الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جبرا إبراهيم جبرا: كتابتي نقش على الهواء!

باسم النبريص

2012 / 9 / 14
الادب والفن


يومان, وأنا أفتح الشاشة البيضاء, لأكتب عن جبرا, فلا تطاوعني أصابعي. هذا الرجل الذي كان مناط حسد وغيرة من بعض المتأدّبين العرب, كان عندما قابلته, في القاهرة عام 82, نقيض ذلك.
تلك الصورة الزاهية الشائعة عنه, ككاتب أرستقراطي, كانت صورة سطح لا أعماق. خارج لا داخل. ولربما ساهم هو - للمفارقة – في تغذيتها وأكاد أقول صُنعها, عن عمد وتقصّد أحياناً.

كانت القاهرة الثقافية تحتفل بمرور نصف قرن على وفاة حافظ وشوقي. وكان عزالدين إسماعيل, رئيس هيئة الكتاب آنذاك, قد "ناضل وجاهد", لفكّ العزلة الثقافية العربية عن مصر, بدعوة عدد كبير من أعلام المثقفين العرب, ومن بينهم جبرا.

ما إن رأيته, حتى هرولت إليه معانقاً. ولمّا عرف أنني مواطنه انتحى بي جانباً, وهكذا .. أخذنا نتمشّى في أحد أروقة المبنى الرئيسي لهيئة الكتاب على شاطئ النيل.
هناك, في ركن منزو, جلسنا.
بادرته فوراً: بالأمس يمنع صدام حسين, واليوم يسمح ..
قال: لولا الحرب, ودعم مصر لها, ما سمح!

كان يتكلّم بخفوت, ويتلفت حوله, بحركة غريزية. استرعاني هذا الأمر, بل استدعى استغرابي. فالمكان خال. ونحن عموماً في القاهرة لا بغداد. ايش القصة بالضبط؟

قال: قرفت! هكذا دون مقدمات. وأوضح: الوفد الكبير القادم من بغداد, فيه ثلاثة عيونهم عليّ!
إنكمشت في ملابسي. ومضى هو يتكلّم, وكان واضحاً أنه بحاجة "للتفريغ", ولا يهمّ أمام من. المهمّ أنّ الصدفة رمت إليه أحد مواطنيه المولعين به, ومن محاسنها أنّ مواطنه هذا غرّ وبريء, وفوق ذلك, قادم من غزة وعائد إليها. فكيف له ألا ينتهز الفرصة؟

جلسنا نحو الساعة. ثم قام هو لشأنه, وعدت أنا لشقتي في الجيزة مذهولاً, كسير الخاطر.
فهاهو أديبي الكبير, الذي لطالما حلمت بلقائه, يزجّني في وارد غير الوارد, وحال غير الحال.

كنت أودّ أن يهديني بعض كتبه, بإهداء شخصي, ونتصوّر وأشياء من هذا القبيل, فإذا به يلقيني من حالق.
سامحك الربّ يا جبرا!

تلك الليلة, لم أنم. أذكرها وأتذكرها وأنا أسطر هذه السطور. بل أتذكّر بعوضها الليلي النّهم, وقرصاته, في تلك الشقة الكائنة غير بعيد عن ترعة العمرانية الغربية.

جبرا, مثالي الأدبي, وسقف الفلسطينيين المتحقق – هاهو يشكو من سفالة فلان النكرة وعلان المسخرة.
ومن جهة أخرى, يلحف في السؤال عن أدق تفاصيل العيش اليومي بغزة والقدس وبيت لحم. ثم بعدها مباشرة, يتكلم وكأن هذه المدن المبتلاة, مدن يوتوبيا, لا مدن تعيش تحت بسطار الاحتلال.

ثمة شيء غير طبيعي في هذا كله.
ثمة نوستالجيا, أفهمها وأقدّرها على نحو عال.
لكنْ ..لعلي أكون قابلت الرجل, وهو في أسوأ حالاته. لذا عليّ أن ألتمس له عذراً, فنحن بشر.
إنما هيهات. فليس بالأمر اليسير أن ينكسر المثال والتمثال!

في اليوم التالي, كنت هناك أيضاً. كان حاله أفضل من الأمس. تصوّرنا, وحضرت معه بعض الفعاليات, ولاحظت أنه لم يكفّ عن المجاملة والانشراح والتألق طول الوقت. بخاصة مع الصبايا والنساء المصريات.

أجريت معه حديثاً مطولاً لمجلة أدبية في القدس, ودقّق في: كيف ستنشر المجلة وهي بالأبيض والأسود صوري الملونة؟
قلت: هذا شغلهم, وهم سيتدبّرون. (لم ينشر اللقاء لحدّ اللحظة)

رافقته على مدى يومين متتاليين أيضاً. وفي جلسة منفردة معه, تكشّف لي عن انتماء عصابي لفردوسه المفقود. انتماء لم يُرحني حينها, لأنني كنت أهجس وأحدس (ولا أقول: أعي) أنه انتماء الخاسر والعارف والموطّن نفسه على أنّ خسرانه هذا أبدي مبرم, كقدر إغريقي, أو لعنة إغريقية .. ومن ثم: المرتاح لهذا الخسران!

كانت ثقافتي يومذاك, ترفض بل تستنكر هذا المقتَرب. ففلسطين ليست يوتوبيا ولا فكرة. فلسطين بشر وجغرافيا وتاريخ. وكان هو يدفعني دفعاً لأن أراها بعينيه: أندلساً جديدة أو كأندلس جديدة.

هل أقول أنه كان يئس وارتاح لراحة اليأس؟
ربما. وربما أكون ظلمته بهذه الكلمات.
لكن حتى لو, فهي كلمات محب ومعجب ومولع, لا كاره ولا حاسد. حاشا وكلا.

من ضمن أسئلتي التي كنت سألتها: كيف ترى إلى الكتابة, بعد هذا السفْر والسفَر الطويلين؟
قال: كل كتابة هي نقش على الماء. أما كتابتي فهي نقش على الهواء!
قالها بلا مزاح, وسرحَ .. وأكّد: لا أتمنى لولديّ أبداً أن يكون أحدهما أو كلاهما مثلي.
الكتابة: بهدلة. ومجرم من يتمنى لأولاده أن يتبهدلوا!

ليس ثمة ما يقال عن هذا الجواب البصير, الذي كان كسر مجاديفي التي من بوص لحظتها, ثم تكشّفت حقيقته, بعد فوات الأوان, وبعد دفع الثمن!
كما .. أيضاً ليس ثمة ما يقال عن ذلك اللقاء البعيد.
فقط أضيف: كان جبرا رجل تسويات في الواقع, كما ترآى لي حينها. وكما عرفت من آخرين.
ومن حسن حظنا, من حسن حظ مدونة الأدب العربي في القرن العشرين, أنه كان نقيض ذلك تماماً حين يجلس ويكتب.

هذا العملاق الجليل, من قال فيه شاعرنا سركون بولص إنه كان "أبا روحيا بالنسبة له .. وواحدا من العقول النيرة التي يستطيع أن يتحدث معها عن اكتشافاته في الأدب العالمي. بل قال سركون أكثر: قال: "كان جبرا إبراهيم جبرا الكاتب والمترجم والشاعر شخصية فذة، كأنه واحد من شخصيات النهضة الأوروبية العظيمة كدافنشي، التي لها إحاطة بالعلم والأدب والفن والتيارات الفكرية الأخرى. إنه ليس شاعرا أو كاتبا فقط وإنما هو بالنسبة لي كان شخصية عالمية".

وبالنسبة لنا أيضاً.

رحم الله الأمير أبو سدير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا