الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سرد قصصي قصير بعنوان - إغتصاب..موت و غضب-

طه جعفر الخليفة

2012 / 9 / 13
الادب والفن


إغتصاب ..موت و غضب


منظر حبيبات الثلج علي العشب جلب الذكريات، بياض الثلج ذَكّرَها لون الرمال في قريتها، ذَرْق الأوزات اللحيمة ذَكّرَها ببعر الحميرو الأغنام و روث الجمال. لم تَجِد فيما حولها من الميادين و المباني ما يستجلب ذكري الخيول العربية في حظيرة جَدِّها، تَذكّرتهم و تَذكّرت ضحكاتهم وهم يمارسون الفروسية، كانت تعتبره لعبا ينشط فيه الكبار ، هنا عرفت أن الفروسية رياضة لا ينالها إلا أهل الحظوة و الشهرة.
منذ زمان بعيد و هي تحاول إستبعاد تلك الذكريات، المسافة بينها و بين مكان الأوجاع بعيدة علي الأرض لكنها قريبة من أيّ مكان في رأسها.
حملها المصعد إلي شقتها في الطابق الثامن، الباب يفتح مباشرة في الصالة التي يملأ معظم فضائها طقم الجلوس المكون من كنبة كبيرة "sofa " و كنبة بمجلسين " love seat " و كرسي مفرد. في جزء آخر من الصالة طاولة الطعام بكراسيها الست. المطبخ علي يمين الباب ، للمطبخ بابين و بداخله سطح للخدمة يتوسطه حوض غسيل الصحون ، الموقد الكهربائي بعيونه الأربعة و الفرن، الثلاجة الماهلة و الميكرويف. علي يسار الباب ممر علي جانبه الإيسر خزانات علي الحائط، بجانبه الأيمن غرفتها و في نهاية هذا الممر حمام.
عاينت وجهها في مرآة الحمام، تَذكّرت كلمات "اسحق" عليك ان تبدين كبنات تورنتو! ابتسمت فاستضاء وجهها بنور يختف الأحزان، وجدت عيونها جميلة، أعجبها وجهها ، منظر أسنانها المتراصة الجميلة عاينت صدرها و هو يستخدم جرأة الستيان لينفر ببلوزتها الزقاء نحو أفق بعيد ، منتصب ككنز مخبوء في ذاكرة حالم بالمغامرات، خلعت ملابسها أمام مرآة التسريحة ، الشقة دافئة ، خلعت جميع ملابسها، عاينت ساقيها، صعدت بنظراتها إلي فخذيها، إستدارت لتري عجزيتها، كانت جميلة باللباس الداخلي عليهما و كانتا أجمل من غير لباس، نظرت من جديد فسَرَت قشعريرة جامحة في كل جسدها، رأت الندبات و بقايات الجروح في أسفل ظهرها، و علي الفخذين، في أعلي عضوها تلك الفصدات الغليظة، بكت ، القشعريرة تعصف بكيانها، وقعت علي السرير عارية و باكية. إحتشدت ذِكّريات الإعتداء في ذهنها و كادت ان تَحِتَ شعرها سبيبة... سبيبة. ضج رأسها بصفير الكارثة الذي يعقبه الصداع المتمرس في هزيمة هدوئها. قالت بصوت كسرت لزوجةٌ اللعابِ في حلقها أطرافَه فتصفد بالألم و نزف، قالت " آه يا يُمّا ". قررت أن تمضي إلي نهاية مسار الذكريات، قررت أن تعاند الطبيبة و تعاند اسحق، و سألت: نفسها ماذا تريد هذه الذكريات مني؟
تذكرت وجوههم التي يغطيها الخوف خلف الألثمة الغبراء، العمائم الجبانة، تذكرتهم يصوبون نيران بنادقهم إلي الأغنام، الجمال، الدجاجات، تذكرت رائحة إحتراق الحطب و القش من القطاطي ، تذكرت أجساد أهلها مضرجة بالدماء ، تذكرت صراخ النساء و الاطفال. الصداع كان يمسك بتلابيب رأسها.
المعتدون علي الخيول، و علي سيارات اسمها "تاتشر " عرفت اسم السيارة من أبيها في مناسبة سابقة لحادثة موته أمامهن هي و أخواتها، أُمها،عمتيها و جدتها لأبيها ، كان المعتدون يرددون
الله اكبر
الله اكبر
الله اكبر
بعضهم يضحك، يتراكضون في أرجاء المكان، لا تسمع إلا جلجلة الطلقات، أزيز محركات السيارات و الضجيج العالي من طائرة الهليكوبتر و هي ترمي حمما علي المدرسة، الشفخانة و مخازن أولاد "اتيم". تذكرت أبيها يهاوش بعصاة جسورة ، يركض صوب الموت، تذكرته عندما إخترقت الطلقات جسده، كان ماشيا في تقدمه نحوهم الطلقات تهز كتفه لم يقل غير " يا الله... الله عليكم يا اولاد الحرام " تذكرت صراخ أمِّها قبل ان تقتل ، الصراخ لم يجعله يلتفت، مات واقفاً ، مات أمامها بتلك الأيدي المعتدية، تذكرت الصفير الحاد و الصدي العالي الذي تردد في أذنها، سحب الدخان ، الصراخ وقوع الأجساد. تذكرتهم وهم جميعا علي الارض ، مقتولون. ثم حدثت نفسها بالقول: (أنا بنت الخامسة عشر ، بنت الصف الأول الثانوي، واقفة جوار تلك الشعبة التي تبقت من الراكوبة في حوش النسوان ببيتنا، بالبيت الان أجسادهم مرمية، جميعهم موتي، لا أحد علي قدمين و لا حتي حيوان يقف علي قوائمه، هم فقط ،يتكلمون كلاما غريبا و سريعا و غاضبا،
كلمات مثل " خلاص بعد كدا انسحاب"
ضحكات مستهترة من ورائي و عبارة " عوين فور "
جُرها.. أرميها .. )
سري كلامهم حواليها كأنه لا يعنيها.
هي الآن مرمية علي الأرض ، ماتت روحها مع أهلها قبل قليل ،روائح مقززة و لكمات هذا ما كان يجئيها، رمل و تراب في فمها ، أظافر مزقتها، حتي ملابسها الداخلية مزقتها تلك الأظافر، أنفاس قذرة فاحت حول أنفها، أفواه تفوح منها رائحة شواء قديم و متعفن، عرق محروق مختلط برائحة عوادم السيارات و التراب، تلك كانت رائحتهم و بالمكان رائحة الحريق.
رمي بثقل جسمه علي فخذيها، آلمتها مفاصلها، جسدها تحت رحي طاحونة ، تعذبت من الألم، ثم أحست بالموت ،فابتسمت له، و أحبته ، أرادته ان يكون فاستحال.
ربما بعد يوم من الإعتداء، فتحت عينيها ، إنطفأت النيران، ليس بالمكان سورٌ واحد، قطيةُ او غرفة كل شيء علي الارض متهدم و محروق ، أجساد أهلها بجوارها، أغمضت عينيها من جديد، رفعت رأسها ، لا تقوي علي الحركة، ملابسها ممزقة، الأوجاع في جسدها مستقرة كجحارة ثقيلة ، روحها متبددة.
سمعت صوتهما، خليط بين النواح و الأنين، رأتهما عمّها و أخيها ، كانا يبكيان ، لاول مرة في حياتها تري عمها يبكي، كان يبكي كولد صغير. المكان الآن خلوٌ من أجساد من قُتِلوا.
حملها عمها كميتة، لا أحد يتكلم ، الجمال في مشيها تشاركهم النظرات إلي المكان، البلدة التي كانت يوما معروفة بإسم أهلها، هي الآن خرابٌ،موتٌ و حريق. توقفوا عند البئر، الرمال حولها محمرة بدماء الأجساد التي تم جرها لتستقر في ظلمة البئر، تحركوا بصمت، غابت عن الوعي مرة أخري. عندما فتحت عينيها كانت خالتها إلي جوارها، قالت بصوت مدفون" المكان ليس بيت خالتي"
عرفت أنها في المستشفي، سألت خالتها بصوت بارز " هل ماتت أمي؟هل مات أبي؟ خالتها لم تجبها. غابت عن الوعي من جديد. عندما أفاقت وجدت نفسها في بيت خالتها في الفاشر. سمتعهم يتكلمون عن "الجنجويد". كانوا يبكون، في البيت فقط رأئحةُ الموت، كلامٌ عن الجيش و "الجنجويد"
و يتكلمون عن أن رجال الامن بالفاشر منعوهم من إقامة العزاء او البكاء علي أهلهم. أهل البيت يحتجون بصوت هامس ، هنا في بيتهم و يحتجون بصوت هامس؟. تحققت في تلك اللحظة من أن ما تم قد وقع فعلاً. ليس في (تشاد) شيء مؤلم للتتذكره ، فقط ايام من الانتظار.
تذكرت الآن حبوب الدكتورة "بياترس". ذهبت إلي الثلاجة أخرجت حبة واحدة ، تناولتها مع ماء من الحنفية بكوب أنزلته من حزانة المطبخ، الحبة لا طعم لها، نامت. عادةً ما تسيقظ بعد ساعات طويلة.
إستيقظت، كانت عارية،جائعة و وحيدة في مكان باردٍ و بعيد. ذهبت إلي المطبخ، سَخّنَت دمعة الدجاج و أعدت طبق سلطة متنوعة، سَخّنَت الخبز في الميكرويف، عادةً ما تعاين طبق السلطة الذي تعده، اذا كان طبق السلطة أنيقا فهذا يعني انها في مزاج جيد و إن المسافة بينها بين حبوب "دكتوزة بياترس" بعيدة. اليوم هو الجمعة، فرحت و قالت بصوت عال "هي نهاية الاسبوع إذن!"
تذكرت المشوار الذي قطعته في كندا ، كورسات ESL وكيف انها تحصلت علي CLB 8 ، تتأهب الآن لإكمال مدرستها و التحصل علي ما تحتاجه لبداية الجامعة ، تذكرت مُدَرِستها " لليان" في برنامج BSL . تذكرتها و هي تتكلم عن علم الوراثة و أن كيف خلايا الانسان تختزن ملخصاً لأبيه و أُمه، تذكرت وجه طبيبتها " الدكتورة بياترس" تذكرتها و هي تقول: "أنتظر اليوم الذي ستأتين فيه لتقولي لي لا أحتاج الي هذه الحبوب بعد اليوم". لقد قرَرت اليوم أن تنجب اولاداً يشبهون أبيها و بنات يشبهن أمها. أتمت أكلها ثم إتصلت باسحق قائلة: يا اسحق انا أحبك ، أريدنا أن نتزوج لأنجب أولاداً يشبهون أبي و بناتا يشبهن أمي. اسحق طار من الفرح، ثم قال هل تسع الأرض؟ و هل يسع الوطن ؟ عاشقين بهذه البطولة.

كندا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بطريقة كوميدية.. الفنان بدر صالح يوضح الفرق بين السواقة في د


.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية




.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي


.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |




.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه