الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلى الكاتب المصرى

سهير المصادفة

2012 / 9 / 6
الادب والفن


كنت أرددُ لنفسى وأنا أشيع جثمانه: سأحاولُ يا سيدى.. سأحاولُ.
لم ألتقه مرةً واحدةً طوال حياتى، ولم أسع لذلكَ أبداً على الرغم من فتح جلساته للجميع ودعوة بعض الأصدقاء لى أكثر من مرةٍ، ربما.. لكى أدع الأساطير في جلالِ بريقها وهيبتها وغموضها.
أتركُ الجميع خلف جنازته المهيبة، وأهرب إلى مِصرَ القديمةِ، أدور بدونِ هدفٍ في الحوارى التى رسمها بمحبةٍ فرسمتْ له طريقاً نحو النور، أبتسمُ وأنا أتطلعُ في وجوه شخوصه التى منحها الخلود فرفعته إلى مرتبة "الكاتب المصرى"، الكثير منها لا يعرف مَنْ هو "نوبل"؟ وما هى جائزته؟ ولكن الجميع هنا يعرفون مَنْ هو "نجيب محفوظ" وأين يقع زقاق مدقه وبين القصرين والسكرية وأيّاً من آبائهم كان سى "السيد عبد الجواد" ومَنْ مِن أمهاتهم تشبه كثيراً "أمينة".. يتحدثون دونما انقطاع عن روحه التى تتجول الآن حرةً في الأماكن التى عشقها، أصلُ إلى مقهى الفيشاوى وأجلسُ في ركنٍ منزوٍ وأتساءل: هل حقاً كان يجلس هنا؟ ويستنشقُ هواءَ يومٍ حارٍ كهذا؟!
إذاً لماذا لا ألمحه الآنَ لنتعارفَ؟ أنا التى انتظرتُ كثيراً أن ألتقى به في ظروفٍ بعيدةٍ عن التهافت على النجوم، ورفضتُ أن أحطَّ على الإطار الذى ظلّ يحاولُ الهروبَ منه منذ حصوله على جائزة نوبل.
لا شىء يشبه ذلك اليوم، فالناس الذين توَّجوه كاتباً لهم يصيحون في وجوه بعضهم البعض بفخرٍ:
ــ أنا رأيته هنا منذ عدة أشهر.
ــ تقصد منذ عدّة سنين، قبل أن يُطعنَ في رقبته.
لا شىء يعلو في الكلام على اسمه، يختلفون على بداياتِ رواياته ونهاياتها ويتحدثون عن أبطال أفلامه وعن أصدقائه ومريديه ثم يضحكون ويصرخون ويتنابذون بالألقاب ويلقون ياى الشيشة بعنفٍ وفجأةً ينهضون وهم يبحثون بعيونٍ زائغةٍ عَمَّنْ سيكتبهم بعده.
لا شىء يشبه ذلك الهواء الثقيل الفرح الخانق المنتصر والمكلل بشجنِ وداع شعبٍ لكاتبٍ استطاع أن يحفرَ لنفسه مكانةً ومكاناً في قلوبٍ تخفقُ بمحبةِ الفن والإبداع على الرغم من ظروفها التعليمية والدينية والاقتصادية المتردية.
ذات مساءٍ أخبرنى أحدُ أصدقائه أنه حكى للأستاذ عن رواية "لهو الأبالسة"، ثم قال للحضور: وعلى الرغم من أن الأستاذ لم يعد يسمع جيداً ولم يعد يستطيع القراءة كسابق عهده إلا أنه حريصٌ على متابعة المشهد الإبداعى أولاً بأول من خلال مطالعات أصدقائه، كدت أموتُ خجلاً لأننا كنا في أمس الحاجة ليستكملَ لنا سِفر "أحلامه"، ولكننى في الوقت نفسه فرحت فلربما في مكانٍ ما وزمانٍ ما غارقٍ في لونٍ أبيض سرمدى سيدور حوار ما بيننا حول أسئلتى وحول الرواية.
أترك مقهى الفيشاوى وأصل إلى النيل، أستند إلى سوره تماماً بالقرب من بيت عميد الرواية العربية.. هنا تحديداً ستكون نهاية رحلة وداعى الخاص له.. هنا أمام النهر الذى أحبَه كلَّ هذا الحب سأتركه يمضى في سلامٍ كما طائر أسطورى حطَّ ما يقاربُ قرناً من الزمان على أرضٍ قديمةٍ وطيبةٍ ثم قرر التحليق مخلفاً وراءه كل آثاره الأدبية الخالدة.
مدينةٌ لكَ أنا يا سيدى، والسرد العربى مدينٌ لكَ، وأظن أن كلَّ الكُتّابِ مدينون لكَ حتى مَنْ تطاولوا عليكَ أيها المتواضع فوق قمته.. الطيب في مملكته.. المطمئن لحظّه في الأرضِ وفى السماء.
أقفُ طويلاً أمام النهر الخاشع وأكادُ أسمع صوتاً محملاً بأصداءٍ منذ آلاف السنين:
ـــ أنا لم ألوثْ ماءَ النيل.. لم ألوثْ مداد قلمى.. لم أظلم أحداً.. لم أهملْ عملاً.. لم أدعِ امتلاك اليقين وحدى.. وأنا خفيفٌ كما الأولياء والقديسين حللتُ، وخفيفٌ عبرتُ، وها أنا خفيفٌ أطير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل