقاطعة وأرقام السيدوكو أو التعليق على جمال جسم لطيف يعبر الزنقة أو الانصراف الهادئ
جاءهم صاحبنا بمشروع يخرج الجماعة من رتابة هذه الجلسات اليومية الفمامية , وقد أعد مشروع قانون لجمعية المتقاعد المنتج فرحب بعضهم بالفكرة طالبا استنساخ المسودة للقراءة والإغناء , لكن تأخرت الردود وطال المشروع النسيان أو التناسي كدليل على عدم الاستعداد للدخول في تجديد مرحلة عمرية مل فيها كل نشيط أيام الانضباط للوقت والإجهاد الفكري والعضلي في فترة عمرية أصبح فيها الركون إلى الراحة محبذا وأهم مميزاتها تصفح الجرائد المجانية ومساومة الباعة الجائلين الذين وجدوا زبناءهم المفضلين في شريحة المتقاعدين ورواد المقهى وأصبح تناوب النادلين على مجلس هذه الشريحة مفضلا ومرغوبا فيه رغم طول فترة المكوث وارتفاع أصوات الحوار والنقاش والثرثرة فيما هو سياسي , فأصبح المجلس بحق أشهر مجالس اللغو السياسي , سيما وقد انضاف إليه بعض العاطلين والمتهاونين المتهربين من عملهم بين الحين والآخر , واشترك الجميع في رفض العمل المثمر أو المساهمة في البناء ودعم المواقف حتى ولو كان تجمعا أو مسيرة احتجاج , وحتى لو كانت ندوة فكرية في أي مجال من مجالات النقاش الدائر في الساحة , لا أدري هل هو الخوف في أرذل العمر ؟ أو الخوف مما إذا كان مناخ انعدام الديمقراطية قد طفا من جديد بما يعتبر حرية التعبير وحرية الرأي جريمة ؟ فلو كانت الذرائع هي غياب الأٍندية كفضاء لنقاش من مستوى ما هو مطلوب بين المثقفين لقلنا : " آح وبردت " ولكن عندما يبتكر مثل هذا المجلس لغوا جديدا للتعبير يعتمد ترديد النقد المجاني والكلام السيئ ضد أية جهة أو شخصية أو فاعل نشيط إما عن جهل أو رواية على لسان بريء لا علاقة له بالأمر , أو بشن هجوم وهمي على القائل الافتراضي , فإن ذلك لا يؤدي إلى تدمير تلك الشخصية في غيبة ونميمة مغرضتين فحسب . بل ويكبر اللغو ويزداد ويتطور بين ناقل وآخر, ومتبني وآخر, ومدافع وآخر , وكثيرا ما يذهب مستمع بريء ليس له استعداد لتمحيص الخبر فيروجه , ما لم يأخذه على علته ويضخمه على أنه حقيقة , فتكون الشخصية أو الفكرة أو الإنجاز ضحية أقاويل وافتراء مجلس اللغو واللغط . وما بالك إذا اتسعت دائرة مثل هذا المجلس في عدة مقاهي بالمدينة وشكلت شبكة عنكبوتية لا تشعر بحياء أو بحرج رغم أنهم اليوم مثل نكرات تنتفخ في المجتمع , تتفق وتلتقي على تدمير آخرين , رغم كره بعضهم لبعض فتعدهم أحيانا في صفوف من ذهبت الريح بعقولهم أو كما قال عنهم أحد من مل ترهاتهم " طار طائرهم " ويعني لا عقل لهم
هي حالة من الاندهاش , تكسر الصمت لكنها تدخل درجة اللغو واللغط , فتسفه الموجود وتتعصب لفرض الرأي المخالف
تعمد لأيام أن يتغيب عن جلسات هذا المجلس , وقنع بمشاهدة القنوات التلفزيونية متنقلا بين الأفلام والمسلسلات والأفلام الوثائقية والتحقيقات وحتى الرسوم المتحركة والرياضة , وعلى قدر ما وجد قليلا منها جادا ومفيدا على قدر ما سببت له أخرى – وهي كثيرة – تقززا ونفورا , فأخذ منه الملل وأصابه العياء وظهرت عليه بوادر أمراض العصر والعمر , وكم من مرة صمم على استشارة الطبيب ثم تراجع عن القرار خشية أن يكتشف ما لا يسره , وفضل العمل بالمثل القائل : " لا تبحث عن أشياء إن تبد لك تسؤك " وهو يدري أنها الرتابة ولا مخرج له منها ما دام ليس هناك اختيار , رغم أنه وأمثاله لازال بإمكانهم العطاء . هل يبحث عن شغل ؟ ولكن لو كان هناك شغل لتمكن منه ابنه العاطل أو ابنته المجازة التي أصبحت تقتل الفراغ بأن تتقن فنون الطبخ وعمل البيت كبديل عن عطالتها . هل يحدث مشروعا للعمل ؟ ولكنه لا يمتلك مالا وليس له ما يرهنه ومؤسسات التمويل لا تمول ولا تقرض المتقاعدين والمسنين
اهتدى لفكرة لا تخلو من جرأة أرشدته إليها من غير أن تدري , حفيدته وهو يبسط لها موضوعا دراسيا , وتحمس – وهو المثقف - مع وقف التنفيذ – إلى تأليف كتاب في بعض ما ادخرته تجاربه وعكرته السنون , فقد تصنع الثقافة ما عجز عنه التقاعد وعجزت عنه سياسة إهمال هذه الشريحة , وشرع في تأليفه وقتا ليس بالهين , أخرجه من عزلته ورتابته وأبعده عن مجالس اللغو والنميمة لدرجة أنه اقتنع بكونه أصبح متقاعدا منتجا وليس استهلاكيا فقط أو سلبيا فقط , حتى إذا أنهى العمل وأخذ يخطط لأعمال أخرى - إن لقي عمله استحسانا من الناشرين - صدمه واقع عالم النشر , فقد رحب بعمله ونوه بمجهوده بل وتمت دعوته للمزيد مع توفير الصدر الرحب , ولكن بشروط تبخسه حقه أشعرته أنه يزرع ويتعهد ويعتصر ما في جعبته , ليقدمه لغيره كي يجني الثمار والأرباح ويتصدق عليه بالفتات وظهور اسمه في عالم التأليف كمن لا ماضي ولا تاريخ له – سبحان الله – استشعر اليأس وقرر أن يحاربه ويقف ضده , فسأل عن مصاريف الطبع على نفقته وكيفية التوزيع ومدى نسبته من ذلك كصاحب الجهد . إلا أنه وجد نفسه في بيئة محبطة ومخيبة للآمال وأن اختياره لا يعتمد نهجا يمر عبر أسهل الطرق , وأن مجهوده أصبح مثالا جديدا للتهكم على الإبداع والمبدعين
فضل الاكتفاء بنشر أعماله في منابر إعلامية محلية ووطنية وعبر " النيت " وشعر ببعض الراحة في التجاوب الذي لقيه من القراء في مختلف الأقطار وتعدد قراء مواضيعه ومنحه درجات امتياز وأوسمة عنكبوتية لا تسمن ولا تغني من جوع ( فكتابة الهدرة – أي الكلام – ما تشري خبز ما تطيب قدرة )
تأمل الحال وتردد كثيرا قبل أن يقتنع أنه لا لغو الكلام مفيد ولا لهو الكتابة مجدي , إذ اعتبر أن الأول ثرثرة عابرة للسان , والثاني ثرثرة عابرة بأطراف الأصابع . لم يبق له من اختيار أمام عدم اهتمام الدولة بمتقاعديها , إلا أن يعود إلى ثلة المتقاعدين في مجلسهم حيث تنطلق الأحاديث العفوية التي هي على علاتها تبقى مراكب سحرية تحمله إلى عالم يخرجه عن الروتين والمعتاد والرتيب , وفي ذلك خير متنفس له ولأمثاله في ظل الواقع المعاش
فاس . محمد التهامي بنيس
فاتح شتنبر 2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نور خالد النبوي يساند والده في العرض الخاص لفيلم ا?هل الكهف


.. خالد النبوي وصبري فواز وهاجر أحمد وأبطال فيلم أهل الكهف يحتف




.. بالقمامة والموسيقى.. حرب نفسية تشتعل بين الكوريتين!| #منصات


.. رئاسة شؤون الحرمين: ترجمة خطبة عرفة إلى 20 لغة لاستهداف الوص




.. عبد الرحمن الشمري.. استدعاء الشاعر السعودي بعد تصريحات اعتبر