الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوح امرأة (3)

محمد هالي

2012 / 9 / 5
الادب والفن


وضعت اللحاف على جسمي، و استسلمت للأرق الذي حركته الأسئلة الكثيرة التي بدأت تجوب رأسي، إني أحترق كشمعة بنار ملتهبة لا تتوقف، تذوب أحزانا و علاماتها على وجهي، هل أعود في الغد إلى نفس الجو؟ أستنشق الروائح، و أتقبل كل هؤلاء الأوغاد المخمورة المتفجرة صخبا ، أترك جسدي عرضة للمس، كما تلمس القطط من طرف الأطفال، لا أقدر على ذلك، كفى، سأبحث عن عمل آخر، و حينما أسترجع ذكريات البحث عن العمل، و الطلبات التي أرسلتها في كل الجهات، و لم يستجيب لي أحدا، أشعر بالحزن، و بغموض المستقبل، ثم أعود و أتأمل إخوتي المزدحمين على الصحن، و هم يتهافتون على الأكل، أقول أنه عمل أشبع الإخوة، يجب أن أتقبل الإهانة، ستكون أقل ضررا من الجوع، بقيت على تلك الحالة مدة طويلة، و شيئا فشيئا بدت لي الشمعة المشتعلة فوق فوهة قنينة فارغة، و هي ترسل أشعتها على الصحن، الذي بدأ ينفد جوفه تختفي رويدا، رويدا، و اختفت أحلام اليقظة معها.
استيقظت في الصباح باكرا، فوجدت فاطمة مستيقظة أيضا، و بدأت أتحدث معها، هي فرصة لأوجه لها مجموعة من النصائح، كالاهتمام بدروسها، و تلبية مطالب إخوتها، و وعدتها بأني سأهتم ببعض مصاريف البيت، و سأمنحها بعض الأولويات، من خلال توفير لها الملبس، و ما تحتاجه في المستقبل، و أعربت هي الأخرى على تنفيذ كل ما طلبت منها، لأول مرة أرى أختي فرحة، و نشيطة، بهذا الشكل، جلبت لي نوع من الفرحة، و قلت في نفسي:
" و الله سأعود من أجلك، أريد بأن أرى أختي سعيدة، أريدها بأن تكون كذلك، سأعود إذن سأعود.."
و بينما أنا أتناول الفطور، الذي كانت محتوياته أبريق من الشاي، و قليل من الخبز، رن هاتفي المحمول، معلنا انطلاق يوم جديد:
- ألو، أنا أمينة، صباح الخير، نلتقي على الساعة التاسعة، في نفس المكان، الذي التقينا فيه ليلة أمس
- حسنا سأكون في نفس الموعد، باي
التفت إلى فاطمة:
- لا تقلقي إن تأخرت، فعملي يتطلب ذلك، و ربما تقتضي الضرورة أن أظل هناك، أنه فندق، أتعرفين ما معنى الفندق؟!
لبست ما أعتقد أنه أجمل الملابس، و ضعت نوع من الماكياج على وجهي، و التفتت إلى مرآتي الصغيرة، التي أعلنت، يجب أن تذهبي، حان موعد اللقاء، بدا لي الحي كئيبا، و كأنه يحمل جثثا لا تنقطع عن التعفن، بتعفن الأزقة، و السبل المؤدية إلى أجمل شارع، الذي تمر منه وسائل النقل، التي تنقل البؤساء مثلي، إلى المتاهة، اقتنيت كالعادة تاكسي، ليوصلني إلى المكان الذي حددته لي أمينة، كان التاكسي يتمدد في الطريق بسرعة متوسطة، تساعد على التمتع بزخرفة العمارات الشاهقة، و الفيلات، و رؤية الدكاكين وهي تفتح أبوابها، و كنت أغفو من حين لآخر، رغم الأغنية الشعبية التي كانت تتصاعد من مذياع التاكسي، كان ذهني منشغلا باليوم الثاني، الذي سأقضيه مع السكارى، و المحرضين على الخمر، و أقول في نفسي:
- الحياة أدوار، واحد يسكر، و واحدة تدفعه إلى المزيد، الغرق لا يواجه إلا باللواتي يدفعن الغرقى إلى الغرق
و صلت في الموعد المحدد، وجدت أمينة تنتظرني، استقبلتني بابتسامة عريضة، ثم قبلتني و هي تقول:
- لم يعجبني منظرك، أتقبلين عرضا يخرجك من هذا الشكل المضر بالإنسانية
ابتسمت بدوري و قلت:
- ما هو يا فقيهتي الولهانة
- سأقرضك قرضا مهما، يساعدك على اقتناء حاجيات، تغير شكلك كله، و ترديه لي، وقت ما توفرت إليك الإمكانات
- هذا جميل، كم؟ إني بالصراحة في حاجة إلى النقود، سأقبل أي عرض تقدميه لي، و شكرا على اهتمامك بي، لا أعرف كيف سأرد إليك هذا الجميل
- ليس بيننا ذلك، خذي
ناولتني أوراقا نقدية، ما مجموعه ألفي درهم، قبلتها من جديد، و أنا أردد:
- شكرا على كل حال، شكرا.. شكرا
أخذت الأوراق، وضعتها في معطفي الذي كان يتسع، لبضع زجاجات من البيرة، و قلت:
- إلى أين يا حبيبتي الغالية، لا يمكن أن أذهب إلى الحانة و أنا أحمل كل هذه النقود
ضحكت ضحكة صاخبة، بدت لي مصطنعة، و قلت في خاطري:
- "مسكينة، اعتادت على مثل هذه الشهقات، لأنها تمارسها في الحانة، إرضاء للزبائن"
و هي تجيب:
- إذا وافقتني الرأي سنتوجه إلى الحمام، ثم نتوجه إلى محل للحلاقة، قصد تسريح الشعر، و الاهتمام بالشكل، آنذاك نتوجه إلى الحانة، قبل هذا و ذاك تعالي معي نأكل شيئا إني أموت من الجوع
و بدون أن أجيب، جرتني من يدي، دخلنا إلى محلبة كبيرة، جلسنا في ركن يطل على الشارع الكبير، ثم طلبت كأس حليب ساخن، و قطعة من الحلوى، في حين طلبت أنا الحلوى، و كأس من الريب البلدي، و جلسنا نقرر، فيما ننوي القيام به، قبل استئناف العمل، أشعلت سيجارة من نوع مارلبورو، و قالت لي:
- هل ترغبين؟
قلت متجهمة:
- لا، أتمنى بأن أتفاداه نهائيا
ابتسمت ابتسامة مليئة بالسخرية و كأنها أجابتني: " إنها مسألة وقت" ثم واصلت:
- بالمناسبة نسيت أن أنبهك، يجب أن تتعودي على شرب البيرة، و الويسكي أيضا، فالزبون يحب أن تشاركه المرأة في ذلك، لأن في هذه الحالة، ستتضاعف عدد المشروبات، و كلما كان الشرب أكثر، ستتضاعف الأجرة أكثر أيضا.
قلت:
- هذا مالا أرغب فيه
نهضنا من مكاننا متوجهين إلى المهام، التي قررنا أن نقوم بها، قبل الخامسة مساء، موعد الدخول إلى الحانة، نادت على أول تاكسي تراءى لنا، ركبنا و هي تقول:
- حي اللوح الموجود بالقرب من شارع الأمان، سيدي
مشينا زهاء نصف ساعة تقريبا، نبهت السائق:
- هنا سيدي
و هي تقدم له النقود، مشينا زهاء عشرة دقائق، مررنا خلالها بدروب مكدسة و أزقة ضيقة لا تتسع لدخول فردين، إلى أن وصلنا إلى شقة رثة من الخارج، فتحت الباب، و هي تقول:
- تفضلي، هذه شقتي البسيطة، إنها تلائمني للمبيت، و للجلوس وقت الفراغ.
من الداخل تبدو بسيطة فعلا، لكنها منظمة تنظيما محكما، تتوفر على حجرتين صغيرتين، و مرحاض صغير، يتوفر على مغسل، و رشاشة للدوش، أعجبتني الطريقة التي نظم بها بهو المرحاض: الصابون وضع فوق رف خشبي معلق في الجدران، جميل الشكل، مع الشامبوان، و بعض القنينات للتجميل، حليب، و زيت لذهن الجلد، تتخلل هذه الأمكنة مساحة شبه مربعة وضعت فيه أريكة للجلوس، وفي قبالته، توجد تلفاز صغيرة، موضوعة فوق خزانة من اللوح، مستطيلة الشكل، زينت ببعض القطع الحيوانية، و بعض الصور، من فتيات الموضة، و الجمال، تمددت فوق الأريكة، بينما هي دخلت إلى حجرتها، و ما هي إلا لحظات، حتى خرجت، وهي تغني إحدى الأغنيات الشعبية،
ثم قالت:
- هيا نذهب
فقلت:
- إلى أين؟ يا سيدتي الفاضلة، إني شعرت بالراحة، و الهدوء هنا.
فردت:
- إلى الحمام أولا، ثم إلى صالة الحلاقة ثانيا، ألم نتفق على ذلك؟
قلت:
- طبعا، طبعا
و خرجنا بعدما نفتت صديقتي الجديدة سيجارتين بسرعة، و دفنت لفيفهما في المرمد الموضوع فوق مائدة دائرية صغيرة من اللوح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل ومواعيد حفلات مهرجان العلمين .. منير وكايروكي وعمر خي


.. «محمد أنور» من عرض فيلم «جوازة توكسيك»: سعيد بالتجربة جدًا




.. فـرنـسـا: لـمـاذا تـغـيـب ثـقـافـة الائتلاف؟ • فرانس 24 / FR


.. الفنانة نجوى فؤاد: -أنا سعيدة جدًا... هذا تكريم عظيم-




.. ستايل توك مع شيرين حمدي - عارضة الأزياء فيفيان عوض بتعمل إيه