الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ساعات مع خوسيه ساراماغو

باسم النبريص

2012 / 9 / 7
الادب والفن


كان شتاء عام 2002 قارساً بعض الشيء. وكان السفر من خان يونس إلى غزة, مغامرة غير محسوبة العواقب. والأفضل ألا يرتكبها المرء إلا للضرورة القصوى. لمَ؟ لأنّ حاجز "أبو هولي", الفاصل بين المدينتين, أمرٌ فوق الاحتمال. فإن ساء حظكّ, وكان مزاج جنود الاحتلال سيئاً _ يمكنك ألا تعود لعائلتك, إلا بعد أسبوع. وعليك خلال هذا, أن تتدبّر أمر حياتك ومبيتك, عند صديق أو قريب. فإن تعذّر, ففي بيّارات البرتقال, المنتشرة حول الحاجز, ثمة متّسع على العشب والشوك وزمهرير الليالي. حالك حال الآلاف.

ومع هذا, لم يكن مفرّ.
فليس كل يوم ولا كل سنة, ولا حتى كل قرن, يزور غزة وفد من كبار أدباء العالم, كوفد البرلمان الدولي للكتّاب.

كان الوفد, قد زار رام الله وجنين المحاصرتين, واطّلع على الأوضاع, والتقى محمود درويش. ثم قرّر المجيء لغزة, لتكتمل الصورة.

وكنت تابعت, من خلال إذاعة في الضفة, أغلب نشاطاتهم. وتلك الأمسية الشعرية الحافلة, التي أُقيمت في مسرح القصبة وشارك فيها شعراء منا ومنهم.

كان الوفد يتكوّن من حاملَي نوبل للآداب: البرتغالي خوسيه سراماغو والنيجيري وولي شوينكا. ومن الروائيين: الكتلاني خوان غويتيسلو, والأمريكي راسل بانكس، والجنوب أفريقي برايتن برايتنياخ. وبي داو الشاعر الصيني, إضافة إلى الفرنسي كرستيان سالمون, والإيطالي فيتشنزو كونسولو.

استوقفني من بينهم, خوسيه سراماغو, بقصائده التي وصلتني عبر الإذاعة. وكنت قرأت له ثلاث روايات, أدهشتني وأمتعتني وعرّفتني على مجرّة روائية جديدة لفاتح عظيم.

لذا ذهبت لمقر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان, حيث كان موعدنا معهم. البعض من مثقفي القطاع, وبيننا المناضل العريق د. حيدر عبد الشافي.

دخلت القاعة الصغيرة للمركز, فإذا بها مزدحمة بممثلي الإعلام الغربي, ومعظم أعضاء الوفد, إضافة لنا بالطبع.

دخل سراماغو وجلس. شيخ طاعن في السنّ. إنما لا تعوزه الحيوية. هكذا فكّرت. وفي لحظةٍ, لا أدري كيف, انتبهت له وهو في منظر جانبي (بروفيل), فلم يسرّني المنظر.

اكتمل العدد. وقيل لممثلي وسائل الإعلام: أمامكم خمس دقائق للتصوير والأسئلة. فانهالت الفلاشات بلمعة أضوائها, وكذا الأسئلة.

كان راجي الصوراني, مدير المركز, يترجم عن الإنكليزية, التي يتحدثها الضيوف باستثناء سراماغو. وكانوا قدموا لتوّهم من زيارة ميدانية لمدينتي خان يونس: بمخيّمها الغربي ومستوطناتها على البحر, وشاهدوا بأمّ أعينهم مقدارَ الخراب الحاصل هناك على حدود التّماسّ.

سئل سراماغو:
صرّحت وأنت في جنين بالتالي: "كل ما اعتقدت أنني أملكه من معلومات عن الأوضاع في فلسطين قد تحطم، فالمعلومات والصور شيء، والواقع شيء آخر، يجب أن تضع قدمك على الأرض لتعرف حقاً ما الذي جرى هنا.. يجب قرع أجراس العالم بأسره لكي يعلم.. إن ما يحدث هنا جريمة يجب أن تتوقف.. لا توجد أفران غاز هنا، ولكن القتل لا يتم فقط من خلال أفران الغاز. هناك أشياء تم فعلها من الجانب الإسرائيلي تحمل نفس أعمال النازي في أوشفيتس. إنها أمور لا تغتفر يتعرض لها الشعب الفلسطيني." فماذا تقول الآن وأنت في قطاع غزة؟
_ الكلمات عينها, مع التأكيد على أنّ الوضع هنا كارثيّ بصورة أفظع. نظراً للكثافة السكانية وضيق المكان.

صحفية إسبانية سألته:
_ اتهمك قادة إسرائيل, من سياسيين ومثقفين, للتوّ, بأنك وقعت ضحية للدعاية الفلسطينية الرخيصة ..
قاطعها فوراً وبكل ما فيه من تهكّم عميق:
_ لئن أُتهم بالوقوع ضحية للدعاية الفلسطينية الرخيصة, لهو أحبّ إليّ من الوقوع ضحية للدعاية الإسرائيلية المرتفعة الثمن!
وأعقبها بضحكة مجلجلة ..

أنصَتّ إليه وهو يردّ بانفعال وحسم, ولاحظت استياءً خفيفاً من رفيقه الأمريكي بانكس, كونه تجاوز كل الخطوط الحمراء. ما سيعني ولادة الكثير من المتاعب.
وفجأة, برقت في الأحشاء كلمات لينورمان القديمة عن شامبليون: " لديه قوة استبصار لا تنتسب إلا للعبقرية. وطهارة في البحث عن الحقيقة. وبساطة نبيلة تعترف بالخطأ حين تكتشفه ..".

قدّرت له هذا, عالياً عالياً. فأنا أعرف جزاء من يقول تصريحات كهذه عند إسرائيل. إنه النّبذ والتّشويه والقتل المعنويّ لا أقلّ. وعلى الفور ستشتغل المطحنة!

ثم انسحب الإعلاميون في وقتهم تماماً.
وأقفل راجي الباب, فحلّ صمتٌ بعد صخب ..
وابتدأت جلستنا.

تمّ التعارف بسرعة. وشرع الضيوف في الاستماع إلينا واحداً واحداً, حسب الموقع.
كان راجي يترجم.
وكان ثمة مترجم شاب, بجوار سراماغو, يهمس له بالبرتغالية.

أوغل من سبقوني في الكلام المباشر ووصف الحال. وحين جاءني الدور, قرّرت بشكل عفويّ, أن أتكلّم في الأدب, وإن كان لا بدّ من السياسة فمن بابه أفضل.

قلت مداعباً: كان فلوبير يحسد نيتشه على هذه الجملة: "العذر الوحيد لله, أنه غير موجود". أما أنتم, فلحسن حظنا: موجودون, وبإمكاننا أن نتأكّد من ذلك عبر حواسّنا. لذا لا عذر لكم, إن لم تكونوا شهّاداً على ما يرتكب الفاشي شارون وحكومته, بحق شعبنا, من إرهاب وتنكيل!
ضحكوا جميعهم, وقهقه سراماغو.

توجّهت إليه وفي يدي نسخة من رواية "الإنجيل يرويه المسيح", قلت:
_ ثمة يا سراماغو, من اعتكف على روايتك هذه, مئات الليالي, فترجمها لنا, وهو في أسوأ حال.
إنه صديقنا الشاعر العراقي المحاصر سهيل نجم الذي أهداني كتابكم هذا أثناء زيارتي الأخيرة لبغداد. وها أنا أهديه ثانيةً لكم.
ضجّت القاعة بالتصفيق المتواصل لسهيل, وتعاطفاً مع الشعب العراقي المحاصر.. وشكرني سراماغو على "هذه الهدية القيّمة" .. التي, كما يبدو, كانت أول رواية مترجمة للعربية, تصل إلى يديه.

بعد ذلك, تأمّل سراماغو الكتاب, وسألني عن عنوان سهيل وألحف, فاحترت, وقلت: راسله على عنوان وزارة الإعلام ببغداد. وحتماً سيردّ عليك.
كان جواباً لم يقنعني شخصياً. لكنه أحسن من لا شيء.

ثم تذكّرت تاريخ ميلاد الرجل (1922), فانتهزتها فرصة, لأتمنّى له طول العمر والصّحة, خاصة أنّ المناسبة عزيزة: بلوغه الثمانين. فصفقوا ثانية, وشعرت بالحميمية والألفة تنشران عبقهما في القاعة.. وتزيلان ما علق بها من جو رسمي أصرّ عليه زملائي السابقون, ربما عن تهيّب مفهومةٌ دوافعه.

لكن سراماغو المتحمس كشابّ لم يفوّتها. قال:
في الحقيقة أنا من مواليد 26, وعليه: بلغت الآن السادسة والسبعين فقط لا غير! فلا داعي أن "تكبّرني" أربع سنوات!
وضجّت القاعة بالضحك .. حتى الدكتور حيدر الله يرحمه.
قلت مشاكساً: أنا استقيت التاريخ مما هو مكتوب على أغلفة كتبك. فإن كان ثمة خطأ, فهو من قبَل ناشريك الأصليين, وعليك أن تراجعهم!
ضحكٌ متواصل.. وجو رائع.. وأيام عبرت كحلم .. ومات الروائي العظيم. فيا لها من أحداث, ويا لها من مصائر.
المجد لك أيها الأصلب في الحق.
اليساري العتيق.
والروائي الحداثي الأبرز.
يا عمّ, يا عمنا سراماغو !


ملاحظة جانبية: عدت مساء ذلك الثلاثاء من أواخر آذار/مارس, ومكثت حتى الفجر على الحاجز المشئوم, إلى أن سمح لنا جندي من الفلاشا, بالعبور لبيوتنا.
مئات من السيارات والشاحنات, والألوف يتدافعون بالمناكب وقد عيل صبرهم وقرصهم البرد. منهم من ركب ظهر شاحنة تنقل البقر والعجول, ومنهم من ركب ظهر حمار. أما أنا فركبت قدميّ, وأحسِن بهما من وسيلة توصيل محترمة, حتى لو كانت بطيئة متثاقلة بسبب السهر والجوع والإعياء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي