الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بطيخة

نبيل جديد

2012 / 9 / 16
الادب والفن


_ ( عالمكسر ) يا بطيخ ...
اخترق نداؤه النافذة مع رفعنا لآخر طبق من الغداء ، فاسترخت زوجتي نصف مستلقية
على الأريكة و قالت :
- والله يستحق الوقت بطيخة حمراء و باردة .
مددت رأسي عبر قضبان النافذة أستوقف البائع ، فنهرتني :
- اذهب إليه يا رجل و إلا خدعك ...
رأيته يتلمس كومة البطيخ فوق العربة الخشبية ، و يجادل زبونا حول السعر ، ثم يأمر بغله
بالهدوء .
- يجب أن تساومه على السعر و النوعية ..
كان البغل الذي تغطيه الصفائح المزركشة بعناية من رأسه حتى ذيله يتعرض لمضايقات
كلب شارد .
- أتريد الشراء من النافذة ؟!.. و الله أنا متأكدة أن جميع الباعة في الحي يعرفونك جيدا ، و
هم يهللون لرؤيتك : جاء الرزق... جاء الأهبل .
صدمتني كلمتها الأخيرة ، بينما كنت أقارن البغل بخيول كسرى الحربية ، فالتفت إليها بفظاظة ، و كدت أجيب : لا بد أن أهلك أول من قالها عندما جئت أخطبك ، لكنها تداركت ملامحي الصارمة بابتسامة باردة دون حراك ، فاعتبرت ابتسامتها اعتذارا مبطنا ، و حسما لجدال حار في وقت الظهيرة القائظ خرجت من الباب المطل على الزقاق مباشرة .
كان الخلاف قد تطور بين البائع الذي يصر أن البطيخة حمراء و الزبون الذي يعتبرها بيضاء ، فملأت أصواتهما الزقاق المهجور حتى من الظلال ، باقترابي أهملني الشخصان ، و ارتفعت حدّة الجدال و العناد كأن كلا منهما استقوى بي .. و زاد الضجيج عندما بدأ الكلب ينبح البغل و يدور حوله ، رفع البائع سبابته في وجه الآخر مهددا : ضع النقود و خذ بطيختك ... ثم ثناها مشيرا إلى سطح العربة الخشبي ، بينما امتدت يده الثانية لتسحب سكين المكسر عن العربة ، ويخفيها خلف ظهره بحركة مسرحية تهديديه ... ضحك الزبون بفظاظة وكشف عن كعب المسدس عند وركه و قال محركا أصابعه كأنه يكش ذبابة : ( روح استرزق روح )؛ في هذه اللحظة كان البغل قد وجه رفسة إلى بطن الكلب ، فطوى ذيله بين ساقيه و ابتعد ينوح تاركا خلفه الزقاق ، أما العربة فقد هزّت و ترنحت فسقطت بطيخة الزبون على الأرض متشظية و بدا لبّها الأبيض المزهر علّق الزبون ( قال حمراء قال ) ثم رحل .
لويت عنقي صوب باب المنزل منسحبا لاعنا البطيخ والسكاكين والسيوف و(الشنتيانات ) والنساء : تنعم بالظل وترسلني إلى الأخطار : أقلها ضربة شمس و بعضها ضربة سكين ...
فاجأني صوت البائع و كأنه يراني للمرة الأولى ...
- أهلا أستاذ ...أمر
تظاهرت بإبعادي لبقايا البطيخ بعيدا عن منتصف الزقاق ، وقلت دون النظر إليه :
- بطيخة على ذوقك
تكرم ... عجبك هذا الفلم ، يأتينا كل زبون وفي يقينه أننا نمتلك معمل بطيخ ، نصنع و نغش ، هل أنا بقلبها يا أستاذ ، هذه خلقة الله ، وهذا حظه ، سبحان موزع الحظوظ .
هززت رأسي تعبيرا عن التضامن ، بينما راح يطبطب على واحدة انتقاها و ضغطها بالقرب من أذنه ، ثم وزنها ...
- شو ما عرفتني أستاذ ؟! أنا أبو شاكر !! بياع المازوت .
فخطرت لي زوجتي و دمدمتها على المازوت الذي يطقطق طيلة الشتاء في المدفأة منذرا
بانفجار قادم ، وتذكرت رؤيتي للبغل سابقا ...
- أين السكين ؟!..
جفلت ، و أصريت على الاكتفاء بحظي مغلقا ،وبالغ أبو شاكر بإكرامي عبر شقها طوليا ،
موجها إلي الفتحة ضاغطا على الجانبين ليتيح لي الرؤية .
كنت أتعمد ألا أثير غضبه ، و انفد ببطيختي دون مشاكل :
- ممتازة
مددت يدي أتناولها ، و الأخرى انقده حقه ؛ بينما أخذ المبلغ ، و احتفظ بالبطيخة لينظر إليها :
- لا..لا.. ليست جيدة سأبدلها
- يا أبا شاكر ، إنها جيدة .. يقولون أن البطيخ الزهر حلو المذاق .
أقسم وهو يرفع خنجره أمام أنفه :
- والله لن أعطيك إلا واحدة حمراء لو فتحت الكوم كله ..
قلت في نفسي : حظي وأعرفه .. ألم تعترف بتقسيم الحظوظ ؟ .. في الوظيفة بطيختي صفراء ، و مع زوجتي زهرية ، و مع أصدقائي لا لون لها ، سبحان الله .. لن تراني مع بطيخة حمراء أبدا ..
و شهر سيفه على واحدة أخرى
- يا أبا شاكر ، أنا أريدها هكذا تماما ...
لاحظت تردده و ارتباكه ، فظننته اقتنع معي ، لكن سرعان ما تسللت الدهشة إلى عينيه
المتسائلتين ثم قرر :
- لن أحاسبك إلا عما تأخذ ..
و لم يكتف بشق البطيخة الثانية بل أخرج منها مستطيلا ، و كانت زهرية ، فوضعها جانبا
يبحث عن ثالثة ... ألمحت له : لن ترى واحدة حمراء .
علا صوته ممطوطا : كأنك تقول بضاعتي فاسدة .
نفيت كلامه : بعضهم حظه في فمه و بعضهم في أماكن أخرى ، ثم يا أخي أنا أحب
الزهر .. أريدها زهرية
- ( شو أستاذ ؟.. نحنا مو مسخرة )
أدركت المطب الذي علقت به فسارعت للخلاص
- كما تريد .. تصرف على راحتك ، أنت تعرف الحر الشديد وال..
ورفع (شنتيانته) يهز رأسه :
- ( شو هالعالم ) ؟!
- أعطني واحدة سليمة ، لن آكلها فورا ، سأتركها في البراد ...
كأن جملتي الأخيرة كانت بمثابة حبل الخلاص ، فأقلع عن الكسر وقذف لي بطيخة لا على
التعيين بينما تشاغل بلملمة بضاعته ، ناولته النقود ثانية ، وضع الثمن في جيبه ، ثم راح
ينادي : عالمكسر يا بطيخ .
عندما دخلت المنزل ، رميت البطيخة في صفيحة القمامة ، درءا لحوار طويل قادم .. و في الغرفة كانت زوجتي تجلس تحت النافذة مع نفس الابتسامة الباردة ، فسارعت أتصفح كتابا و دمدمت : البطيخ سيئ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ


.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت




.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر