الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كورنيشُ الأحزانْ...

محمد البوعيادي

2012 / 9 / 6
الادب والفن


"ثم قال لي: المياه التي رأيت حيث الزانية جالسة هي شعوب وجموع وأمم وألسنة، وأما العشرة قرون التي رأيت على الوحش فهؤلاء سيبغضون الزانية وسيجعلونها خَرِبَةً وعريانة ويأكلون لحمها ويحرقونها بالنار. لأن الله وضع في قلوبهم أن يصنعوا رأيه وأن يصنعوا رأيا واحدًا ويعطوا الوحش ملكهم حتى تكمل أقوال الله".
العهد الجديد- رؤيا يوحنا- الفصل 17.

و تموج النفس على ضفاف شاطئ الليل البهيم، يتثاءب البحر إلى أعماق الذاكرة موجة موجة، كأن مدا قاسيا هائجا يلاطم حواف الجمجمة فيرجها كما تُرجُّ الجبال آن زلزال عميق..هدير هدير... هدير صاخب و عنيف مثل شواطئ المدينة المترنحة تحت الصخور المنحوتة بالملح ...حتى في اختلاجات المساء الرهيفة يبعث البحر نداءه الريحي إلى الشوارع المضيئة بأعمدة الكهرباء الباكية، ذرات الماء الندية تتراقص تحت عمود الكهرباء كما قلب (نوّارة) الذي شردته السِّنِيُّ منذ انخطافة الطفولة الشقية إلى مفترق العمر حيث الوعي الشقي بعالم منفصل عن مشيئة القلب الجريح، ذرات الماء المالحة تحملها الريح فتوغل في الجلد وتعطّره برائحة البحر والرطوبة المقيتة التي تناسب مدينة رمادية ومليئة بمكعبات الحديد والفولاذ، فيصير عطر الوجوه كالنّارنج المُر...
كرُكْحٍ هائل يمتد شارع المدينة الرئيس، شريان الموت الزاحف في هذه البقعة المهجورة من تاريخ الوطن، على الرصيف المبلل بما حملته الريح من ملوحة البحر ورطوبته يسير الناس أشتاتا بلا ملامح ولا اكتراث وكأن شيئا تكسّر هنا منذ زمن بعيد ولم تُجبر الكسور بعد، لغو مجرد لغو لا أقل ولا أكثر، تحت المصابيح الصفراء القديمة التي تنثر الضوء رذاذا كالماء الآسن يسير كلٌّ إلى مثواه وفي يده كفن يختلف عن أكفان الآخرين، الوجوه عابسة و متألمة حدّ النّحِيبْ إلا طفلة ترقص ويدها في يد أب هاجمت الكهولة بشرته المشققة فحرثت محياه بمحراث السنين، ينظر إليها منهكا ثم يقلب وجهه شطر الكورنيش المُرصّع بالمصابيح المربعة الخافتة ..
كم أكره هذه المدينة؟ كم أحب هذه المدينة؟ الرصيف المشكل من مربعات الكلس المصقول يطول ويطول كأحزان العمر المتهالك، وهذه الزرقة اللامتناهية ما بالها تحتجزني جسدا وفكرا فأعود إلى رتابة الرصيف كلما فكّرت في نهاية الأشياء والألم؟..
لا شيء يهم في ذي اللحظة، أنا كواحدة من الجمهور ثم زجها وسط خشبة مسرحية من المحترفين والنجوم، ألعب دور مشجب خشبي قديم ، يعلق فيه الممثلون معاطفهم المُبلّلة، ومن تاريخ البدء، من تاريخ الهندوس والشرق المتآكل وأنا امرأة المعبد أو "امرأة الإله" يأتي إليّ المارة وعابرو السبيل ليرتموا في حضني و ينفضوا تعب السفر الطويل عن أجسادهم وأرواحهم العفنة، منذ الزمن الإغريقي الأول كنت امرأة "الهيترا" ونهدا مقدسا يرتل الرجال صلواتهم عند محرابه البرونزي...
هنا يعلّق فيّ الرجال المشوهون والمرضى خيباتهم، آلامهم، مشاكلهم و عجزهم إذ يلجؤون للهروب نحوي، كأني منارة قديمة في هذا اليم المليء بالمجهول والعواصف ، كم واحد بكى بين فخذي كطفل صغير فربتُّ على رأسه و حضنته إلى بزوغ الفجر كأم ثكلى ، كم واحد صفعني و بهدلني دون أي سبب، أحمل في جسدي آلالاف الندوب بعضها يعود إلى عصور بابل وسومر، حيث كنت متعة للضيف إلى أن أصبحت جسدا منخورا يبتغي كسرة خبز يابسة مقابل مذلة التعري في القرن الأخير قبل انطفاء شمس الإنسانية الآفلة ، بعض هذه الحفر الغائرة بالسكاكين و أخرى بالشفرات الصغيرة التي يتعلم الأطفال استعمالها بعد أن يخرجوا من حجور أمهاتهم مباشرة، قلت أي مريض تاهت بوصلته فأنا مَشفَاهُ المؤقت وحقنة المورفين، يمرون هنا من بين منشئهم المقدس، يخالجهم حنين إلى منبع الوجود، حيث الأصل الذي جاؤوا منه، أحتمل فقط، خربت بوصلة المشاعر منذ زمن غائر، مسحت جغرافية جسدي بمكواة ساخنة كسطح الشمس فماتت نهايات الأعصاب واحترقت مسام الجلد كي لا يعود للرعشة في قاموسي وجود، واللذة تركتها في ركن مغبّر من علِيَّةِ القلب وصرت خشبة يتكئ عليها المعاقون في الشوارع النائمة، قتلت القلب منذ سنيَّ طويلة، اقتلعته بجذوره وشرايينه وأوردته ووضعت مكانه إسفنجة مغموسة في الوحل تضخ السائل الأسود في عروقي عوض الدم...
أنا هامش المدينة الذي لولاه لما كان المركز،أنا مشجب المدينة، بلغة أكثر وضوحا – كي تفهموا – أنا عاهرة أو هكذا يناديني السكارى حين يغضبون ويكسرون أسناني بقبضاتهم الكبيرة: أنت عاهرة، قحبة لا شيء غير ذلك (هكذا يقولون) وينهال اللطم واللكم والتُّفال..
جسدي مزوَّق بالكدمات الزرقاء والحمراء حين ينحسر الدم تحت الجلد جراء ركلة أو قبضة قوية تنزل في ظهري أو بطني، تبقى البقع الزرقاء كأنما تشهد على ألم كامن لو حررته يهدمني ويمزق جلد الجسد صاعدا نحو زرقة السماء...
في كل منتصف ليل ، بارد أو نديّ أو معتدل، أجلس قرب زجاجة مكسورة مثبتة على حائط أسود متهدم في غرفة باردة كقلوبكم، أشذب أشفار عيني الغائرة التي طوّقتها التجاعيد من كل حدب، أشذب تشققات وجهي العجوز كيما أخفي ما حفرته السنين من جداول و أنهارَ فيه، وأنطلق تائهة إلى شوارع المجهول بلا بوصلة ولا اتجاه، لا أعرف إن كنت سأعود "سالمة" وأحظى ببعض الطعام البارد ودفء الفراش المهترئ، أو أني سأقضي الليلة في صالة أحد المنحرفين أو أبيت واقفة في برد مخافر الشرطة...
هذه الطفلة التي تمر هنا ضاحكة، كنت مثلها ذات طفولة غابرة، أرقص حين يعود أبي، أعانقه عند مفترق الطرق بكلتا يديّ، لم أكن آبه لشيء سوى اللعب... الآن يلعب المراهقون في جسدي كما شاؤوا، يستمتعون ويهزأون وفي داخلي نهر أحزان ينسكب في صمت ووجع، يتدفق أميالا داخل صدري المتراخي بكثرة ما فعصته أنامل المارة والمتسكعين..آه لو أن لي طفلة مثلها و بيتا صغيرا وزرمة أحلام مهما كانت ضئيلة، تُرانِي لازلت أحلم بالأمومة؟ ما عادت أحلامي ملكي، حتى الأحلام دفنتها بكلتا يديّ وكَفّنْتُ الخيال، كيف وهذا الجسد انهار و انهارت معه الأمنيات الصغيرة و القلب والذاكرة و الأشياء الحميمة التي هجرتني قبل الأوان...
تعود فصول الحكاية إلى زمن بعيد جدا، زمن يحتل ركنا شاسعا في الذاكرة ...
الأرض المباركة، فدادين الطين الأحمر، الكروم والمزروعات الفصلية ودجاجات الخم الصغير، كنت فتية كعود النوار الأخضر، وكان أبي وكانت الطيور وموسيقى الراديو القديم..وأمي تدندن في بهو الكوخ الواسع باسمي:
عودْ النّوّارْ يا عُودْ النّوّارْ
إمتَى تْرُوحْ بْنِيتِي للدّارْ
عودْ النّوارْ يَا كْبْدِي نبْغِيكْ
منْ باعْكْ يخْسْرْ وْيْرْبْحْ مْنْ يَشْرِيكْ..

في صباح شتاء كالح حملت الفطور إلى أبي، خبز شعير ساخن وقنينة شاي وبعض الزيتون والبيض، كان الطريق ملتويا كدودة طويلة، تلفه حشائش الشتاء الخضراء من كل جوانبه، الضباب لفّع عالمنا الصغير والكلاب تعوي وتنبح باكرا، ممر محفوف بأشجار الكاليبتوس العجوز التي لا تنِي تطاول أعنّة الأفق الغائم ، بعض مطر خفيف كنت أقاومه بغطاء رأسي الملوّن..غطاء الرأس .آه كم أحببت الذهاب إلى السوق مع أمي ، الأضواء، السلع المعروضة من كل شكل و لون، كنت أحب أغطية الرأس المزركشة وذلك واحد اشتريته بما تبقى من ثمن الدجاجات التي رعيتها مذ كانت صياصي في الخم...
كنت سعيدة بالقليل وكان أبي وأمي وأشجار السّرو والزيتون خلف بيتنا و أشجار الكاليبتوس العالية تطوقنا من كل صوب، خبز الصباح الساخن، المدرسة البعيدة و الدُّمى، كنت أنا نوّارة، نوّارة التي تغني لها الأم ترنيمة النوم...الآن أنا شيء آخر مختلف عنّي تماما، جسد مثخن بالندوب والانتكاسات وجروح دفينة وغائرة في الجلد والعظم المنخور، جسد مستقل عنّي منذ اليوم الذي حملت فيه الفطور إلى أبي، ليتني كنتُ أنَا الآن، وليتني أنتهي من هذا العذاب اليومي ومذلة الشوارع الباردة التي لا ترحم وحدتي ..


أصبح الرصيف مبللا عن آخره، ملابسها المبهرجة التصقت بفخذيها العاريين عند الركبة، وبدا مكياجها وهو ينهمر على الوجنتين كسائل دموي فائر، فقد الوجه تشذيبه الصناعي، وصار الماء يكشف عن شقوق البشرة إذ ينساب بينها سلسا وباردا كالمساء البحريّ..
في الرّكن الآخر من الشارع كانت هناك محطة حافلات مغطاة بسقف قزديري صغير وكرسيان خشبيان عائمان في دفء المطر الليلي، تسرّب الماء من ساقية ظهرها داغلا نحو الأسفل فأحست ببرودة ما ذكرتها بأصابع كثير من الرجال مرّوا كسفن لا تترك أثرا في الماء سوى خطوط الزبد المتلاشية في العباب الأزرق الممتد، وكان جسدها المحيط الأزرق ومرفأ السفن، جسدها رمادُ ذاكرة تقاوم الموت من خلال أشياء الطفولة الضائعة في أكوام الحقد والشرف الزائف والهزيمة، تهاطل المطر بسعار وجنون أكبر، بدت المصابيح كئيبة وهي تعانق خيوط الماء الممتد من السماء إلى الأرض بغير انقطاع.. مساء مريض من تلك المساءات التي تقع بين الصيف والشتاء فتحاصر المارة وتشعل رغبة في التكوّم تحت أغطية الصوف.
تشاكل الضوء القليل الذي تمن به المصابيح العالية مع المطر فأَضفى على الشارع الواسع مسحة كآبة خرساء ما انفكت تنسل إلى قلوب الهاربين من الماء، كان الممر طويلا كي تعود إلى المقهى الليلي حيث تنتظر الزبائن، لذلك توجهت نحو محطة الحافلات الصغيرة كيما تحافظ على ما تبقى من زينة مشبوهة وأعكار تلطخ الوجنتين.
رجل واحد يقف تحت السقف الدائري الصغير، أصبح الشارع فارغا من كل ما يستطيع الحركة، حتى الكلاب الضالة وجدت مآوى لنفسها من غضب السماء.
وقفت نوّارة تحت سقف المحطة الصغير تلف نفسها في رداء صوفي أحمر فاقع ترتديه العاهرات إعلانا عن طبيعة عملهنّ، نظر الرجل الجالس هناك إليها في هدوء:
+ الجوُّ دافئ نسبيا، عادة ما يكون أبرد من هكذا بكثير.
أشعلت سيجارة ومدّت العلبة نحوه كيما يلتقط واحدة لكنه لم يكن يدخّن.
+ نعم الجو دافئ نسبيا، ربما لأنها بداية الشتاء فقط، فيما بعد سيمتد البرد رداء ثلجيا يزركش قرميد البيوت والشوارع وسقوف المقاهي، يبدو أن هذه السنة ستكون ماطرة ومثلجة .
+ وما الجديد يا ابنتي، هذه المدينة ماطرة طوال فصول السنة ، لا ينقشع الضباب عنها في كل المواسم، ألم تجدي زبونا بعد؟
كان مباشرا في سؤاله ذلك، أما هي فلا تخجل من عملها، الراقص لا يخفي وجهه هكذا طقسها الاستسلامي البسيط في بيع الجسد أو كذلك كانت تقول أمها " الشطّاحة ما تخبّي وجهها" :
+ يبدو أن الرجال هنا توقفوا عن مضاجعة النساء، تزوجوا جميعا أو أصبحوا عنينين، أيام سيئة على كل حال.
+ لابأس في ذلك، أنا كما ترين عجوز وجسدي متهالك تماما، لكنتُ أخذتك إلى بيتي لدي ويسكي من نوعية جيدة، لسهرنا معا حتى الصّبح، لم أعد قادرا على الجنون يا طفلتي هرمت وشاخت فرائصي، يا ليت أيام الطيش تعود لليلة واحدة أفديها بالباقيات من عمر المعاناة هذا.
ضحكت بصوت عال تعوّدت العاهرات على اصطناعه ، الرجل العجوز الواقف بجانبها منكمش على جسده المقوس، معطف خشن يذكرها بمعاطف النازيين الأنيقة، قبعة دائرية تصنع موديل المثقف، تحت إبطه كتاب ما وعيناه، عيناه كانتا مغرورقتين ببريق طبيعي يساير إيقاع المطر، لكأن خلف هذه التشققات منحدر لا قرار له أو هاوية جهنمية عميقة، لا يبدو من أولئك الموتى الذي يُقبرون سنوات قبل مغادرة الحياة، شيء بسيط في المحيا الضاحك، ربطة عنق مخفية تحت "كاشكول" طويل من لون أخضر غامق، وكلماته، كلماته كانت منسابة في هدوء، كأنها صخور صغيرة قُدّت بفأس الخبرة والتعب، كان رجلا طاعنا في السن لكن لا تعزوه روح الدعابة والخفة.
نظرت إليه واقتربت نحو الكرسي:
+ ترتجف من البرد يا عم ...
+ محمود، نادني عمّي محمود يا ابنتي أو إذا تكرّمت نادني محمود فقط سأكون ممتنا.
ارتسمت على محياها ابتسامة صادقة لم تعرف طريقها إلى الشفاه المنمقة منذ زمن طويل، طيبوبة هذا الإنسان المتكوم هنا تثير عديد أسئلة، أليس لديه أبناء؟ أيكون وحيدا في الحياة مثلها؟ وهل كانا ليلتقيا في الشارع الفارغ لولا تقاطع طريقيهما؟
هناك مصائر تلتقي صدفة في منعطفات الحياة البئيسة ثم تفترق، أشياء لا نخطط لها لكنها تأتي لأنها لابد أن تأتي وكفى، أو أشياء ترسمها أقدارنا المتقاطعة، أقدارنا نحن الهاربين من القدر، أشياء صغيرة تبدو بلا معنى وأشخاص بسطاء نحسب أنهم يمضون كالمطر غير أنه ثمة حكمة إلهية ربما تصل شرائط الحيوات المختلفة ولو في لقطة واحدة على الأقل بين شخصيات ثانوية غالبا أو بين بطلين أحيانا، نلتقي ونفترق فيمضي كل إلى حاله، وأحوالنا لا تكون أحوالا إلا بالآخرين، ربما كان هذا العجوز واحدا من مئات الوجوه التي قُدِّر لها أن تتأملها تحت المطر، فوق السرير، جنب الأريكة، في مخفر الشرطة، في الشارع الليلي وهي تلملم جسدها المتشظي... لكن وجهه يحمل شيئا خاصا، نوعا من المعهود، ذلك المعهود البسيط الذي يحفر ذاكرتنا و يرصعها بوشم لا ينسى لا لشيء إلا لأن حكمة الطبيعة تخلق تآلفات لم يخطط لها أحد وربما لم يكن راغبا فيها ذات زمن منصرم...
+ ترتجف من البرد يا محمود ( وابتسما معا) اقترب مني لندفئ بعضنا في انتظار خفوت المطر. ما الذي تفعله هنا في هذا البرد أيها العجوز، الوقت متأخر جدا ؟
تلاصقا بجسديهما فوق بقعة ناشفة من المقعد الخشبي المهترئ، كطائري شتاء مهاجرين انضما إلى دفء الأجساد، بيننا نحن البشر طاقات حرارية هائلة لو نريدها تكون حاجزا بين برودة العالم والأشياء، غاصت عيناه في جحر الجفون السوداء، يداه ترتجفان من البرد برغم القفازات المهترئة التي تضمدهما كشريط طبي، أيكون مريضا؟ هاربا من مصحة مجانين؟ رماه ابنه خارجا؟ تائها عن طريق العودة للبيت؟ تائها عن محطة القطار؟ ينتظر الحافلة القادمة؟ أية حافلة؟ العاشرة عمّا قريب وهذا المدينة تعوّدت غلق جراحها مبكرا، من يوم هجم بنو كلاب على الشوارع و الممرات ينشرون الدعوة و المعروف و ينهون عن المنكر، من يومها صار الناس يهربون حين يعتلي الشفق صهوة الشمس ويختبئون في دفء الملاءات أو يهربون إلى التلفاز والموسيقى، تاركين للكلاب الضالة نشوة التسكع والركض في الشوارع الماطرة..
كان المطر ينساب في تناغم غريب، وكأنه يرقص على لحن بيانو هادئ، تتماوج ذرات الماء الصفراء أمام الغطاء القزديري الصغير، وصوت القطرات يخلق سمفونية رتيبة تبعث قشعريرة في الجسد، تخترق حبيبات الجلد، تبدأ من أخمص القدمين الملفوفتين في حذاء وجوارب صوفية و تمتد عبر الخلايا صاعدة نحو الأدنين الجافتين تحت غطاء الرأس فتشعلهما بنكزات خفيفة من الدفء، وحدهما متكأين على بعضهما في الشارع الخالي من كل أشكال الحياة، ترى هل هناك شيء بيننا نحن بني البشر يجعل التحام جسدين غريبين تحت وطأة البرد شيئا ممكنا دون معرفة مسبقة؟ أليست الحيوانات البرية تلتقي بفروها كي تحمي بعضها البعض، إذا هي أشياء مشتركة بين كل الكائنات، الحنان أو المصلحة، أو الألم الذي يجمع شذرات كائنين محطمين تحت سطح قزديري بئيس في ليلة لا يبدو أن المطر سيتركها تنسلّ نحو فجر محتمل...
+ أنا يا ابنتي آتي إلى هذه المحطة كل يوم، منذ ثلاثين سنة، كنت أشتغل محررا في جريدة الرأي، الآن تعودت خلاياي على هذه الرحلة اليومية، آتي إلى هنا، إلى الكورنيش لأنظر طيور البحر و الناس والملامح المختلطة، ليس لي أحد، توفيت زوجتي منذ زمن بعيد، تغيرت المدينة كثيرا و معظم أصدقائي رحلوا، أحمل كتابي و أسافر في الممرات المغلقة، إلى ذكريات زمن آخر، زمن كنت فيه حيّا، فلا يقاسمني وحدتي إلا سرب النوارس البيضاء...
كان البرد يشتد و بدأت حركة الريح الصقيعي تغمر حنايا المكان، يتطاول الريح ويتمايل مع الضوء المنسكب من المصابيح المائلة فيصيبهما برذاذ المطر المختلط مع شرارات البحر المتطايرة في الهواء، إذ ذاك تتقلص عضلات الوجه من الرعشة المجمدة على الشفاه.
تفقدت نوّارة الشارع يمنة ويسرة، كان خاليا ولا سيارة أجرة واحدة هناك، الحافلات يبدو أنها توقفت عن المجيء، وهذا العجوز يبدو أن المطر فاجأه هذه الليلة فحاصره في مفترق الطرق بين بيته والكورنيش، أين يمكن أن أحتمي،أو نحتمي معا؟...
نظرت إليه من جديد:
+ منزلك قريب من هنا؟
+ نعم مسافة قريبة، كنت أمشي إليه على الأقدام أحيانا درءا للملل ورتابة الحافلة، إذا خفّ المطر قليلا نذهب هناك، يمكنني أن أعدّ لك كوب قهوة ساخن فأنا بارع في ذلك.
ابتمست نوّارة من قلبها، هناك إنسان ما يريد أن يعطيها شيئا، قليلا من القهوة بلا مقابل، دون أن تضطر إلى تمريغ جسدها في الوحل على مضض و تقزز، قهوة مجانية سيكون عطرها أعمق:
+ حسنا لنرى أيها العجوز مدى صحة زعمك، يبدو أن المطر سيفتح لنا فجوة ضئيلة نسير فيها إلى بيتك، أتسكن وحدك؟
+ نعم، أخبرتك أني وحيد، ماتت زوجتي قبل أعوام وأبنائي سفروا إلى الخارج، أقضي معظم وقتي مع جهاز الموسيقى القديم والأسطوانات السوداء الكبيرة، سأعرفك على كلبي أيضا، إنه ظريف ويحب الضيوف ولو أنّ لا أحد زارني منذ سنوات.
حين رست مرساة المطر على شط الشارع المنسي، كانا يزحفان في بطء سلحفتين على الطريق، الرصيف مببل و هي تضع يدها تحت إبطه وتحتك بذراعه الهزيل الخشن، معطفه الأزرق الداكن يعكس بساطة إنسان يهتم بالأشياء بالقدر الكافي لا أقل ولا أكثر، في الطريق حدثها عن أبنائه:
+ بنت في الثلاثين تزوجت قبل خمس سنوات، و وولدان سافرا إلى فرنسا، يدرسان هناك، أنا بقيت مع الكلب، وحده يؤنسني في ليالي الشتاء الباردة، نجلس أمام المدفأة القديمة و نستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية، أحن إلى صخب الشباب أحيانا، لكن عزلتي الشائخة تمهلني الوقت الكافي لأستمع إلى نبض الحياة بأذن أخرى، أصبحت أقدر الأشياء الجميلة كثيرا، الأصوات والأشكال، ولدي حديقة صغيرة أعتني بورودها، أنا إنسان صالح يا ابنتي و هذا يملأ القليل من وقتي المتبقّى.
طوال فترة الطريق كان يحكي عن أشياء لا يعرفها جيلها الجديد، تاريخ المدينة والمعالم الكبيرة، النساء و كرة القدم والموسيقى، كان يتحدث عن الموسيقى كطفل في السادسة من العمر، نشوة غريبة تهز كيان هذا الرجل المتهالك، لكأنه شاب في العشرين، يتحدث بشغف وأحيانا بانهزام، في عينيه وخطواته إيقاع الحياة المتأني، تعلّم الكثير ولازال يحب المشي على الرصيف في مساءات الأحد الجميلة، المشي وحيدا في الطرقات...
كانت نوّارة تنصت إليه في هدوء وروية وتقسم أنها لم تعش أبدا ولا يوما واحدا، كانت منسية في القرية الصغيرة، ثم جاءت هربا إلى المدينة وصارت تخيط الشوارع ذهابا وإيابا كلما آذن الشفق بحلول ليل الوحوش، حيث البيع والشراء وحيث لا موسيقى ولا أحلام زهرية إلا النهم الجنسي العفن و العنف المقيت...
في انعطافة صغيرة على شارع من مخلفات المستعمر الفرنسي بدا بيت قرميدي مربع، شرفاته جميلة على الطراز الكلاسيكي و المطر كان يسيل من جنبات القرميد الأحمر، حوله حديقة وبعض الشجيرات المتطاولة مع السور الدائر حول البيت، أشار بإصبعه:
+ هناك بيتي ، سيعجبك، اشتريته من رجل عجوز آنها، كان يشتغل مع الفرنسيين في حقول الكروم، ساعتها كانت كل هذه المدينة مجرد حقول ممتدة على مرمى البصر، وحين غادروا تركوا له البيت و جزءا من حقل كبير، باعه حين أحس بنهاية المشوار وسافر إلى القرية ليموت في سكينة.
حين أقبلا في ممر رصيفي صغير تهاطلت أمطار الذكرى غزيرة في الصدر، الممر رغم اختلافه يذكرها بأشياء داغلة في النسيان، كان هناك ممر أيضا، صغير، محفوف بالأعشاب الضارة و الأشواق إلى ذراع أم وأب، كأن أشجار الصفصاف والسّرو تنمو تباعا في الممر نحو بيت العجوز، يمتد الطريق أبيضا كشعاع حارق يمنع الرؤية، صارت كأنها تغوص في دائرة لولبية نحو الماضي، كأنه ثقب للسفر عبر الزمن هذا الجسر القصير، والألم أطول من التاريخ، والقلب أضيق الآن حتى من جنبات الممر المحفوفة بنُدف الماء....
حين تخطّيا عتبة البيت الصغير، نبح كلب من الداخل، كأنه اشتمّ رائحة ما، يعرفها، يحبّها، رائحة وفاء وانتظار طويل...
أشبه بحلم، والأشياء تغزو الذاكرة تباعا، هناك أيضا كانت كلاب البيت القروي الصغير تلاعبها وتطعمها وتجري معها في الحقل طوال اليوم إلى المغيب، في الكلاب شيء ليس في البشر، بساطة جميلة ، تبدو كائنات حكيمة وغير قابلة للتعقيد، إذا أحبت تأتي فقط ، تشمك، تلحسك، تتعلق بك كل مرّة مندهشة كأنها المرّة الأولى وفي جنباتها نبع لا يفنى من الشوق المتجدد والوفاء الجميل، وهذا العجوز شخص محبوب وبسيط أيضا، فتح الباب الخشبي الصغر وانفلتا نحو دفء البيت، تغير إيقاع الأنفاس و الأجساد، المدفأة الحجرية القديمة تجعل الليل أكثر تقبلا وحميمية، أغلق العجوز باب البيت وطلب من نوّارة أن تجلب كرسيين قرب المدفأة في حين انسلّ هو إلى المطبخ ليعدَّ كأسي قهوة يناغيان بها الآتي من دردشة الليل:
+ لديّ قهوة فريدة جدا، من أصل كوبي رفيع، متأكد أنها ستعجبك، هي أشيائي الصغيرة أقضي معظم وقتي في اختيار الأشياء بعناية لم يعد أمامي الشيء الكثير لأنشغل به...
تتجول نوّارة في بهو البيت ببطء، كل شيء من الخشب الأسود الداكن، إطارات الصور، بعض منحوتات صغيرة، طاولتان من صنع يدوي رفيع، ستائر البيت غامقة وتضفي جوا من الكآبة الداكنة على الغرف، لكنها كآبة بسيطة لا تجنح سوى نحو شيء من الألفة والهدوء، يبدو إيقاع البيت متناغما مع إيقاع العم محمود، رويدا رويدا تبدت صور قديمة على مكتب صغير، صور الشباب، مع مجموعة من شخصيات المدينة الشهيرة، صور للصيد والبحر والكورنيش، صورة عائلية كبيرة تضم أسرته، طفلة في السابعة تقريبا وشابان جميلان أقل منها سنا، امرأة أنيقة تبتسم في هدوء، حين حملت الصورة بين يديها دخل العجوز حاملا كوبين نحو الصالة وأخبرها:
+ تلك صورة من الثمانينات، كنا في رحلة أسبوعية إلى البحر، مضى وقت طويل عليها الآن، بدأت تفقد ألوانها وذاكرتها ..
كانت نبرة الأسى والانكسار بادية في كلمات هاربة من شفتي العجوز، كأنه يتحدث أوجاعا باطنة تحت طبقات من الكلس والنسيان...
حين نصل مرافئ العمر الأخيرة، يكون لنا الوقت اللازم والكافي لنعيد ألبوم الشواطئ والمراسي واحدا واحدا، فنجتر أيامنا في هدوء الرهبان بعيدا عن كل انفعال أو تحمس، العمر قطار نهايته الوقوف في محطة ما، قد تكون الأخيرة وقد تكون البداية، لكن المحطة الأخيرة تكون هادئة كدير مسيحي أو معبد هندوسي قديم، التراتيل الأخيرة تكون أعمق ولكن لا تخلو من مسحة حزن رقيق..
وضع أسطوانة هادئة في الغرامافون وجلسا متقابلين أمام المدفأة. تنساب النوتات وجعا قدسيا يسافر بين الرموش والأجفان إلى منحدرات الصمت المتآكل...
+ حين أتيت إلى هذه المدينة، كنت شابا في الثلاثين من العمر، كل شيء كان يغلي كالدماء ثورة وحماسا، كُنّا نحلم كثيرا وكانت المدينة تمتد كأخطبوط ينمو ببطء، جئت إلى هنا مع المد الثوري في الجامعة، بدأت صحفيا مجربا في جريدة الكتلة الوطنية، الدم كان في الشوارع كما المطر الآن، الصدمة كانت أقوى من أن تجعلك تهرب أو تنزوي، إما تموت أو تستمر في الانزلاق نحو الهاوية، كان علينا أن نعيش دون أن نتنازل عن شيء مما نريد، وهم أيضا لم يتنازلوا عن الأشياء التي أرادوا، لم أعد أخدع نفسي يا نوّارة، حين أخرج الآن إلى الشارع أنسف كل وهم كنا بنيناه ذات حلم غريق في تفاصيل اليوتوبيا، المد الجامعي كان مفترسا لكن الداخلية أيضا كانت متوحشة جدا، استطعت أن أحتفظ بهذا البيت وكونت أسرة ثم حزمت أحلامي في رزمة خبأتها في مكان لا أذكره، الآن أخرج إلى الكورنيش لأرى البحر، أحسّ أنه إله مسجون بين ضفتين حقيرتينْ...
كان العجوز ينسكب بروّية وهدوء كأنّه كان ينتظر نوّارة في الشارع خصيصا كي يحكي لها عن حرائق الزمن الملتهب، تكومت تحت بطانية مدّها بها وأمسكت كوب قهوة مزخرف بيديها ثم استرخت أمام دفء النار والكلمات المرتخية على زند الذاكرة...
+ في أحداث 1981 كنت مكلفا بتغطية الأحداث، رأيت بعيني دموعا ودما غزيرا كشلالات منهمرة، كان الرصاص الحي يثقب الأجساد الفتية الحالمة، ويمرّ الدّوي عبر أذن خارجا من الأخرى، أدركت ساعتها أننا نحفر في صخرة تنمو أطرافها أكثر، كلما كسرنا جزء نمت أجزاء، أذكر طفلة صغيرة هاربة حافية القدمين وثوبها ممزق على الصدر، لم أحصد من تاريخ مهنتي غير الألم يا ابنتي فتزوجت وأنجبت أطفالا ثم حنّطتُ أحلامي..
ينسكب وينسكب، خلف تلك التشققات والأخاديد المنقوشة آلالام يسوعية لا تحتملها اللغة، وحده البيانو المنبعث من مدفأة البيت، الخارج نوتات من الصدر يساير إيقاع التاريخ الأسود، هي لم تكن تقول شيئا، وحده العجوز كان يحكي ولا يشرب القهوة، أحسّت باطمئنان هناك، في تكومها اللذيذ خذر وانتشاءة قصوى لا يمنحها إلا هكذا ليل مع رجل يريد التخلص من هزائمه، الموت، المهنة التي نخرت هيكله، الزوجة التي رحلت تاركة أطلاله تتهاوى، ثم الضربة القاضية، الأولاد الذين رحلوا تباعا كأسراب الحلم ولم يعودوا ولن يعودوا...
قال لن يعودوا في حيرة وتضاؤل، كأنه يتوسّل نوّارة أن تبقى معه وتكون ابنته أيضا، حين انكمش وصمت بدا أن البهو الكبير يتنهّدُ بعد كل ما سمع، وبدا أن ألسنة اللهب الصغيرة تجاوب مآساته وهي تتطاول قبل الخمود..
قام العجوز وأضاف قطعا خشبية كبيرة، وقال:
+ الليل طويل يا نوّارة ، إن أحسست بالجوع قومي إلى المطبخ أعدّي لنفسك شيئا، أنا لا أشعر بالجوع، إن تعبت فالغرفة المقابلة فيها الأغطية والسرير، نامي كأنك في بيتك..
بيتي؟ ...أحست نوّارة برغبة في الانهمار ،قبل ألف عام كان أب طيب لا ينام قبل أن تتغطى في ليال المطر الذي يوقع أغانيه على سقف البيت القزديري الصغير، هنا يعود بها الشجن إلى تلك الأشياء التي تجعل الدموع شيئا غير قادر على التعبير، العم محمود رجل منكسر، لكن في قلبه شساعة هذه المدينة، من اليوم الذي عوّموهُ في بركة الدم هناك في شوارع المدينة الكبرى، مذ ذاك وهو يقبّل الأشياء و الأزهار ويبحث عن طهارة روحه المتعكّلة في جلطات النجيع الخاتر، ليتها تستطيع البكاء على زنديه الضعيفتين أو الانغمار في معطفه الأزرق الدافئ، لكنه لا يعرف عنها شيئا، قاده إليها انزواء الليل و هسهسة الماء الغامر لا شيء غير ذلك، ولم يسألها عن شيء، يعرف أن انكسارها أعمق، انكسارها متجدد في كل لحظة وثانية، وهو لا يُعدمُ حسّ الإنسان المتأني والحكيم، فلْترفَل في هدوئها لن يوقظ الجراح ثانية، أو ليكن ذاك الذي يوقظها هو الذي تختاره هي ليطفئها أيضا...
+ لا بأس يا نوّراة لا أزيدك همومي، لكن حياتي بالرغم من ذلك عرفت لحظات إشراق متوهّج، هؤلاء الأولاد أصبحوا رجالا، وابنتي تزوجت ، صحيح أنها تزوجت دون أن تخبر أحدا، لكنها أصبحت امرأة ناضجة، ويبدو أنها حصلت على أبناء طيبين، ذات مرة زارتني فرأيتهم..
كان يحاول أن يُداري صدعا عميقا في القلب، شرخا هائلا أو سلسلة من الفوالق الكبيرة في الشعور والعاطفة، بكت نوّارة في العمق، بين عينيها والدمع مسافة متحجرة عبر سنين، لكن في منعطفات الباطن أنهار وجداول من الدموع، كنت تنزف وهي تتنشق أحزان الكهل الذي يتحدث، هو يبتسم إيهاما بشيء لا يمكن مداراته، انحاءات عينين تنعكسان في كوب القهوة، عينان تبعثان بريقا خاطفا يقول كل شيء في لحظة ثم يخفت خلسة فاتحا مجالات اللغة للكذب الجميل...
كيف؟ كيف وكيف وكيف تنتقم الحياة هكذا من الكائنات الطيبة؟ ولما ومتى وأين كان أمثالنا عرضة لتخطيط الجبابرة الذين يصنعون المصائر، أحيانا يسأل الناس أنفسهم، أنحن سيئون إلى هذا الحد لنموت بهذا البطء؟ أيعقل أن تشظياتنا الداخلية هي الكون، هي الوجود الحقيقي وأن كل سويعاتنا الجذلى انخطافات وبهتان لا غير؟ من أين تنمو الفطريات السامة في معاطفنا وقلوبنا؟ من أين تأتي العلقات النهمة وتخترق الجلد لتظل هناك، تمتص وتمتص إلى أن تتركنا أوعية جوفاء في مهب الوقت؟. محمود أو عمّي محمود ليس سوى رجل عجوز يحبّ البحر والكتابة عن أحزان الناس وآلالامهم، فكيف مزقوا أحلامه بلا شفقة، وكيف شرّدته الدنيا في دهاليزها المظلمة، لا زوجة يموتان معا ولا أبناء يضمدون جسده في كفن الرحيل...كم أنت قاس أيها الزمن، ليتك تحلو ولكن لا وقت يبقى حين تأتي الأشياء أخيرا، التوقيت أهمّ شيء في الحياة، إن حصل أن رماك الزمن في مكان ما وبتوقيت سيء فلا شيء يعيدك إلى نقطة البداية مهما جدّفت، الأشياء تحدث فقط، وهي تحدث مرة واحدة، بل إما أن تحدث في لحظة أو لا تحدث أبدا ، مهما حاولنا تدارك الأشياء تنبعث طاقة معاكسة لمسارات البهجة لتقول لنا: الوقت متأخر..وعمّي محمود مثل نوّارة تأخّرا كثيرا فمرّ القطارُ سريعاً...
عمّي محمود ينتظر الموت في هدوء رجل المعابد والأديرة، البيت والمعاطف والبحر و القهوة والكلب والغرامافون والقرميد الأحمر و أنا. ماذا قد نكون بالنسبة لإنسان يحتضر في سكينة إلهية تكللها العتمة والبرودة؟
ألست سوى مارة من الشارع أرادت أن تستمع إلى رجل ينتهي رمادا على مدخنة المدينة السوداء؟
آه يا عمّي محمود لو تعلم كم ندبة في هذا الجسد، آه لو تدري كم خرم في الذاكرة وكم دمعة في المحاجر لن تغادر، وكم ليلة و مساء وشتاء وحنين وألم وتضرع وبكاءْ...ليتنا لم نلتق أيها العجوز، ليت صانعي المصائر لم يجودوا عليّ بك هذه الليلة، كنت سأسير إلى مخفر الشرطة لأبيت واقفة أناجي الجدار المُندّي ماء وبولا دون أن تمتد مطرقة الماضي لتدق مسمار الصحوة في قلبي، لماذا أتيت هذه الليلة أيها الطيّب؟، أتراك تريد قول شيء قبل أن تغادر المدينة..ومن أنا لتقول لي؟ من أنا لتنسكب بين يدي، وهل تسمعني المدينة؟ إنها لا تحبني أيضا، نحن منبوذان منها من اليوم الذي سلمت نفسها ورمتنا إلى الهامش..


كانت نوّراة تنام تحت غطاء دافئ في غرفة ابنته ربّما، الليل طويل، كانا متعبين ، لم ترد أن تحكي له عن شيء من ماضيها الجميل وحاضرها القاتل ، حاضرها الذي يقودها نحو عالم الرّفات المُسَجّى وحرائق قادمة لن يخمدها إلا الموت، وهو كان يعلم أن خلف مسالك الليل عُتْمَةٌ أحزان لو بدأ انسيابها سينتهي بانهيار للأوصال والعوالم ...
في هذه الغرفة المنزوية من البيت، عيناها مفتوحتان على ضوء قادم من الشارع، عبر الزجاج الملون الداكن البني يميل الضوء على جزء من شراشف السرير، كانت نوارة ترقبه وتحدث نفسها: مالذي أفعلهُ هنا؟...
حين نامت كانت أطياف طويلة تهاجمها بين ممر من أشجار الكاليبتوس، الوسادة ناعمة لكن أيديهم كانت خشنة، أفغمت الحشائش فمها وهي تصرخ في الطين، المطر كان يهمي بلا رحمة ولا شفقة، أبوها بعيد جدا، لازال الحقلُ بعيدا، بعيداً والصراخُ في مهبّ الرّذاذ الخفيف، كانوا ثلاثة كلاب وهي فتية كعود النّوار، صرخت، خمشت، بكت، توسّلتْ لكنهم مزقوا أحشاءها بسادية آلهة لا ترحم، اخترقوها كطعنات نجلاء لا تبقي من الأحشاء غير البقايا المتناثرة...
تتقلبُ فوق الفراش الناعم، بيت العجوز جميل والأغطية ساخنة، وفي الخارج كان المطر يعانق الضوء في رومانسية الشتاء المهاجم، الضوء المنسكب على طرف السرير يخترق العينين، كانت تبكي، تصرخ، تعوي، تتلوّى ثم خمدت، بقيت في جانب جذع الشجرة الكبيرة ساعتين أو أكثر، حين أتى الأب صرخ: لا، لا ، لا وهربْ...
تركها هناك مُلقاةً، لم يحملها حتّى، ومرّت أيامٌ و أيامٌ وهي غريبة في البيت، ينظرون إليها بأنصاف الأحداق، والكل صامت، تأكل وتنام وتبكي، إلى أن فتحت دولاب الملابس وهربت فجرا مع شاحنة كبيرة اعترضتها في الطريق، من هناك ابتدأت فصول الحكاية ذات فجر موغل في البرد والظلام الدامس..
تهجم الصور شريطا من الحرائق على العقل والذاكرة، والعجوز أيكون نائما؟
حينَ انسلّت خيوطُ الفجر الأولى، قامت نوّارة أولا، تعوّدت أن تقابل غبش الصباح وهي متسللة من سرير أحدهم كي لا ترى وجهه البشع أو كي تلملم قليلا من كرامتها المفترسة، إلى المطبخ سارت على اقدام أصابعها، حضرت الفطور وكأس قهوة، ثم تسلّلت...
كان الشارعُ هادئا يجمع رفاته بعد ليلة صاخبة من المطر والرعد، وكانت نوّارة تجرُّ ساقيها في الكورنيش ذاته وهي تلوك سيجارة الصباحِ المؤلمة...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة