الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تسويغ الفساد ثقافة شعبية

محمد عبعوب

2012 / 9 / 5
الادارة و الاقتصاد


وكأنه يتحدث عن مشروع خيري أو تطوعي أنجزه بعد جهد لخدمة مجتمعه، كان جليسي في إحدى أمسيات أيام الصيف الحارة ونحن نتسامر على رصيف حارتنا التي لم تعرف شيء اسمه حدائق او فضاء للتنفيس، نطارد تلك النسيمات النادرة التي يجود بها البحر وتتسلل عبر الأزقة الضيقة للحي الشعبي في طرابلس، كان يحدثني عن فوضى الصرف والإنفاق التي تسود دوائر الحكومة ومؤسساتها هذه الأيام..
كانت الأرقام الفلكية التي تصرف وتلك التي تنهب في ظل تجميد القوانين وغياب الضوابط والرقابة الصارمة، حسب روايات الشارع والتي يجانب معظمها الحقيقة، موضوع سردنا البكائي تلك الليلة، تبادلنا كعادة الليبيين منذ أكثر من أربعة عقود روايات تضخمت مثل كرة الثلج بعد أن تداولتها الألسن عن اختلاسات في هذه الوزارة أو تلك المؤسسة.. تبادلنا ما وصلنا من كرات الثلج تلك.. ارقام فلكية حول علاج الجرحى والمتمارضين الليبيين في الخارج، وأخرى عن عقود استيراد أبرمتها وزارات جنا منها مقربون لهذا الوزير أو قائد مليشيا مسلحة عشرات الملايين..
استرسل الحديث وتسابق المتسامرون وهم يطاردون تلك النسيمات النادرة على قارعة الزقاق وضجيج السيارات وانفجارات الألعاب النارية التي أصبحت وجبة يومية ضرورية لليل الليبيين تقطع حواراتهم، في سرد روايات لا تنتهي.. فما إن يكمل أحدهم روايته المتضخمة بعد أن يضيف هو إليها عن قصد او بدونه، حتى يختطف الآخر خيط الرواية ليلقي ما بجعبته من أخبار وروايات التقطها من الشارع او من تلك القنوات الفضائية التعيسة التي تمارس تشويها وتضليلا ممنهجا للرأي العام خدمة لأجندات جهوية او قبلية او حزبية وحتى أجنبية تدفع بسخاء..
التقط جليسي خيط الرواية وبدأ يسرد علينا واحدة من إنجازاته وهو التلميذ المبتدئ في مدرسة الإختلاس بالليبي (اللهط) التي دخلها على أجنحة انتفاضة 17 فبراير ليجد نفسه يخوض في بحر يعج بتماسيح وضواري لها باع في (اللهط) اكتسبته خلال عقود الظلام الأربعة التي عشناها قبل الانتفاضة. تحدث لنا عن عقود تأجير لمساكن ومكاتب كلفه بإبرامها أحد أركان الوزارة التي يتبعها -مع العلم أنه ليس له اية علاقة مباشرة بالوزارة وإبرام العقود، بل هو مجرد موظف نافذ في مؤسسة تابعة للوزارة .. وأوضح أنه اتفق مع صاحب عقار على تأجيره منه بملغ يزيد قليلا على الأسعار السائدة في السوق.. قاطعته بالقول:
- هذا أمر هين، زيادة الف او الفين أو حتى ثلاثة في عقد إجار لا تساوي شيء مقابل الصفقات المليونية التي تعقد في الخفاء والعلن..
بادرني بالقول :
-"بالك تحسبني عيِّل ونفوّت الفرصة، البلاد للاسف نهب في نهب.. وخوك لابد ياخذ حصته"!!!
وسرد لنا حزمة من التجاوزات التي تجلبها الصدفة وتضعها أمامه ليبرر لنا بها انحرافه وانغماسه في وحل الفساد.. وقال متباهيا بصفقته في هذا العقد:
- أبرمت عقد الإجار مع المالك باسمي حسب القيمة التي حددها، وأبرمت أنا عقدا آخر باسمي مع الوزارة بقيمة إجار مضاعفة 100% تدر عليا مبلغا محترما كل شهر يفوق مرتبي عشرات المرات!! وأنا الآن أبحث عن عقارات أخرى محترمة لتأجيرها بالباطن للوزارة ، فهذا الباب فتح أمامي آفاقا واسعة للربح الخيالي الذي لم نكن نعرفه من قبل!!!
- لكن هذا حرام عليك هذه خيانة للأمانة وسرقة يعاقب عليها القانون!!
- انت قاعد تتكلم عن حاجة تجاوزتها الأحداث!! الحصول على كم ألف من صفقة إجار حرام؟!! ايش تقول على صفقات الملايين؟ اللي نأخذ فيه فتاة موائد رايح ، بيرموه في الشارع وأنا أخذته لأستفيد منه ليس إلا!!!
تسللت نسيمات واهنة عبر الزقاق.. فرحت بها.. علها تبرد أجواء الحديث الملتهب.. لكن الحريق كان قد شب في النفوس.. نفوس جذله ومندفعة في أتون الفساد، غير آبهة بما يجره عليها من دمار وخراب لن يمنحها فرصة الاستفادة والتمتع بعوائده، ونفوس تحترق كمدا على ما جرى ويجري من فساد للبلاد والعباد، ومن تبديد لتضحيات شباب في عمر الزهور قدموا حياتهم من أجل إصلاح ليبيا وتطهيرها من الفساد، فإذا بنا نبيع تضحياتهم بأبخس الأسعار غير عابئين بما يجره علينا هذا التصرف من خراب سيكلفنا غاليا من مواردنا وأرواحنا ودمائنا ومستقبل أبنائنا..
انقطع الاتصال بيني وبين المتسامرين في هذا المجلس.. أبحر بي الخيال في عوالم وبحور هوجاء.. اسمع بين الحين والآخر قهقهاتهم وارتفاع اصواتهم بين معترض وناقد وبين مؤيد ومادح.. واستعرضت من ذاكرتي مواقف وحوادث شتى صادفتني في حياتي، مواقف مشرفة لمقاتلين ومجاهدين رحلوا عن الدنيا وكان لهم الفضل في تفكيك مؤسسة الفساد التي ظلت جاثمة على قلوبنا لأربعة عقود، وآخرين لا زالوا أحياء فضلوا البقاء في الظل والحفاظ على طهارة أنفسهم وايديهم من الفساد.. ومفاسد فاسدين كانوا بالأمس القريب يرفلون في نعيم خيالي وترف لم نسمع عنه إلا في الخيال، ونراهم اليوم مشردين يبحثون عن الأمان الذي باعوه بهشيم الدنيا.. وكان السؤال الملح الذي يطرق عقلي بشدة، لماذا لا يعتبر هؤلاء مما جرى لفاسدين سبقوهم في الفساد ونراهم اليوم يتحسرون وراء حدود البلاد، يتمنون الوقوف ساعة على أطلال ما تركوه ورائهم من بقايا وطن خربوه بأيديهم؟ لماذا يستسهل هؤلاء خيانة دماء إخوتهم وأبنائهم ويبيعون مستقبل وطنهم بفتاة الموائد؟ متى تختفي ثقافة الفساد وتسويغه ويعود الاحساس بالوطن الى وعينا؟؟ هذا ما نصبوا اليه .. لكن رحلة الوصول ستكون طويلة ومريرة كما يبدو..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - وزير التموين: سنكون سعداء لو طبقنا الدعم النقدي


.. كلمة أخيرة - وزير التموين: صندوق النقد لم يطلب خفض الدعم.. و




.. منصة لتجارة الذهب إلكترونياً بالحلال


.. البنك المركزي اليمني يوقف التعامل مع 6 بنوك لم تلتزم بقرار ن




.. عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم السبت 1–6-2024 بالصاغة