الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


( في الأرض متسع للعيش ) قصة قصيرة بقلم نهاد عبد الستار رشيد

نهاد عبد الستار رشيد

2012 / 9 / 12
الادب والفن


في الأرض متسع للعيش

كانت لا تزال باقية على شروق الشمس ساعة أو ما يقرب من الساعة ، عندما شرع سامي بمغادرة البيت في ميلانو ، سعيا لطلب العمل في شركة النسيج الواقعة في ضواحي المدينة . جلّ ما يصبو اليه هو الحصول على مورد يساعده في تسديد نفقات الحياة المعيشية المرتفعة ، بعد أن خاب أمله في المطاعم والفنادق والمصانع التي زارها سابقا . مضى في عالم الشقاء والمرارة مثل آنية فخارية انتشرت على سطحها الصدوع ، مسحوقا بعجزه في العثور على عمل ، ووجد نفسه ضائعا بلا وطن ولا قيمة ولا أمل .
كانت تجتاح نفسه آنذاك موجة من الحزن والكآبة ، وكانت تمر به ساعات طوال لا يحس فيها الا بثقل الحياة وهمومها ، وأصبح منطويا على نفسه ، يتنفس في ضيق كأنه جواد متعب . شعر بالدوار يعصف برأسه ، فدخل متنزها على مشارف المدينة . جلس على مصطبة خشبية . ما ان انتهى من تناول فطوره حتى بدأت تتراءى أمام عينيه بعض مشاهد قصف الطائرات الأمريكية للمناطق السكنية في الحلة دون أدنى شفقة أو رحمة ودون وازع من ضمير ، والتي كلما حاول ابعادها عن مخيلته عادت من جديد ، فرأى بعين الخيال بيته : صور البيت الذي أصبح أنقاضا من كتل الأسمنت فوق أفراد عائلته .
نهض ، بعد أن خنقته العبرات ، وراح يواصل مسيرته . أخذ يتذوق سكون الريف ، ويتأمل ذلك الفضاء الواسع الجميل . تطلع الى السماء الممتدة فوقه مثل بحر أزرق لا يشوبها أيما سحاب ، فشرع يتحسس ابتسامة ذلك الربيع الطلق الضاحك ، وانتعشت نفسه بما كان في الهواء من بهجة فائقة . وفيما كان يجيل الطرف فيما حوله ، شاهد في اسفلت الشارع ، المجاور للرصيف ، فرجة صغيرة ، بالكاد تراها الأعين ، برزت منها ساق نبتة الثالوث الألبية ، لتنتهي في قمتها بزهرة البنفسج الجميلة . وقف يتأملها باعجاب ، وقال في نفسه مندهشا : " يا لقوة الأرادة وانتصار الحياة ! كيف تسنى لهذه النبتة ان تنمو في الأسفلت ، وتحيا ، وتزهر ، وتتحدى الموت ؟ !
عادت الى ذاكرته ، ايام التحدي واثبات الذات في اليونان ، اذ عند وصوله الى ميناء بيرس ، انتهى آخر نقد كان بحوزته ، الا انه سرعان ما حصل على عمل في احدى البواخر الراسية على رصيف الميناء . واستمر يعمل فيها عدة اشهر قبل وصوله الى ميناء جنوا . بدأت مرحلة جديدة من حياته في ايطاليا التي اتقن لغتها في كلية اللغات .
حرر ذهنه من أي هم يثقله ، وواصل طريقه الى شركة النسيج ، بخطوات سريعة وواثقة ، وكانت عيناه تنظران ، وتستمتعان بعذوبة الريف الجميل ،
وكانت زهرة الثالوث الألبية قد أعطته درسا قويا في التحدي والصمود ، حين نمت في تربة لا تمتلك مقومات الحياة فاعادت له الثقة الى نفسه ، فواصل سيره بمعنويات عالية . غمرته البهجة حين رأى الطريق تتقاصر امامه . قال في نفسه ، وقد بدت عليه امارات الأمل والحزم : " الا بعدا لهواجس التشاؤم . " وفيما كان يتلفت حوله في شيء من اليقظة ، شاهد على مقربة دانية منه سيارة متوقفة ، وشابة تحاول اصلاح عطلها بينما راح مذياع السيارة يبث انغام احدى الأغاني الأيطالية . عرض سامي عليها تقديم المساعدة لأصلاحها ، فاجابت في شيء من الخجل ، وهي تتطلع اليه بوجه مستدير ، وعينين بلون البحر :
- أتمنى ذلك . باشر سامي في فحص مواضع الخلل ، وسرعان ما أصلحها بعد دقائق معدودات . قالت له الشابة باندهاش : - يا لك من ماهر ! تفضل اركب معي ، سأوصلك الى وجهتك المطلوبة . جلس سامي على المقعد الأمامي بجوارها فيما كانت تبعث البهجة في قلبه . ثم التفتت اليه وسألته قائلة : - أين وجهتك يا ... ؟ - " سامي . اسمي سامي ، أنا من العراق ، أود الذهاب الى شركة النسيج طلبا للحصول على عمل . " أجاب سامي . وراح يقص عليها ما قد حل به وبعائلته من أحداث مروعة ، دفعته لترك وطنه ، فشعرت الشابة بشيء كثير من الشفقة تضطرب في أحشائها نحوه ، فقالت ، وقد علا وجهها الأحمرار : - " وأسمي باولا . " . واستطردت تقول بعد برهة صمت اليمة ، وكانت تشعر بالرأفة عليه : - لسوف تمر أزمة الألم الشديدة التي تعانيها ، ويجب عليك أن تتجلد وتصبر . أنا مهندسة ، أعمل في هذه الشركة ، وسوف أبذل قصارى جهدي لتشغيلك فيها . تملكت سامي موجة عارمة من السعادة ، ثم قال بنبرة رجاء : - وهل بوسعك ايضا ان تحصلي لي على سكن داخل الشركة ، كي اوفر على نفسي مشقة السفر ؟ مضت هنية صمت قبل أن تؤكد باولا له قائلة ، وقد تحركت في نفسها مشاعر الطيبة والشفقة : - سأبذل كل ما أستطيع من جهود لمساعدتك . انه واجب انساني بكل ما في الكلمة من معنى . خفت وطأة ألم سامي ، وأخذت ثقته بالمستقبل تزداد لحظة بعد اخرى . جرت بينهما أحاديث تعارف ، كان لها أجمل الوقع في نفسيهما . وأخذ يسائل نفسه قائلا : " هل أستطيع اذن بعد كل ما حدث لنا وبعد كل ما عانيت ، أن أشعر في الحياة بهذه اللذة ! وهل أستطيع أن أتوقع شيئا من السعادة والهناء ؟ ! ذلك شيء يعدو قدرتي على التصديق . قبل حلول الصيف ، عاد سامي ، الموظف الجديد في شركة النسيج ، وزوجنه باولا الى شقتهما الجديدة ، بعد انتهاء شهر العسل ، وأخذ يقبلها ويحتضنها حتى نسي أحزانه وعبء السنين .
الحلة / العراق 1991








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح