الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مؤانسة على النقد المسرحي .. السيماتوراغيا*

ميرغنى ابشر

2012 / 9 / 11
الادب والفن


بدءاً لا يمكنني توصيف نفسي بالناقد المسرحي، فهو ارتداء يضيق بمساهماتٍ أُخَر تحاول المشاركة في ترتيب الوجود الانسانى جماليا. كما وأن التّرحُّل بين حقول الإنسانيات شيءٌ مغرٍ، مارسته هذه الحقول على تنوعها باستلافاتها الاصطلاحية والمفاهيمية من مجاوراتها، وعلى وجه الخصوص الفلسفة، الحقل العمدة في المعرفة الإنسانية، التي يدين له النقد الادبى والمسرحي بأكاديميته المبجلة. ولما كان مقام المقال مؤانسة على النقد المسرحي، الذي نود تحقيبه على أصولٍ منشئةٍ في جزيرة سيماتوراغيا، معرض المسرح الاثينى الأول الذي ابتدر عروضه منذ القرن 17ق.م بمشاهد يؤديها المختارون لطقس التكريس بغرض اطلاعهم على معارف سرية مطوية عن العامة، نحو مسرحيات ديونيسيوس وأبطالها الميناديس - الكاهنات – التي تسوق أبطالها إلى بلوغ الشدة النفسية بغرض مشاهدة العالم الأخر.منذئذٍ وحتى ستانسلافسكى الذي ارتحل إلى الشرق الروحي القديم، ليبدع طريقته العمدة في المسرح المعاصر، التي توحد بين العقل والوجدان من خلال فن الهاثايوجا او درب السيطرة على الجسد، يظل فن المسرح وفيا لرحمه الأول في المثولوجيا اليونانية القديمة، مع ميبرهولد الذي اعتنى بأطروحة ستانسلافسكى وطورها عبر آلياته الحية (Biomechanics )، وصولا إلى الرسام انتونان ارتو، الانقلابي، الذي احتفظ بصورة الروحية المشرقية في مسرحه الخلاق، مقدسا تلقائية الأداء الذي جسد أعمق تمظهراته وصِيَّهُ بيتر بروك في الأشكال الحقيقية، وليس انتهاء بجروتوفسكى الذي حرر المسرح من لاهوتيته الموغلة ولكنه ظل متكئا على الطقسي القديم، بإبداعه للمسرح الفقير مُفسِخاً كل ما لحق بالعرض المسرحي من أطياف الفنون الأخرى عائدا بالمسرح لأصالته السيماتوراغية.

وبموضعة النقد المسرحي في تماس او حتى تخلُّل مع النص/العرض المسرحي، يبقى عليه ان يكون وفيا لعائله، ووفقا لهذه الاطلاقية الموضوعية يعد النقد المسرحي محضرة إبداعية لغور النص والعرض المسرحي، وبتوصيفه عرضا ثالثاً لا يمكنه الانفلات من أن يكون قراءة إبداعية للعرض المسرحي، خالقا مشهدا مغايرا يستمد مادة حياته وحقيقته النسبية من مادة النص/العرض فلا يمكنه التنكر لأصوله، بتوسطه الاصطلاحي بين العرض وجمهرة الناس والمهتمين، متسيجاً بأكاديمية مبجلة، متعاليا في أحايين كثر، على الفعل المسرحي. وفى هذا المنحى ينبغي للنقد المسرحي أن يناقش أدوات وطرائق الناقد المسرحي، للوقوف على تزايين وتزاييف هذه الأدوات والطرائق، وعلى رأسها الادعائية والأكاديمية الزائفة التي تنهض عليها رؤى بعض النقاد المسرحيين، هذه الادعائية تسيج الناقد المسرحي سادناً وقيماً على العملية المسرحية، بوصفه العارف المصقع بالأداء المسرحي، مغيبا التشاركية بين المؤدى والجمهور، أو حتى بين المؤدى وتمثله للنص، محرِّماً التعاطي مع العرض المسرحي إلا على حوكرةٍ بعين، تتهيب مشاعية تخصصها الذي تقتات منه، الشيء الذي سيفقدها تنطعها الغبائى البرجوازي الصغير، لأن الخطاب النقدي الحديث يناهض القراءة التلقائية السطحية ولكن تكمن ورطته في مشاركته أرضها بإصراره على أكاديميته المبجلة، وتعلقه (الكنسي) بمصطلحات ومناهيج تشكل اختزالا لما ينطوي عليه الفعل المسرحي، من حقيقة نسبية تتعالى على هذا الحشر الاجرائى المبجل لمناهيج ومدرسية معوِّليه، المستلفة أصلاً من حقولِ جوار. كل هذا ليكسب لنفسه مصداقية ببَرقَعَة كينونته باصطلاحية تُغَوِّر مقاصد العرض المسرحي بالاحتجاب وراء اصطلاح يَبتُر ويُبعِّض النص/العرض المسرحي. ان الانحشار خلف مضامين المصطلح يوقعنا في القراءة السطحية للعمل الابداعى بمستوياته المتعددة، فولع بعض المبتهجين الممسكين اعتواراً بمعاول النقد المدرسي بتسئيم النص /العرض المسرحي بتجريبي، واقعي، فقير، رمزي وتاريخي أو بوصفه بالتراجيدي، ميلو دراما والكوميدي، يتغافلون بممارسة هذه المبضعية عن حقيقة ان العرض مشهد حياة، له واقعيته النسبية الخاصة التي اختلقها المؤلف ومخرج العرض. هذه اللوحة لا يمكن ان نقبض على معناها وقصدياتها عبر إخضاعها لتجزئيات منهجٍ بعين، كما ليس بالضرورة ان يكون الإبداع المسرحي انعكاسا لواقعٍ انسانيٍِّ محدد بكل أنساقه الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. فقد يتجه المسرح نحو تخوم سيريالية، أو نقدية لنمطية سائدة، أو ميتا دراما، مما يغيب الكثير من مباضع النقد القائمة على هكذا أرضيات، لتأتى ضرورة استيلاد مناهج نقدية جديدة، يمكن الرحيل عنها بعد حين بفعل التطور او الارتداد في لولبية جديدة .

إن أجهر القراءات النقدية للمسرح وأمضاها تأثيرًا، لم ينجزها النقد المسرحي المدرسي، بل حققتها القراءات السيماتوراغية، نحو التفسير الخلاق لمسرحية سوفوكلس (أوديب ملكا) الذى أنجزه فرويد، من غير أن يورط رؤيته للنص المسرحي في أوحال المنهجية الضيقة. ففي الوقت الذى تحكينا فيه المسرحية عن أوديب الذى يقتل أباه من دون قصد ويتزوج أمه، يقدم لنا فرويد تأويلية رمزيه ماتعة تحكينا عن رغبة أوديب في التخلص من والده الممثل للسلطة ولمنع إشباع الرغبة، وفى العودة إلى محضن الأم (عقدة اوديب)، هذه العودة التي (تمثل الخير الأعظم، ولكنه الخير المحظور) -على حد تعبير جورج زيناتي- وهى قراءة إبداعية تحتفي بسلطة الرمز، و منجز نقدي قفز به علم النفس التحليلي خطوات واسعة نحو كمالته. هذه الفسحة في القراءة السيماتوراغية أتاحت لبول ريكور، الفيلسوف الفرنسي البروتستنتي الشهير، رؤية جديدة مغايرة لعقدة اوديب إذ( يقترح ريكور تفسيراً غائياً - يموضع فيه أوديب رمزاً إنسانياً للمعرفة وتجسيداً درامياً للتوق للحقيقة - إذ أن اللاحقيقة والجهل يقودان إلى مآساة أوديب، حين ينتهي بأن يشوه نفسه(.

كما أن اتجاهات النقد المسرحي الحديث في استخدام أدوات البنيوية واللسانيات على سبيل المثال، يورطه في هلكة المجاراة، التي انتهت بالبنيوية إلى موت الفلسفة، وموت الإنسان وموت الذات الفاعلة، والألسنية التي عدت اللغة نسقاً متكاملاً من الإشارت مستقلاً تماماً عن الذين يستعملونه، ليمتحن النقد المسرحي المسحور بهكذا حقول ومباحث في أخص أدوات اشتغاله، فهل يعلن موت العرض أم يفصل اللغة عن الأداء المسرحي؟!.

يقينا يمثل النص/العرض المسرحي فعل لغة-جسد/خطاب-مبدع يغرض للقبض على متعالية جمالية، ذات حقيقة نسبية، تفرض علينا نسبيتها وتشدنا للاشتغال بها بغية إجلاء غوامضها المستترة خلف النص، أو رؤيته الإخراجية. ومن هنا لا يتمايز مسرح الفاضل سعيد عن مسرح مجدي النور أو مسرح سعد الله ونوس عن مسرح آل رحبانى أو بريخت، بأفضليات تحتفي بها الحوكرات النقدية بعيداً عن أثر هذا المسرح في الناس، وقد كتبنا في مقام آخر. أن النقد بادئة خَبِرَها البشر منذ فجر التاريخ وحالة حياة لا يكف التدافع الانسانى عن ممارستها، ولا يحتاج تعاطيه القبض على أدوات الطبابة ليتحول لحوكرة اختصاص، تمارسه زمرة عالمة تموضعت في خانة الذهنية الخارجة نحوه نحو حقول القداسة. لأن النقد المسرحي حالة اشتغال على نص أدبي في الأساس، يأخذ تمظهرات العرض والفرجة بوصفهما التجسيد الخلاق-رؤى المخرج- للنص، فأدوات العرض المسرحي لا تعدو أن تكون التفسير الخلاق لرؤية العرض لجهة ألا يكون هنالك نص مكتوب في بعض الأعمال المسرحية، فالتمكن المدرسي من معاول النقد لا يخلق بالضرورة ناقدا. لأن القدرة على القراءة هبة بالأساس تتضافر عوامل عدة في إيجادها هذا لا يعنى بالضرورة عدم توفر الأهلية المعرفية وبسطة في العلم للمتصدى لممارسة النقد المسرحي. لذا فعلى النقد المسرحي أن يتزحزح من مماحكته الصورية الشوفانية المتعالية لمجرد إضفاء لون من المصداقية والعلمية المتوهمة على أطروحته، ليكون وعياً جمالياً يعالج النص والعرض والنقد، من مداخل تلقائية (سيماتوراغية) خصبة لا يحجرها الالتفات إلى اصطلاحية مستلفة ومتغيرة ومدحوضة في حقولها الأساس، وإلا غدا نقدا سطحيا معجميا اصطفائيا، يهدف للدفاع عن مذهب مسرحي ما، أو يهتم ليدحض رؤية نقدية خلافية.

-------------------------------
* الساموتراقيا :وعى جمالي يشتغل على النص والعرض والنقد،متحصنا بفكر وثقافة (نسبيا)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با