الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوفاة

نبيل جديد

2012 / 9 / 14
الادب والفن


قبل جفاف المكالمة الهاتفية مع والدي ، كنت ألهو ضمن صفحات رواية في الحافلة ، فهي المرة الوحيدة التي يصر بها ويؤكد ثم يلح على ضرورة حضوري مراسم الدفن ، فقد جرت العادة على أن يمثلنا –كامل أولاده- خلال الأفراح و الأتراح ، وبدا لي تمسكه بتواجدي مخيفا إلى درجة جعلتني أتوه في التخمينات .
- ابن عمك توفي ...
وأنا أعرف أنني أكبر سنا من أولاد عمي ، وليس بينهم من هو في سن الوفاة ؟! سخرت من هذا الخاطر واستفسرت :
- أيهم ؟!..
- أبو أحمد ..زميلي في الدرك ..
أدركت عندها مقصده : أحد الأقرباء ، فسارعت إلى السفر مع معرفتي باستحالة وصولي في الوقت المناسب ، لكي أبدو مثل من قام بكل ما عليه ، إرضاء لرجاءات الوالد ، بينما تتنازعني مشاعر الغضب من هذا الواجب الثقيل الذي سيرهقني خلال السفر و الجنازة ، ومشاعر الحزن على أبي الذي بدا كأنه يدعوني إلى جنازته وهو يراقب أوراق الأصدقاء تتساقط سريعا ، ومشاعر الاكتئاب لطريقتي الحيادية في استقبال نبأ الموت ؛ كأننا سكان المدن الكبيرة نفتقد لحلاوة معنى القرابة ؛ ولأن الرواية تتحدث عن موضوع مشابه ، حاولت استغلال الضوء المتبقي من النهار في تقليب صفحاتها ، حتى باغتتني العتمة ، فوضعتها جانبا ، ورفعت نظارات القراءة لأراقب قليلا الفلم ، فلم أستمتع ، مسحت رؤوس الركاب أمامي متخيلا وجوههم ، ثم ألقيت نظرة على من يشاطرني المقعد ، وكان منشغلا بأحداث الفلم المصري ، التفت نحوي ، فتظاهرت بمحاولتي رؤية الطريق من خلال الزجاج ، لكن العتمة الخارجية حوّلت النافذة إلى ما يشبه المرآة ، فاستطعت تحديد درجة اسمرار الشاب ومدى اتساع صلعته و سماكة نظارتيه ، ثم أشحت وجهي باحثا عن جميلة بين الركاب تلهب خيالي ، فأثار انتباهي شعر أشقر منسدل طويل على بعد مقاعد من الصف المقابل ، حاولت تخيل ملامحها ففشلت ، وتسليت بمشهد حركي على التلفاز أثار موجة من الضحك بين الركاب ، ثم سويت مقعدي ليناسب النوم ، لكنني لم استطع الانشغال عن مشاعري المتناقضة ، و التي زادت إرباكا بدخول مسحة من الرضا على نفسي لتصوري مدى سعادة الوالد لاستجابتي له ، فارتحت لابتسامته التي ستبدو غريبة ضمن أجواء الكآبة في القرية ، وتخيلته يفخر بين الأقرباء بحضور أولاده جميعا حتى أبعدهم ، و بافتقار مشهد الفخر هذا إلى مكان ريفي حاولت استكماله ، فتتالت ومضات قريتي ، كأنها نداء حار ينساب عبر العقود ، فعلاقتي معها علاقة ذاكرة متقطعة ، أرى في ذهني دروبا لا تؤدي إلى مكان ، وتحفظ مخيلتي أمكنة لا أعرف طريقا إليها ، و الوجوه تبدو غائمة لا تنتنمي إلى أسماء ، وأسماء الأشخاص – حتى الفتيات – شاردة صعبة التجسيد ، فمنذ كنت في العقد الأول تهتكت الحبال بيننا ، لأن وظيفة " الدركي " جعلتنا كالبدو نبحث عن الكلأ في الأصقاع ، فنبتعد عميقا في الصحراء حينا ، ثم نجمع أمتعتنا ضمن شاحنة لنقترب من البحر حينا آخر ، لكن هبات الصيف –حيثما صرنا- كانت تحملني إلى أحضان قريتي لشهر أو شهرين ، فأختمر عنبا و تينا ، وتملؤني جدتي حبا وحنانا – رحمها الله – وليبقى وجهها في الذاكرة الوحيد الذي ينتمي إلى اسم ، وهاهو يجلدني بسياط تأنيب الضمير لعدم حضوري جنازتها ، فيظهر الألم قلقا يثير انتباه جاري : تسوية الجلوس ، محاولة النوم ، اتكاء جانبي لتفحص الممر الطويل ، مراقبة الشاخصات التي تمرق خطفا عبر نافذته ؛ فأشعر بالارتباك لنظراته ، وأتشاغل عنه ، لكنه سرعان ما يتأبط الفلم الكوميدي الطويل في تلفاز البولمان ، بينما تأخذني الوجوه الريفية إلى بداية عقدي الثاني حيث صرت أرى في استمرار لهوي – صيفا - مع زملاء المدارس في تلك البلدات الصغيرات المتباعدات إغراء أكثر من حجارة قريتي الناتئة و حاكوراتها المتطاولة ، وتحول اللهو فيما بعد عملا في العاصمة باعدني حتى عن عائلة البدو الرحل التي استقرت أخيرا في اللاذقية ، على امتداد الأزرق دائم التموج ، كحقل القمح أمامي الذي تسبح فيه الأصابع اللدنة ، مما أظهر جزءا من الخد ينسجم في اللون مع اليد الطرية ، فقررت استكشاف وجه صاحبته عند أول توقف للحافلة ، لأن مشكلة الوجوه تغزوني بدءا من الركاب الذين لا أرى منهم إلا قمم الرؤوس المشعرة أو الجلحاء ، و انتهاء بعجزي عن تذكر ملامح ابن العم المتوفى ، الذي أجد فيه ضرورة ملحة ، ففلسفة الوجه مهمة لنا كثيرا نحن سكان المدن ، من خلاله نحدد الصلة بيننا ، فهذا وجه زميل عمل ، وهذا وجه جاري المقابل ، أو هو وجه الطابق الخامس ،أو الثالث ، وهكذا تستطيع القول : صباح الخير جار ، أو السلام عليكم زميل ؛ وعندما تفشل في سياسة الوجوه ستبدو انعزاليا مترفعا ، والمصيبة الأكبر في القرية ، فهم لا يكتفون بتصفح الوجه ، بل يلامسون الدم و الخلايا و الصوت و الرائحة ، وهكذا يحددون لك من تصافح ومن تحتضن ومن تقبل ، وبذكر القبلات اندفعت أتمرغ في مرج الذهب المتموج أمامي ، وأسترق النظر من جاري خشية قراءته أفكاري فألحظه يكبح ضحكاته ، ويرتسم شارباه الأسودان الكثان كنقيض صارخ لخيوط الشمس المنسدلة على فسحة الخد القمرية ، فمسدت براحتي شاربي الأصهبين ، لأجد فيهما صلحا للألوان المتباعدة ، بينما نظرات ابني الجامعي تشي برغبته امتلاك شاربيّ فيقول :
- سأذهب إلى المزين و أطلب منه صباغة شعري بهذا اللون التائه ما بين الليل والنهار .
فأبتسم له و أعيده إلى محور صراعنا الذي بدأ منذ إحالتي على التقاعد وإعلاني الرغبة
في استيطان اللاذقية قرب أهلي :
- السباحة البحرية هي من صنع مزيج الألوان هذا .
فيحتج مع شقيقته على ترك دمشق :
- لن تقنعنا يا أبي ... لقد ولدنا وشببنا هنا ، ولن نستطيع العيش في مكان آخر .
- مسقط رأس والدك وجدك في اللاذقية ، وهناك ستكون قبورنا ...
- أما نحن فمن دمشق واليها ...
- ألا تقومان بواجب زيارة قبورنا في صباحات العيد ؟...
- بعد عمر طويل ...
- والسفر إلى اللاذقية مربك وطويل ...
- لا يهم الميت مكان القبر ، فلتكن القبور هنا ...
- ومراسم التشييع من يقوم بها ؟! .. أين متعة الجنازة الكبيرة ؟! من سيعزيك في غربتك ؟..
- المعزون هم المعارف ، وأصدقائي وعلاقاتي هنا ، وليست هناك ...
- يا بني يقول المثل : أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب ...
- ويقول المثل أيضا : رب أخ لم تلده أمك ... ثم لم هذا الإصرار بالحديث عن النهايات ؟! فلنتكلم عن البدايات ، فلتفكر بجمالية انتشار سلالتك في دمشق ...
وهنا يطل فخر والدي بإنجابهما لكل واحد منا في بلدة مختلفة ، ثم توزيعنا بحكم الوظيفة على مدن أخرى ، في حلب وحمص ودمشق وطرطوس و اللاذقية ، فباتت لقاءاتنا تقتصر على الاطمئنان الهاتفي ، أو مصادفة الإجازات في بيت العائلة باللاذقية ، أما الحبل السري مع القرية فقد حافظ عليه العجوزان ، وهاهما يحاولان تسليمه لنا ، وأزعجني خاطر "التسليم والاستلام " هذا لايحائه بقرب نهايتهما ، ثم هل تكفي زيارة واحدة لاستلام الراية ؟ أم أن الوالد سيجدها مناسبة ليطلبني في الأعراس أيضا ؟! لأكرر وقوفي تائها في " مركز الانطلاق" كما الآن ، مترددا بين التحرك إلى القرية مباشرة ، أو اللجوء إلى منزل العائلة في اللاذقية لقضاء هذه الليلة ، الاحتمال الذي يفقدني إيجابية : طاعة الوالد ، فحسمت الأمر ، وطلبت من سائق العربة الصغيرة إيصالي إلى القرية ، محاولا الاستفادة من العتمة للابتعاد عن استجداء معرفة الأقارب ، ورغما عن أجواء الحزن داخلني شعور من النشوة لمعرفتي الغريزية بعض الوجوه التي احتشدت حولي ، وساعدني اصطفافهم للترحيب و تقبل التعازي في التمييز الهادئ بينهم ، والتحضير لنوعية السلام المفترض ، فبعد تقبيل يد أبي ، رفعت كف عمي لتقبيلها لكنه قاومني واحتضنني لتبادل القبلات ، بينما عيناي تسترقان النظر لاستكشاف التالي ، برز وجه مألوف تماما بشاربيه الأسودين الكثين وبشرته السمراء ونظارتيه السميكتين وصلعته الواسعة ، وكأن عمي يسلمني لجاره قال :
- وصل ابن عمك من دمشق منذ لحظات ، ألم تلتقيا ؟! ..
مد الآخر كفه للمصافحة ورفع ذراعه الثانية للاحتضان ، ضممته إلى صدري وهمست خجلا : هل يبقى الأمر سرا ؟!..
أجابني ونحن نبادل الخدين : خطيئتنا متبادلة .
أمسكته من كتفيه : كم تغير المدن ملامح الوجه !!
وبلهجة من عركته الحياة تساءل أبي : والنفوس أيضا؟!
أما أنا لا أدري كيف توقعت بأن شقراء البولمان ستكون بين الحشد فتطاولت أبحث عنها ؟!..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ


.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت




.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر