الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة و(سياسيو الصدفة ) في العراق

رياض الأسدي

2012 / 9 / 6
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


كان السياسيون العراقيون السابقون سواء في العهد الملكي أو الجمهوري الاول ميّالين إلى التحدث بعربية فصيحة غالبا. وكانت العربية بالنسبة لكثير منهم ملاذا مناسبا بعد نزع رداء التتريك عنهم. حدث ذلك ابان مكوث ساطع الحصري ابو خلدون في العراق ووضع كتاب القراءة الخلدونية وهو رجل عرف بثقافته التركية المحضة وخدمته في سالونيك في العهد العثماني. اما اصراره على انه من أصول يمانية (سلطنة لحج) فتلك قضية لم يستطع احد اثبات صحتها إلى الوقت الحاضر وقد تكون مداهنة للنظام الهاشمي الجديد في العراق. والسياسيون العراقيون قد يصرّون على ذلك التيار العروبي من باب التمظهر بالثقافة والدراية حتى ان كثيرا من انتلجنسيا الكرد وهم القومية الثانية في البلاد كانوا على علم بقواعد بالعربية اكثر من العرب انفسهم. اما التركمان فقد كانت اللغة العربية باعتبارها لغة الدولة الرسمية هي لغتهم الام بلا منازع وكذلك ينسحب الحال على الطوائف المسيحية القليلة أيضا. وبقيت العربية هي اللغة التي تميز المتعلم ثقافيا وتضفي عليه هالة من الوطنية العراقية إلى حدّ كبير وليست باعتبارها لغة قومية؛ فالعربية اولا وأخيرا هي لغة القرآن وصهوة مجد المسلمين الوحيد المتبقي من حقب مظلمة استمرت قرونا عديدة. ولا أدلّ على ذلك من النشاطات الكبرى التي قام بها مسيحيو المشرق في لبنان والشام والعراق في تبوأ اللغة العربية مكانتها اللائقة.
وحينما لفظ الملك غازي شهر حزيران بضم الحاء بدلا عن فتحها أصبح بين ليلة وضحاها محط اهتمام المجالس الثقافية في بغداد وصالوناتها الأدبية، وجرى نقاش جميل عن صحة ذلك. كما اجاز الملك غازي لنفسع بلفظ العراق من خلال ضم عين العراق بدلا عن كسرها ( لأن عين العراق لا تنكسر!) وبقي البغداديون يضمون عين العراق حتى وقت قريب من نهاية الستينات بعد ان استولت العسكرتاريا على السلطة وتمّ ترييف ومن ثم تصحيراللغة والثقافة العراقيتين على نحو مقرف وباتت الاخطاء اللغوية والأسلوبية متربعة من البيان الاول الذي أصدره الزعيم عبد الكريم قاسم وقرأه ببلادة نائبه عبد السلام عارف المولع بالصراخ والظهور وهو اول من ادخل العامية في خطاباته السمجة والمضحكة .
ولم يكن ذلك الوضع محظ مصادفة بالنسبة لسياسيي العهد الملكي في الحفاظ على عربية نقية بل هو من ضمن مهامهم في التواصل الاجتماعي في اظهار خطاباتهم السياسية على نحو لائق. لكنه كان وبالا على اللغة بعد استيلاء الزعيم قاسم (1911-1963) على السلطة في العراق إبان انقلاب 14 تموز 1958 على الرغم من أن الأخير أظهر براعة في الحفاظ على اللغة العربية وآدابها في عموم خطاباته السياسية المرتجلة التي وجهها للشعب العراقي في مناسبات كثيرة. لم يكن قاسم يكتب خطاباته السياسية ولم يكن لديه مستشارون في ذلك وكان يتم كلّ شيء بعفوية بالغة. هكذا هم العسكر العراقيون الذين يجدون الاستعانة بغيرهم من المثالب الشخصية والانتهاكات لرتبهم الذين يحملونها على اكتافهم. لكن العسكر الذين جاءوا بعده حولوا اللغة العربية إلى خانة الاهمال واعتمدوا العامية بدلا عنها بحجة بليدة هي التقرب للشعب وكأن هذا الاخير لا يجيد إلا سماع الترهات. ويعود ذلك إلى فقر مدقع في ثقافتهم اللغوية والادبية كما دمر عملية تواصلهم اليومي وابعدهم عن الانتلجنسيا الناشئة.
كانت اللغة العربية من مباهج الثقافة الشخصية لعموم المتعلمين في العراق من جيل الخمسينات والستينات وحتى جيل السبعينات من القرن الماضي. وقد يلحن بعضهم بالكلمات ويجرّ أويعرّ بالنحو والصرف كما هو حال الرئيس السابق (الروائي صدفة)(*) صدام حسين على سبيل المثال، لكنهم يحاولون الالتزام بالفصيحة رغما عنهم، لأنهم يدركون ان اجادة الكتابة والقراءة بهذه اللغة هي من سمات الثقافة العامة والاولية لأي انسان متعلم. بيد ان كثيرا منهم كان يسقط في هذه المهمة على منخريه ويعود ملتزما تلابيب العامية. ولا أدل من صدور قانون الحفاظ على اللغة العربية في منتصف السبعينات من القرن الماضي وقيام الحكومة بجمع دواوين الشعر الشعبي العراقي ومنعها من التداول والطباعة. ولا يعود ذلك في الهدف النهائي إلى الحفاظ على كينونة العربية بمقدار ما هو محاولة لكمح جماح الشعراء الشعبيين الذين كان جلهم من الشيوعيين.
ومن اللافت ان سياسيو البعث كانوا حينما ينسابون في عرض افكارهم او الرد على خصومهم يبدأون بعربية مبعجة ومقعرة ثم يلجأون بكل بساطة إلى العامية او العامية الخليط حيث تعجز الكلمات الدارجة في توصيل المعاني الفخمة او تعجز العامية في مواضع كثيرة. وقد يعمدون إلى استخدام الكلمات الأسرية والمناطقية التي درجوا عليها في نوع من الخرق الثقافي الفاضح لهم ايضا. فمن الطبيعي أن ابناء المناطق الغربية والموصل وصلاح الدين كانوا يرفعون الكلمات على نحو دائم لتوكيد هويتهم السياسية وامتلاكهم ناصية السلطة في العراق. وكذلك كان يفعل الرئيس السابق صدام حسين بقوة لتوكيد جهويته في لقاءاته المملة والطويلة. كلّ تلك الإشارات تنبيء عن هوية سلطة صاحبها وتدليله على امتلاك ناصية السلطة فأنت بمجرد ان تصادف مسؤولا في الدولة او الحزب آنذاك يضم كلماته تصاب بالخوف والهلع حتى وإن لم يكن تكريتيا محضا. وكان رفيقا جنوبيا من البصرة قد عمد إلى تلك الطريقة في ضم نهاية الكلمات لتوكيد صلته بالسلطة التكريتية السابقة فأصبح مثار تندر دائم. ثم كتب تقريرا حزبيا يتهم فيه رفاقه من تندوروا عليه ببغض الرئيس ولهجته ودعا إلى تعميم ذلك على الجهاز الحزبي.
ويمكننا ملاحظة ذلك التيار في الاهتمام باللهجة العامية بحرص في خطابات الزعيم الراحل عبد الناصر حينما كان يخاطب الجماهير المصرية بلهجتها المحلية الدارجة توهما منه بأنه بذلك يكون اكثر اقترابا منها. وهكذا كانت كلماته تلهب راحات تالجماهير أكثر مما هي تحرك الغول الكامن في عقولهم. بيد ان نوعا اخر من السياسيين في العراق لا يرون في العامية إلا انتهاكا صارخا لثقافتهم وحتى لخطهم السياسي؛ هذا ما درج عليه الساسة العراق السابقين وبخاصة الملك غازي الذي كان يقدم طروحاته العروبية من قصر الزهور من خلال اذاعته الشهيرة بعربية قوية جزلة. لاشكّ أنه كان ينعم بقوة انتمائه الهاشمي باعتباره الملهم التاريخي له فقد حظي الملوك الهاشميون عموما بلغة عربية سليمة وقوية ولا ابلغ من الملك الراحل الحسين بن طلال الذي يمتلك بيانا ساحرا في هذا المجال في عموم خطاباته التي درج عليها.
وكذلك يمكننا ملاحظة ذلك في خطابات الزعيم عبد الكريم قاسم بوضوح وهو في الأصل معلم للغة الانكليزية لكن ولعه بالثقافة العربية مكنه من اللغة بقوة، وكذلك في التزام نوري السعيد اكبر شخصية سياسية في العهد الملكي بعربية سليمة في توجيه خطاباته او اثناء المقابلات التي يجريها مع الصحافة واجهزة الاعلام على قلتها وقتذاك. ويرى بعض مناؤي نوري السعيد ان اصول هؤلاء غير العربية (من أصل تركي) دفعتهم إلى الإلمام باللغة العربية الفصيحة وهذا ما هو عليه الساسة الكرد العراقيين من امثال جلال طلباني العاشق للجواهري ومحمود عثمان ومسعود البرزاني الذي يجيد العربية الفصيحة افضل من كثير من السياسيين العرب العراقيين أيضا. بيدان الكرد يغادرون العربية وخاصة من جيل ما بعد 1991 حيث اهمل تدريس هذه اللغة في المدارس وغذيت نزعة عنصرية ضد كل ما هو عربي وربما لن يكون الوقت ببعيد لتغيير الحروف الكردية رسميا إلى الحروف اللاتينية كما هو عليه الحال في تركيا.
ويبدو ان عدوى التحدث بالعامية قد جاءت من لبنان فمعظم السياسيين وحتى الصحفيين يركنون إلى العامية اللبنانية في احاديثهم مع الصحافة واجهزة الإعلام وحينما تفشل الأخيرة في التوصيل يميل المتحدث إلى الاستنجاد بكلمات من الفصيحة لكي يقدم الصورة على نحو ادق، فالعاميات العربية مهما اوتيت من بساطة في التوصيل إلا انها تقف في النهاية عاجزة عن اداء مهمتها على اكمل وجه. انه جزء مهم في ترسيخ (سياسة اللبننة) الطائفية والعرقية في العراق ايضا. فاللهجة العامية وبتفاصيلها المحلية تؤكد على نحو لا غبار عليه الهوية الجزئية للسياسي الذي يجد متعة بينة في ذلك لكنه يخسر كثيرا على المدى البعيد ليس من سياساته بل من خطابه السياسي إذ يتحول ببساطة إلى احاديث باعة الخضار وسائقي التاكسي وصفوف العمالة العاطلة عن العمل.
ويلتزم السيد اياد علاوي بهذه الطريقة منذ وقت طويل في التحدث بالعامية البغدادية ويبدأها ( والله شوف والله ما ادري!) وكذلك السيد بهاء الأعرجي رئيس كتلة الاحرار في البرلمان العراقي العتيد وباقر جبر صولاغ رئيس تيار المواطن، واحيانا نوري المالكي ايضا حينما ينفعل ينسى تخرجه من قسم اللغة العربية ويركن إلى العامية أيضا: رهط كبير من متحدثي العامية الجدد لدينا في العراق. ربما يظنون - لا ادري كم واحد منهم قرأ نازك؟؟- أنهم يتحدثون بالفصحى بحسب موقف الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة وهي مثقفة كبرى ذات توجهاتها القومية العربية إذ حددت ذات مرة: ان اللهجة العراقية هي الأقرب للفصحى وان العرب سيأتي يوما يتخلون فيه تدريجيا عن عامياتهم ويتحولون إلى الفصحى بحكم انتشار الثقافة العربية؟ لكن انحدار الثقافة العربية والثقافة على نحو عام في العراق ارغم كثيرا من السياسيين العراقيين على التخلي عن الفصيحة والركون للعامية والعاميات الفجة أيضا. ربما يعود ذلك إلى عدم قدرتهم على مجاراة عربية فصيحة بسبب قلة ثقافتهم العامة وانحدار حصيلتهم من المعارف واولها اللغة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) من البؤس انك تجد ان امعات ثقافية كثيرة في عهد صدام حسين كانوا يدبجون المقالات عن هراء (زبيبة والملك) وقسم منهم نقادا يعدون انفسهم عمالقة أيضا والتوثيق لذلك موجود. كما ان احدهم كان قد اجهد نفسه في الكتابة عن (القلعة الحصينة) رواية من وزن (بلوك) ما قبل السقوط حتى قبل صدورها وهي عبارة عن مسودات في جريدة الجمهورية. ومن الغريب ان واحدا من هذه الأمعات الصغيرة كان لديه بحث علمي قدمه للترقية في الإشراقات البلاغية للسرد الصدامي ثم اصبح بعد سقوط النظام ( شاعر آل البيت)!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزارة الدفاع الروسية تعلن إحباط هجوم جوي أوكراني كان يستهدف


.. قنابل دخان واشتباكات.. الشرطة تقتحم جامعة كاليفورنيا لفض اعت




.. مراسل الجزيرة: الشرطة تقتحم جامعة كاليفورنيا وتعتقل عددا من


.. شاحنات المساعدات تدخل غزة عبر معبر إيرز للمرة الأولى منذ الـ




.. مراسل الجزيرة: اشتباكات بين الشرطة وطلاب معتصمين في جامعة كا