الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البذرة تتمرد

محمد أيوب

2005 / 2 / 26
الادب والفن


قصة قصيرة
بقلم : د . محمد أيوب
رآها خلال حفل تعارف ، لفتت نظره ببساطتها .. وجه عادي مألوف ، ربما رآه قبل عشر سنوات وربما لم يره !! لكنه يشعر أنه يعرف ذلك الوجه العادي جداً والساحر جداً ! آه .. ما هذا الشيء الذي يتدلى من رقبتها ؟ انزلقت عيناه إلى أسفل ، بين النهدين استقر شئ .. دقق النظر .. ما هذا المزيج من الألوان ؟ خضرة المرابع وبياض السريرة ونقائها .. حمرة دماء الحياة ، وسواد الواقع ! تداخلت الألوان لتصنع إطاراً لخريطةٍ جميلةٍ أشبه بخنجر مشرع قاعدته إلى أسفل عند رأس القلب .. شعر بقدسية غامرة ، ما أجملك أيها الوطن حين تسكن ثنايا القلب وتتحرك بين نهدين كالربيع يعطيان الحياة ويكلآن الأمل .
لم يستقر لحظة ، كان كل همه أن يقرأ صفحات الوجوه .. يستطلع خبايا العيون .. عيون الرجال والنساء .. لابد أن يعرف أين يقف ؟ إنه مشدود على الرغم منه إلى حاملة الخريطة المقدسة .. نظر إلى عينيها .. بحيرتين صافيتين .. يكمن في قاعهما حزن صامت ، ويتنهد : أنا عارف !. لماذا يأبى الحزن إلا أن يسكن عيوننا ؟ لماذا ؟ آه ... كنا سعداء يوماً .. كان المطر يسقط لكنا نموت عطشاً الآن .. نموت شوقا إلى قطرة مطر .. يا هذي الأشجار العطشى .. أطيلي جذورك .. تعمقي في تربة هذي الأرض .. لن تموتي مادام لك جذر يطول ويمتد!
وتلقحت العيون بالظلمة .. أصبح النهار جنينا في بطن الليل في انتظار الميلاد الجديد ... انبعثت الأضواء خفيفة مشتتة ، كانت تنير قليلا .. الضوء باهت كالحياة هذه الأيام ! حتى الوجوه باهتة كالحة .. كان لزوجته وجه ملئ بالحيوية ، وفجأة ذبل الوجه وانغرست خناجر حزن في عينيها .. نظر إلى صاحبة الوجه العادي من جديد .. إنه يرى الخناجر نفسها تنغرس في عينيها .. أعانك الله أيتها الأخت كأنه يقرأ صفحة من كتاب مفتوح .. حاول أن يتناسى .. الصورة تلاحقه الخريطة تتأرجح أمام عينيه .. الإنسان يقفز من عينيها أمامه .. آه .. الآن تذكرت .. رأيتها هناك .. في السوق .. في القرية .. أمام كشك التموين .. في البيارة تعزق الأرض .. في المدرسة تعلم الأطفال .. كيف لا أعرفها .. إنني أعرفها بالتأكيد ... أعرفها إنساناً ، وأنا أبحث عن الإنسان في أعماق الإنسان ، في حبات العيون .. في صفحات وجه يغمره الحزن .. يا فتيات هذا الشعب .. حرمنا عطاء الأرض ، ولم يبق لنا سوى عطاء النفس .. لا بد أن تتمرد البذرة على السكون ، في هذا الزمن الكادح من أجل الحب والأمل والحياة ، يأتي العطاء منكن ، فتسكن النفس ، بل تتأرجح في النفس الثورة اقتربت منه ...
همست : مساء الخير ...
- مساء النور . أهلا وسهلا .
جذبت كرسيا ، جلست بجانبه : سمعت عنك شيئا ..
- صمت
- أردت التعرف عليك .
وطال صمته ...
- ألا تحدثني عن نفسك ؟
تململ قلبه ، نظر في عينيها ، إن خناجر الحزن لا زالت تنغرس في مآقيها .. كيف أحدثك عن نفسي وعيناك تتحدثان بصمت .. هل أنا غبي لأتحدث عن نفسي ؟ يا هذا السر المغلق بالشمع الأحمر .. بخريطة تتدلى فوق القلب ، نظر إلى الخريطة .. قرأ اسما .. ترى من يكون صاحب هذا الاسم .. أسعد .. اسم جميل بلا شك ..وتحت الاسم تراءت له حروف شاحبة .. دقق النظر .. بئر السبع .. كل بقعة هنا كانت بئراً للسبع ، لكن ما عاد هناك سباع .. لقد غاص السبع إلى أعماق البئر ... كل السباع الآن أسرى الوحشة والظلمة .. لكن البذرة تتمرد ، وتتحطم جدران الصمت ، وتتوه البذرة في القلب بحثا عن قطرة ماء تقهر الكمون وتنمو ليبدأ العطاء من جديد .. تك .. ويكاد يسمع دقات قلبه ... نبضات وحشية أيقظت الحيوان الساكن في جوفه ، لكن الحب عطاء .. أن تعطي يعني ألا تأخذ ، ويلامس أذنيه صوت أغنية.. القلب يحب مرة ما يحبش مرتين .. أغنية أم أكذوبة؟ وهذا القلب لماذا يخفق ؟ هل هذا معقول ؟ الحب مرة واحدة فقط ؟ الحب ليس بخيلا ... الحب عطاء بلا حدود .. الحب يهدم جدران العزلة .. أحببتها ليس في ذلك رجس .. للحب أكثر من بعد ... هذا القلب عمارة سكنية يوجد فيها دائما متسع لساكن جديد .
- حدثني عن نفسك .
أفاق .. عاد فسرح قليلا .. نفسي أنا لا أعرفها ، قال بصوت مسموع :
- أنا لا أعرف شيئاً ، نفسي أيضا لا أعرفها ، العطاء شئ جميل ، ربما كان هذا كل ما أعرفه ..
ويسرح .. الحب عطاء ، وأنا أريد أن أعطي ، وليس جريمة أن يعطي الإنسان ، لا أطلب منك ما ليس من حقي ... أنت حرة في نفسك ، وتعانق عيناه الخريطة وتختلط عليه الألوان .. ما سر الخنجر فوق القلب ؟ أخشى أن يدمى !
لفح وجهه هواء تنهيدة حارة ... إنها من خطيبي ، نحتها هناك خلف الجدران .. أخذتها منه .. مد يده بها خلال نافذة صغيرة أثناء زيارتي له .. ناولني إياها بصمت .. كانت عيناه تتحدثان بكل عواطفه .. إنها قلبه يعانق قلبي ، وسنظل نتعانق حتى نهدم الجدران .
وتلاحقه كلمات الأغنية من جديد .. القلب يحب مرة ما يحبش مرتين .. يا ساقطة كفى .. لقد أحببت أكثر من مرة ! فلماذا تكذبين ؟ أحب أكثر من شيء!! أحب الناس كل الناس .. حتى من يسئ إلى أحبه .. لا أملك إلا الحب ، أنا أغنى من كل أغنياء الأرض .. أحب .. أحب .. أحب .. أحب كلمة أغلي من كل سلع التاريخ الأخرى .. أحب الناس .. أحب الأرض .. أحب المرأة وما كالمرأة شئ أهل للحب ! يا هذي المرأة ... أيتها الأرض المعطاء لكل الخير .. أحببت الحب في عيون الأطفال .. حتى الحزن أحببته في عيون هذه الفتاة ... للحب أكثر من بعد ، أكثر من وجه .. الحب كالحقيقة قد يراها كلانا .. ثم نختلف .. ومع ذلك نظل نرى الحقيقة ، نظر إلى عينيها مجدداً ، قال : حدثيني عنه أكثر .
- كان يبيت عندنا عندما أخذوه . ولازالت الزنزانة حبلى من تسع سنين .. لقد تأخر المخاض ...
- ولكنه سيأتي بلا شك ، وسيكون مولوداً ليس ككل الأطفال .. سيكون أجمل ميلاد فوق سطح الأرض .
سرح قليلا .. أحس شيئاً يسري في قلبه يدغدغ مشاعره .. ترى هل أحببتها ؟ ربما كان ذلك ... لقد فكر في ذلك أكثر من مرة .. لكنه حب يختلف ، ليس شهوانيا على أية حال ... باستطاعتي أن أقهر الحيوان القابع في جوفي ... يا بنت الشعب الطيب لكني سأحبك .. لن تمسك يدي .. فأنت ملك لنفسك فقط ... لست متاعا أو سلعة ، وقد وهبت نفسك - يكفيني أنني عرفتك - وأنا قد وهبت نفسي ... الزوجة والأولاد .. الحب عطاء .. ثم تمتم شيئا وقال بوضوح :
- لقد زرت بلدتكم ... هل لازالت الأشجار تموت على حد المنشار ؟.
- الموت لا يفرق بين الشجرة والإنسان ، بين قطرة ماء أو حبة رمل .
- ولكني أحب الموت أيتها العزيزة .
دهشت ..
- وكيف تحب الموت إذا كان الحب عطاء في نظرك ؟
- والموت عطاء بطريقة أو بأخرى ... من الموت نتعلم معنى الحياة .. نتعلم أن نعيش كل لحظة من عمرنا أيتها الملاك الطاهر .
نظر إلى لباسها الأزرق ... كادحة حتى في ملابسها . أنا فقيرة ابنة فقراء ، خطيبي مهندس .. يعني عامل يأكل لقمته من عرق الجبين ... أنا أحب كل الناس .. إنها مثلي تحب كل الناس .. ما أجمل هذين الحرفين ، يزرعان الثقة والأمل في أرض النفوس العطشى ، وتتلظى نفسه بلهب يحرق ضلوعه .. ليس من حقك أن تلمسها ولو بنظرة مختلسة .. تذكر حبيبته السابقة ... عيناها الساحرتان .. جسدها الرقيق .. ما أجمل عيون النساء ! لكنك تخليت عنها على الرغم من حبك لها ، كنت وغداً ولكن ، ليس عيباً فينا أن يكون الإنسان وغداً في وقتٍ ما ، ولكن العيب أن يظل الإنسان وغداً إلى الأبد ... وتتمرد البذرة في نفسه من جديد .. يصحو قلبه على نسمات ربيعية ... سأزرع الربيع في عيون كل الناس .
سيخرج أسعد وسأهنئك بخروجه ... سأقطف زهرة وأقدمها له ، مع أني لا أحب قطف الأزهار ، والنساء كالأزهار جميلات ، إذا قطفت الزهرة ذبلت ... لا لن أقطف زهرة أية امرأة فالزهرة لا تقطف وأتمتع بكل الأزهار ... أنظر .. أسمع وأشم كل الأزهار ، يملأ نفسي حب جارف لكل الأزهار .. لكل زهرة ميزة وأقلق .. أقلق .. أقلق .. أطارد النوم ويطاردني السهر!! أحبُّ هذا يا قلبي ؟ لكن .. ويسرح .. ويطول سرحانه .. يلاحظ أصدقاؤه ذلك : لا بد أن شيئا أغضبك . ربما أثقلنا عليك بمزاحنا ؟
- لست غاضبا منكم .
- لن نمزح ما دام ذلك يغضبك .
- علي الطلاق ما أنا زعلان .
حاول أن يتهرب : الواحد مشتاق للهدوء ..اتركوني أسرح مع نفسي .. ويسرح .. ماذا لو حدثتها عن نفسي .. عن قلبي.. نبضاته.. همساته.. أقول لها أنني أحببتها ، ويشاهد برجاً للحمام وزوجاً من الحمام .. ذكر وأنثاه .. كل منهما يعبث بمنقاره في ريش رأس الآخر .. يا حمامة القلب لا تعبثي بأمن قلبي فأنا محتاج للأمن .
ويتبادل معها النكات .. حاول أن تكون نكاته مهذبة .. لا يريد أن يجرح مشاعرها بشيء ... إنسانيتها تهمه ، ويثور الشجن في نفسه حين تحدثه عن النبي الرابع .. رسول الحب ! ترى لماذا حدثته عن الرسول الرابع ؟ لماذا يا رفيقة الدرب .. يا أخت الأمل في نفسي ؟ وفكر في أن يطبع على شفتيها قبلة لكنه تذكر خطيبها بين تلك الجدران الأربعة .. وانزلق ببصره نحو الشيء المقدس بين نهديها، الخريطة والألوان الأربعة .. من أجلك أيتها الألوان ومن أجل خاطر كل سبع شرب من ذلك البئر أو سيشرب .. لن أفعلها ، لن أكون نذلاً حتى ولو كانت هي التي حدثتني عن الرسول الرابع .
تراءت صور مختلفة أمام عينيه .. أسعد بين الجدران .. وهي في الخارج تنتظر ، ويمر الزمن ، وتشيب شعرات من رأسها ، وهو مضيع ! ما مصير تلك العاطفة التي تنمو في قلبه ، والبذرة تتمرد على كونها بذرة ، وهو موزع بين الثورة والتمرد .. يثور على نفسه ماذا لو نمت هذه البذرة ؟ ربما كان بإمكانك أن تؤنس وحدتها ، أن تأخذ منها رقيا أو حجاباً يؤنسك في وحدتك .. أحبيني كما أحببتك يا منية القلب .. قوليها ولا تكوني جبانة مثلي .. لا تخجلي مني، فقد أرقت كثيراً وفكرت كثيراً .. لكن البذرة تمردت ونمت .. بدأت البراعم في الظهور ، وكأنها أحست بالصراع الذي يدور في نفسه ، وكأنما اكتشفت مدى انشغاله بها .. قررت أن تفعل شيئا .. لفتت نظره إلى ورقة صغيرة قدمتها له ... قرأ على الورقة :
أكملا مشواركما بالسعادة ،
وعندما تشعران بها ،
فكرا ولو للحظات ،
أني دعوت لكما بها .
قرأ الكلمات مرة ثانية .. إنسانُ وتظلين إنساناً .. تذكر الليلة قبل الأخيرة .. احتفلت زميلاتها بعيد ميلادها، كان فرحاً ، فرحاً ، فرحاً .. غنى رقص من أجلها، رقص من أجل حبها .. كان يود تقبيلها ، كبلته القيود الاجتماعية .. ناولها وردة حمراء .. وضعتها عند القلب بين نهديها .
22 إبريل 1977م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف