الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاقحوان الحزين

جمانة القروي

2012 / 9 / 12
الادب والفن



ادارت المفتاح في الباب، دخلت بيتها، الذي احسته كأرض جرداء ،تيبست خضرتها، واختفت منها الحياة .. فكل شئ فقد لونه وحميميته.. حتى الازهار في اصصها مالت منكسة رؤوسها اساً.. التفتت الى مكانه الاثير، فواجهتها نظراته المعاتبة على تاخرها ، اقتربت منه معتذرة،لكنها لم تلمس سوى الفراغ .. تردد صدى ضحكاته في كل الاركان، من تلك الزاوية جاءها رنين صوته الدافئ.. في اعماقها مرارة مدت اذرعها على كل تفاصيل حياتها!تناثرت كلماته في ارجاء الدار" انت لي ابداً، ولن ياخذك مني احد،مهما كان، لن اتخلَ عنك "!!..على ذلك الباب اتكأ، وهو ينظر اليها بعينيه النهمتين، داعيا اياها للحب .. وعند تلك المنضدة جلسا معاً يحتسيان القهوة،وكلماته تخترق حواجز روحها " اشربها مرةً ، لان حلاوتك طاغية على كل شئ "!!..
تهاوت على اقرب مقعد !! .. فمازالت شقائق النعمان في يدها ، وقد انحنت تيجانها الحمراء، فقدت القها ونظارتها، فتناثرت قطرات من الماء على سطح بعضها ،كأنها تصب دموعها الحزينة التي انحبست في مآقيها،!!
ارادت ان تلهي نفسها عن ذكراه فاقتربت من جهاز التسجيل ، ما ان ضغطت على ازراره ، حتى سمعت اغنيته المفضلة التي كثيرا ماكانا يرقصان على انغامها...عكست المرآة صورتها، رأته خلفها فاتحا لها ذراعيه وهو يحدق بها مفتوناً " احبك ..اغار عليك من عيون الاخريــــن "! فراقـــه كسرها، شظاها .! كل شئ يذكرها به... !!
حينما يكون الرحيل بدون كلمات وتنطبق الشفاه ،عند ذاك يكون الصمت الجرح النازف الذي لايبرأ ابداً ...
هاتفها النقال يلح بالرنين.. يداها مخضبتان بالالوان الزيتية ، حيث تضع اللمسات النهائية على لوحتها الاخيرة التي تعدها للمعرض.. انقطع الرنين.. بين الفنية والاخرى تمسح يدها بالمنشفة التي ضاع لونها الحقيقى، فأصبحت تحمل عبقأً من كل رسوماتها.. رن الهاتف للمرة الرابعة ، ربما !! ولكن بالحاح غريب " ردي .. يجب أن تردي " !! حثها صوت صدر من اعماقها ! حاولت تجاهل النداء مرات عديدة إلا انها في النهاية اذعنت له !! لم تجد بدً من الضغط على زر التحدث ..
جاءها صوت هادئ، يحمل في طياته عذوبة وصفاء، لكن كلماته حاسمة، قاطعة، امرة.." انا مدير قاعة العرض، متى ستكون لوحاتك جاهزة كي نستطيع نقلها، لم يعد لنا متســـع من الوقت"!! سكتت لبرهة .. محاولةً السيطرة على اعصابها، ردت بجفاء " لن اشارك في المعرض "!! اغلقت الهاتف .. دعكت المنشفة التي في يدها وقذفتها نحو اللوحـــة .
"منَ اعطاه الحق، ليكلمني بهذا الاسلوب ".؟؟ ماتزال باقة الاقحوان الحمراء تغفو على المنضدة،وهي تنضح بالالم.. احست بعطش غير عادي، إلا انها لم تقوى على النهوض من مكانها..
عاود الاتصال مرات عديدة،وعندما لم ترد .. كتب لها رسائل قصيرة على هاتفها يعتذر عن اسلوبه الفض في الحديث معها .. ويرجوها المشاركة في المعرض الاخير!!
أطلقت زفرة حادة بائسة ، وبصوت مخنوق همست لنفسها " لماذا ؟؟؟ هل ماتت كل الاحاسيس والمشاعر فجأة ؟؟ أين الحب واللهفة ؟؟ هل كان مجرد كذبة "؟؟
نهضت كي تملأ قدحها بالماء البارد، فربما تطفئ النيران المشتعلة بداخلها. " لا.. لا ماذا فعلت ؟؟ لماذا سكبت الماء على رقبتي وصدري "؟؟ .. ضحك وهو يحتضنها" كي ارتشفه وهو يقطر من جسمك، ومن بين مجرى نهديك، عند ذاك فقط سيروي ظمأي "!! طيفـــه يطاردها، بحثت عمن يوقف تلك الاخيلة المتسارعة في راسها !!
لم تنوِ حضور افتتاح المعرض، إلا أن قدميها قادتها الى هناك، لتجد لوحاتها تتصدر القاعة، ابتسمت لطريقة الاعتذار !! كانت تنظر للوحة بائعة الخبز ، ذات العباءة الممزقة ، حينما وقف امامها رجل ربما تجاوز نصف عقده الرابع، ورغم ذلك تخلل سواد شعره، بعض من الشيب الخفيف في لون زهر الليمون المتفتح تواً ..اكسبه جاذبية لاتقاوم.. نظراته كأنها سكاكين سنت لتخترق فؤادها، فعتمة بؤبهما يثير الرعب، حيث تقف رموشهما الطويلة بتأهب، تحرسهما من اي اثم !!.. ابتســــم بمرح وهو يمد يده مصافحا" اشكرك لانك قبلت اسفي، رغم اني لم اكن اقصد الاساءة "!! حاولت جاهدة تجاوز احساسها بالندم، فخرجت كلماتها متعثرة دون ارادتها " إهذا انت؟.. لا عليك فقد نسيت "!!
قدم لها باقة من زهور الاقحوان !!قائلاً " إيكفيك هذا للاعتذار عن فضاضتي؟ يسعدني ان تقبلي دعوتي على العشاء بمناسبة افتتاح المعرض "!! لم تتفوه بحرف واحد، سوى انها اومأت بحركة من رأسها علامة الموافقة.."! لماذا قبلت دعوته يومها " !! سؤال مازال يتردد في ارجاء روحها ؟؟ "وانا الحذرة من الخروج مع رجل غريب، لا اعرفه ولايربطني به شئ! ما الذي دعاني للسماح له بذلك، ربما اسرني بحنانه المتدفق الذي روى اعماقي العطشى لحديث معسول،وضحكة رائقة "..!! مازالت دموع الاقحوان الحزينة تنضح من وريقاتها الحمراء!
إي صدفة رمتك في طريقي"! في مرآة غرفة النوم وقف خلفها، وهو يمسك شعرها باطراف اصابعه، التفتت غير مصدقة، لتحتضنه وتبكي شوقها والم الوحدة على صدره" إيكون قد ادرك مدى الدمار الذي سببه في روحي، فعاد"؟؟ لكنه لم يكن سوى سراب !!
في تلك الليلة التي قضياها معاً، لم يتوقف عن الكلام بمختلف المواضيع !! وبين الفينة والاخرى،يتجاوز كل شئ فيعبر لها عن مدى حبــه وشغفــه بها ، منذ ان شاهد صورها على صفحات احدى المجلات .. كانت تستمع إليه وهي مذهولة ، " إ يعقل ان يحب رجل امرأةً راها في الصور" !!حدقت به طويلا بعينين شاخصتين، علها تتمكن من قراءة الصدق او الكذب فيهما .. تردد هذا السؤال مرات عديدة في راسها، وهي تسمعه في حديث لم ينتهِ، إلا مع الخيوط الاولى للصباح..
في لحظة خارجة عن الزمن ... نسيت فيها كل المها ،وعزوفها عن كل من طرق بابها ،بعد صدمتها في الحبيب الذي وهبته نصف عمرها، ليسحقها ويمضي.!! فقد وجدت ان من الصعب عليها ان تستعيد روحها ، امام هذا السيل من الحب الجارف، كان عليها عبور تلك المستنقعات والاوحال، وعتمة تلك الغابة الغامضة الساكنة في اعماقها.. حزمة من ضياء ساطع لمع فيها... فلماذا لاتلقي بنفسها في ذلك النور ،ربما تكون البداية !!
اراقت باقة الاقحوان رونقها وتدلت اوراقها، فأضطجعت على المنضدة متدثرة بحزنها.
هبط المساء باسطاً ظلال ظلمته، فنمت شجرة الوحشة والصمت في اعماقها! "لقد
اخرجني من بين رماد حب استمرسعيره بضعة اعوام، فهربت الى ذراعيه لانسى هموم
ذلك المتعجرف الصامت ،الذي كنت أذوب في هواه! مثل مطرقة يهوى بكلماته الجافة المتعالية " كل شئ بوقته"..! الضحك كان ممنوعاً.." لا احب الضحك بصوت عالي.. اكتمي"!! حينما احاول المزاح معه.يصدني! عندما ابث له شجوني يضجر مـتضايقاً .. ما ان ابدأ بالتكلم حتى يضع سبابته على فمه علامة السكوت !! حتى في لحظات اللهفة والحب يؤدي واجبه وكأن الشيطان يقف عند راسه، يحثه على انجاز ما بدأ به ليدير لي ظهره بقسوة! فشاخت معه روحي ، وما عدت إلا مجرد الة تقوم بحركات منتظمة محسوبة الاوقات! ورغم ذلك كنت قد اقتنعت بتلك الحياة، على امل التغير،لكن هيهات الى ان وجدت الفرشاة والالوان طريقها إلي لاصب فيها حبي المجروح، لرجل اعرف انه يحبني ولسبب أجهله يعاملني بفضاضة وضجر مستمر "!!..
الاخر له ابتسامة وديعة ، يتقن اغداق كلمات الحب والعشق بدون حساب ، لم يناديها الإ بحبيبي، يعبر عن غيرته عليها بكل السبل،.. لايحتمل ان تراها سوى عيناه.. يختلس النظرات الشبقة وهي تتحرك في ارجاء البيت، وفجأة ينقض عليها بالقبلات الملتهبة غير عابئا بالزمان او المكان .لم يكن للحب عنده موعد محدد.." كنا ننهل من منابع بعضنا ما يحلو لنا، ولا نحس بالشبع ابدا! ساعات طويلة اتوسد ذراعيه يمنحني الدفء والحنان فيها !! " الجنون والمرح معه أرجعاني صبية في اولى سنوات مراهقتها.. تعليقاته الساخرةعلى كل شئ تغمرني بالضحك،متعمدة احيانا اطلق لقهقهاتي العنان ، فيزيد من مزاحه اكثر. على مدى الوقت الذي قضيناه مع بعض كان دائما مبتهجاً، صحبته ممتعة "!!
خرجت من اعماقها تنهيدة، كشظية مدفونة في صميم قلبها، بدت مسلوبة الارادة.! توقف عقلها عن استيعاب مايجري ، كانه تحت تاثر مخدر قوي . الضجر والحيرة والشعور بالمرارة اعياها . فتصارعت بداخلها المشاعر فمرة تمسدها انامل الحنان ، ومرة تنهشها مخالب الحيرة.. واصلت الذكريات هبوبها السمومي، حتى الوجوه التي بزغت في خاطرها شامتة بها!! سمعت ضحكته التهكمية وهو ينظر اليها بتعالٍ "إهذا هو الذي كنت تقولين دائما بانه منحك ما اغتصبته منك ؟أين هو الآن "؟؟رفعت راسها لتراه إلا انه مضى بينما ظلت عيناه القاسيتان تتبعانها!!
افاقت على وقع خطوات خارج المكان، جعلت قلبها يخفق بقوة ، اسرعت ونشوة الامل تملؤها، ربما لم يستطع ان يكون دونها .. السراب يصفعها بعنف، أخذت تتلوى في انهار المجهول وتنحدر معهم.. وقعت عيناها على زهور الاقحوان التي كانت تلفظ انفاسها الاخيرة ، وتنازع الحياة مع الموت.. حانت نظرة متوسلة من عيون الزهور الحزينة بان ترحمها!! إلا انها ابت ان تنعش الحياة فيها"!!
كادت الغصة تخنقها ،شعرت بحرقة في اجفانها وهي تصب دمعها الحار "عشت تحت خيمة الوهم، فحبي له نار تتلظى، رغم انه لم يمض على اشتعالها زمن طويل، كم حاولت الابتعاد عن اللهب إلا اني وقعت في اول شرارة مستني "!! همست كانها تريد تحريك دواخلها ثم غامت الدنيا وأظلمت، لبثت متمسكة بمكانها، رغم طنين اذنيها الشديد وارتجاف جسدها..
في تلك الظهيرة الحارة بعد ان منحا كل ما فيهما من حب وشوق ، اخبرها بانه سيضطر للسفر الى بلد اخر ولن تراه بعد الان ، تساقطت كلماته في قرار لا نهاية له " حبيبتي كنت اخطط ان اترك سنوات عمري تنتهي بين احضانك ، لكني يجب ان ارحل .. ولا تسالي لماذا ؟؟"
جلست على السرير وهي تحدق به غير مصدقة ماتسمع .. " انا مستعدة ان الحق بك .. ساكون بانتظارك العمر كله "!! رمقها بنظرة حب، ثم وثب اليها يحتضنها صابا في فمها حرارة قبلاته المستعرة، اخذ يشرب دموعها التي سالت على وجهها ! طوقته بذراعيها وهي تنشج بالبكاء" لماذا .. لماذا ترحل عني ؟ ستمكث قبلاتك مطبوعة على جسدي، ولن انساك ابداً".. كان قد اعتلاها وكخيول جامحة فك لجامها صحلا..
ترك ذكرياته تجري في دمها،حتى مسامات جلدها تفرز عطره ..." اين انت ؟؟ ولماذا اخترت الفراق ؟؟انقلبت على الجهة الاخرى والدموع تسيل من عينيها ، شعرت بيديه تداعبان خصلات شعرها الذي كان يعشق ...!! صور كثيرة تتقافز في مخيلتها ، تقف برهة ثم تتلاش تاركة اثرها محفورا في روحها ..
قررت وداعه مهما كان ذلك ثقيلا ومؤلماً... اشترت باقة الاقحوان الاحمر، اتجهت الى المطار، بحثت عنه في عينيها ، اتجهت نحوه، خانتها شجاعتها من الاقتراب منه اكثر، كان قد راها فتسمرت في مكانها، كانها تمثال صب بعشوائية هناك، وقف الى جانب والديه واخواتـــــه، تعانقت نظراتهما، أتسعت الفجوة واندلقت نحو باطنها النظرات، سرت رعشة في كيانها، رفرف قلبها هلعا من لحظة الوداع ..تمنت لو تلقي بنفسها في احضانه . لكن كل شئ جمد فيها حتى مآقيها تحجرت، مشط الكون بخطواته المتسارعة .. لوحت له بالاقحوان الذي مالت خدوده صوبه مودعا..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا