الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نوماً هادئاً يا عزيزي خوان!

باسم النبريص

2012 / 9 / 11
الادب والفن


إن كانَ من أديبٍ عالميّ, مدينةٌ له فلسطين بالكثير, فهو خوان غويتيسولو. هذا الإسباني الكتالاني المتمرّد, زارها ثلاث مرات: مرة في عام 88, لإعداد فيلم عن الانتفاضة. ومرة في عام 95, موفداً من أكبر صحف بلده: الباييس, ليكتب سلسلة تقارير بعنوان "غزة – أريحا: لا حرب ولا سلم". فتنبّأ بالخراب الكبير القادم (في وقتٍ كان أغلب ساسة فلسطين وأغلب مثقفيها, يعيشون وهمَ السلام). والثالثة مع وفد البرلمان الدولي للكتّاب, المشار إليه سابقاً.

على أنّ علاقة خوان بفلسطين, أقدم من هذه التواريخ. لقد بدأت منذ الستينات. بما هي قضية عادلة, ضمن قضايا عادلة أخرى, على امتداد الأرض.

ففي عام 68 قابل العديد من قادة منظمة التحرير في لبنان, ونشر عنهم تقريراً كاملاً في الأسبوعية الفرنسية الشهيرة "لونوفيل أوبسرفاتور".

أما مواقفه من الثورة الجزائرية, ومما حدث في البوسنة والهرسك, وغير ذلك من القضايا العادلة, فغنيةٌ عن التعريف.

هذا الروائي _ الذي عرفته العربيّةُ بفضل المترجم العراقي كاظم جهاد, والذي عرفه عمومُ القرّاء العرب أخيراً, حين رفضَ جائزة الطاغية معمر القذافي _ هو الذي زارنا قبل عشر سنوات, في أوج الانتفاضة الثانية, أواخر مارس آذار عام 2002.

جاء إلى غزة, وهو يعرفها, وله ذكريات وصداقات مع بعض بسطائها وصيّاديها وأصحاب المقاهي على بحرها المحاصر. بخلاف زملائه في الوفد الذين كانت زيارتهم للمدينة هي الأولى.

حين ذهبت للقائه, استحضرتْ ذاكرتي مختاراته الروائية التي صدرت عن دار توبقال. بعنوان "على وتيرة النوارس", وكتاب آخر: "الأربعينية". إضافة إلى ما كتبه هو وما كُتب عنه في مجلة الكرمل (وهو كثير).

لاحظت هدوءه الوطيد. ملامحه الشرق أوسطية. نظراته السابرة لنا, ونحن نُقدّم أنفسنا. ولاحظت أيضاً ندرة كلامه أثناء الجلسة. لعلّه كان أكثرهم رغبةً في السماع. تكلّمت معه عن بعض ما استوقفني في نتاجه الأدبي والرحَلِي والسياسي.
تكلّمت بفصحى مبسّطة, فابتسم, بعد فترة, بحرج:
_ لا أفهمك جيداً. أنا أحكي الدارجة المغربية, هل يمكن ..؟
تمشّينا في القاعة, وأخذ يتكلم بها.
شعرت بالحرج, بعد فترة, أنا أيضاً. لم أفهم عليه ولا كلمة. كأنها لوغاريتمات.

جاء إلياس صنبر, كنجدة (أم هي ليلى شهيد؟) وترجم لي وله, بقدر ما سمحَ مزاجُ تلك اللحظة, حيث كان الجميع يتأهبون للمغادرة بعد انتهاء الجلسة.

قلت: آمل أن نقرأ ما ستكتب عن الزيارة, قريباً.
ردّ: سأكتب بالتأكيد. جئنا من أجل هذا. وليتنا نستطيع أكثر.
قلت: لا نريد أكثر من شهاداتكم التي نثق أنها ستكون موضوعية وأمينة.
قال: هل ستحضر جلسة الفندق الموسّعة مع المثقفين, بعد قليل؟
قلت: للأسف, سألحق قبل أن يقفلوا الحاجز.
قال: مررنا عليه. شيء فوق الخيال.
ضحكت: شارون خلاّق ولا أعظم فنان من هذه الناحية.
لقد استطاع أن يمرمر حياتنا بهذا الاختراع الجهنمي اليومي.
ابتسم خوان بمرارة.
قالت ليلى شهيد (متأكّد الآن أنها ليلى شهيد):
_ زرنا دير البلح وخان يونس ورفح, وهم رأوا على الطبيعة.
قلت: لم تبق "طبيعة" يا ليلى! "البلدوزر"* وجنوده أبادوا كل شيء: الطبيعة والعمران .. والقادم أخطر.
ترجمت ليلى لخوان بفرنسيتها الطليقة.
هزّ الرجل السبعيني رأسه, أَسفاً. لمحت في ملامحه ما يُشبه نفحة انكسار.
نبرتُ برعونة: لا عليك! الصراع طويل ومعقّد. لكننا هنا, فوق أرضنا. مهما يكن!
ثم انتبهت لنفسي فخجلت. هل سأنظّر على ضيفي؟ قلّة لباقة!

غيّرت الموضوع. قلت بأمانة:
تدري؟ مقالك الكبير عن جان جينيه بالكرمل, من أفتن ما قرأت. صدّقني لو قلت إني قرأته مرات ومرات.
قال: أنا سعيد أنه وصلك.
قلت: أنت وبّختَ إسبانيا, على نحوٍ أثار غيرتي. متى ستتحرر فلسطين كي نستطيع توبيخها؟
قبل التحرير, سنبدو خونة. بعده, يمكن مسكها بورقة ورمْيها من الشبّاك بكل هدوء!
ضحكَ ضحكته الأولى, وحضنني.

أخيراً حانت اللحظة.
بدأ الضيوف بنزول السلّم, وتوقفوا على رصيف الشارع.
ودّعته, وحضنته, كما فعلت مع سراماغو وشوينكا والبقية. داهمتني لسعات ريح قوية, فانكمشت على حالي, وأسرعت .. مرعوباً بفكرة أنّ الليل لَيَّلَ عليّ, وعليّ أن ألحق.

ركبت سيارة الأجرة, وبقينا ننتظر ساعة حتى جاء ثلاثة آخرون, فلم يجد السائق بداً من التحرّك.
إنه أول الليل. ومع هذا, غزة خالية. قفراء. بل القطاع كله مقفر.

اشتدّ البرد, فشعرت بعصيف البحر في ظهري. أقفلت النافذة. وفي الإسفلت الأفعواني الطويل المحاذي للبحر, رحت أسترجع تفاصيل ما حصل في هذا الثلثاء الاستثنائي .. جوّ تلك الجلسة التاريخية التي لا أظنّها ستتكرّر. المرح والدعابات التي لا بد منها لتخفّ الوطأة.
كل هذا سيبلوه الزمن.
كل هذا سيضيع ما لم يُكتب.

كان الإسفلت أمامنا مظلماً خاوياً.
كشّافات مستوطناتهم الداعرة بين الكثبان, على يسارنا.
وعلى اليمين: يربض البحر, كوحش أسطوري هائل في عماء هذا الليل.
أنظر إلى الركاب, فأجدهم غفوا وهوّموا. لا بدّ أنهم عمال. السائق يدخّن, ويستمع إلى آخر الأخبار.
"مقتل ثلاثة في جباليا بصاروخ أباتشي".
_ الله يستر. أُعقّب.
يعتصم السائق بصمته.
أنظر إلى يميني .. مساحة قاحلة من الوشيش والعتمة.
بعد قليل, نصل الحاجز.

أفكّر فيهم.
هم الآن سيتعشّون ويرتاحون قليلاً, ثم ستكون لهم جلسة موسّعة في بهو الفندق, مع مثقفي المدينة.
ليتني بينهم!
ليت لي أحد بغزة. كنت نمت عنده الليلة, ولم أفوّت فرصة بضع ساعات ثمينة, مع هؤلاء الشوامخ.

يستغرقني صخب الحاجز. شابان يتعاركان على علبة كولا. صبيّة ترضع وليدها على جانب الطريق. وتحرص على تغطية ثديها عن العيون المتلصصة.
"مَن يرى في هذا الكحل؟".
أجلس صحبة عمال آخرين, حول نار عشبية مرتجلة, وأدخّن سيكارة الحاجز الأولى, و .. وأشتاق إلى خوان.

أي والله.
لكأنّ في دم الرجل وملامحه, بعضاً من دمنا وملامحنا.

أفكّر: جباليا مولّعة, فمن يضمن ألا تولّع غزة؟
أطرد الفكرة بعنف وكأنها شيء ماديّ. وأتمنى لهم جميعاً ليلة هادئة.
لهم جميعاً.
ولهذا الكتالاني المتمرّد.
هذا الضمير الكونيّ, وقد قُيّضَ لي أن أراه الليلة يمشي على قدمين.

نوماً هادئاً يا عزيزي خوان!


* "البلدوزر" هو كنية أرئيل شارون, عند الإسرائيليين والفلسطينيين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى